قضايا
توفيق السيف: حول الثقافة السياسية

«الثقافة السياسية» فرع من علم السياسة جديد نسبياً. وهو ينطلق من سؤال: كيف ينظر الجمهور إلى السلطة السياسية وكيف يفكر فيها ويتعامل معها؟ وبسبب حداثته، فهو لا يزال غير محدد الأطراف؛ إذ يتداخل مع علم الاجتماع في نواحٍ، ومع علم النفس في نواحٍ أخرى. وللسبب نفسه، فإن الباحثين الذين يشار إليهم بصفتهم مختصين في هذا الحقل بالمعنى الدقيق قلةٌ نادرة. وقد وجدت بعض الكتابات التي تخلط بينه وبين «الوعي السياسي»، أو بينه وبين «المعرفة السياسية» في معناها العام؛ الأمر الذي يجعله مشوشاً وقليل الجاذبية.
ما الذي يجعل هذا الحقل مثيراً للاهتمام؟
يرجع اهتمامي بهذا الموضوع إلى زمن بعيد، حين بدأتُ التفكير في الأسباب التي جعلت مجتمعات بعينها أفضلَ تقبلاً للآراء الجديدة، وأكبر ليناً في التعامل مع أصحابها حتى لو ذهبوا بعيداً جداً في اختلافهم مع التيار العام. كانت بداية تعليمي في مدارس دينية، فترسخ في ذهني أن العالم قِسمةٌ بين المؤمنين بالأديان والمعارضين لهم. خُيّل إليّ يومئذ أن كل خلاف على أمور الدنيا مرجعه اختلاف العقيدة. لكن سرعان ما اتضح لي أن الخلاف في العقيدة واحد من العوامل، وليس أقواها ولا أشدها تأثيراً. رأيت أشخاصاً مؤمنين بالماركسية وهم - في الوقت عينه - أصدقاء لرجال دين، ولطالما سمعتهم يخوضون نقاشات ساخنة من دون أن يفترقوا أو تذهب المودة من بينهم.
ثم لفت نظري أن مجتمعات مختلفة، تعتنق الدين والمذهب نفسه، لكنها تتعامل مع السياسة بطرق متباينة: هذه تتفاعل معها وتسعى لخلق نقاط اتصال مع رجال السياسة، وتلك تميل إلى اعتزالها وترتاب في من يطرق أبوابها أو يعمل في دوائرها.
في مطلع القرن العشرين، ساد اعتقاد بين دارسي نظرية التنمية فحواه أن كل مجتمع سيتقبل الحداثة فور تعرضه لتأثيرها. وتراوحت مبررات هذا الاعتقاد بين القول بعقلانية الإنسان وأنه يتقبل كل ما يراه نافعاً لحياته، والقول بأن المعتقدات التقليدية ليست قوية بما يكفي لإعاقة تقدم الحداثة. لكن التجربة الفعلية في بلدان كثيرة؛ من اليابان إلى الصين وإيران ومصر وتركيا وجنوب أوروبا... وصولاً إلى البرازيل، أظهرت أن كلاً من هذه المجتمعات، لديه فهمٌ متمايز لفكرة التقدم والتعامل مع الدولة والسياسة؛ فهمٌ يؤثر على موقفه من مشروع الحداثة وتطبيقاته.
تبعاً لتلك التجارب، توصل الباحثون إلى ما يشبه الإجماع على أن التفكير السياسي لكل مجتمع نتاجٌ لتجربته التاريخية، وأن طريقة التعبير عنه صنيعةٌ لواقعه الراهن، فقد يميل إلى الانفتاح، فيسمح بتعدد الآراء، أو يميل إلى الانغلاق والأحادية.
إنني أتأمل كل يوم تقريباً في ردود الفعل من قبل الجمهور العربي على الحوادث والأخبار؛ طمعاً في التوصل إلى فهم معياري للأرضية الثقافية التي تنبعث منها الأفعال والمواقف وردود الفعل عليها، وتفاعلها مع التحولات الجارية في المحيط، أي مدى تأثرها بتلك التحولات وتأثيرها فيها. ما يهمني في المقام الأول هو أفعال الناس وردود الفعل، وليس أفعال الدولة. وغايتي من هذا هي الإجابة عن السؤال المحوري في حقل «الثقافة السياسية»، أي مدى قابلية المجتمع العربي للمشاركة في الحياة السياسية.
ذكرت في مقالة سابقة أنني أميل إلى التقسيم الثلاثي لـ«الثقافة السياسية» بين: «انعزالية»، و«منفعلة»، و«مشاركة». والواضح أننا الآن في المرحلة الفاصلة بين «الانفعال» و«المشاركة». في مرحلة «الانفعال»، يشعر الجمهور بالتأثير الحاسم للسياسة على حياته، لكنه لا يرى نفسه قادراً على التأثير فيها، فيتلقى تأثيرها من دون رد فعل تقريباً. بينما في المرحلة الأخيرة، يعزز المجتمع وعيه بمستوى من الإيمان (والمعرفة أحياناً) بأن له دوراً يؤديه في الحياة السياسية، وأنه يمكن أن يكون مؤثراً؛ قليلاً أو كثيراً.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي