قضايا
حيدر شوكان: أيّ قراءة ُنريدُ لشبابنا؟.. نحو وعي داخليَّ

ليس من السهل، بالنسبة لي على الأقل، الوقوف على الدوافع التي تجعل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق وللعام الثاني (2023 و2025)، تختار كتب مالك بن نبي لتكون مشروعًا رسميًا للقراءة. ولا ريب أنّ مالك بن نبي يعدّ أحد الأسماء المؤسسة في الفكر النهضوي العربي- الإسلامي، بما اكتنزه من أطروحات إشكالية حول الحضارة وشروط النهوض وطرق تجاوز مراوغات الاستعمار. غير أنّ الإلحاح على استحضار تجربته التي تحمل رهاناتها الجزائرية وتموضعاتها وحاجاتها وأسمائها يفتح الباب أمام تساؤلات جدّية حول طبيعة الرؤية المعرفية التي تتحكم في مثل هذه الاختيارات، ومدى انفتاحها على الحاجات الثقافية والفكرية الفعلية للواقع العراقي الراهن ودلالاته.
إنّ فعل القراءة في جوهره، لا يقوم على الاستهلاك الرمزي للنصوص ولا على تكرار النماذج الوافدة، وإنَّما يقوم على الحوار النقدي الخلاق مع الذات والتاريخ والمعاصرة. ومن ثَّم فإنّ الاقتصار على تجربة فكرية خارجية- مهما كانت قيمتها وعمقها- قد يؤدي إلى تجميد الأفق النقدي وتأملاته، وإلى تحويل القراءة إلى طقس مؤسساتي جاف فاقد للفاعلية، بدل أن تكون أداة لإعادة صياغة الوعي الفردي والجماعي.
العراق نفسه يزخر، في تاريخه القريب والمعاصر، بأسماء فكرية وفلسفية وعلمية مهمة، أنجزت مشاريع رصينة انبثقت من الطين العراقي، وتعاملت مباشرة مع أسئلته التاريخية والحضارية والاجتماعية والنفسية. ويكفي أنّ نشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى علي الوردي الذي أسّس لعلم اجتماع نقدي يقرأ بنية المجتمع العراقي في ضوء التوترات التاريخية والثقافية، ويحيى محمد الذي انشغل بإعادة مساءلة بنية العقل الديني ضمن مشروعه النقدي في نظم التراث وعلم الطريقة(النظام المعياري-النظام الوجودي- النظام الواقعي) إضافة إلى مقارباته الهامة في (صخرة الإيمان، أو جدليات نظرية التطور)، وعبد الجبار الرفاعي الذي يعمل على بلورة لاهوت إنساني يتجاوز الانغلاق المذهبي، وعبد الأمير زاهد الذي قدّم قراءات معمّقة في الفكر الديني والسياسي، وماجد الغرباوي الذي فتح آفاقًا نقدية صارمة وحرجة في حقل الدراسات الإسلامية وتطبيقاتها، وفالح عبد الجبار الذي أعاد بناء مقاربة سوسيولوجية متينة للمجتمع والدولة في العراق، وناجح المعموري الذي اشتغل على الأنثروبولوجيا الثقافية بوعي نقدي جديد.
إنّ إعادة الاعتبار لمثل هذه الأسماء ومشاريعها، بما تحمله من تأملات فكرية متنوّعة، لا تمثّل مجرّد فعل اعتراف محلي أو وفاء قومي، بل تؤشّر إلى ضرورة تأسيس مشروع قراءة حيّ يتغذّى من الداخل، ويعيد إلى الجيل الجديد علاقته العضوية بالمفكرين الذين يكتبون بلغته، ويتنفسون همومه، وينخرطون مباشرة في أسئلته التاريخية. ذلك أنّ الفكر ينمو في سياق تفاعل جدلي بين الذات وواقعها، بين النصوص وأسئلة التاريخ.
إنّ الجامعة العراقية، إذا أرادت أنَّ تكون فضاءً نقديًا ومعرفيًا فاعلًا، فإنَّها مطالبة بفتح أبوابها لهذه التجارب العراقية وارشيفاتها المتنوعة، وإعادة إدراجها في الذاكرة الفكرية للأجيال، بدل أنَّ تكتفي بإعادة تجارب الآخرين. فالسؤال الذي ينبغي أنَّ نضعه اليوم بإلحاح هو: أيّ قراءة نريد لشبابنا؟ قراءة تعيد إنتاج الرموز وتحوّلها إلى أيقونات جامدة، أم قراءة حية وفاعلة ونقدية، تفتح النصوص على أسئلة الذات والتاريخ والواقع والمستقبل؟
وهنا ينبغي لنا الإنصاف والإشادة الحقيقية بأصل المسألة أو بأصل الفكرة وهي خطوة القراءة وتشجيعها التي ترعاها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وترصد لها مبالغ مجزية تحفز الشباب العراقي على القراءة. بل إن بعض الجامعات، كجامعة بابل- مثلًا-، تكلف ضفيرة من خيرة أساتذتها من أجلّ شرح هذه الكتابات وتبسيطها للطلاب لدفعهم نحو المشاركة.
رؤيتنا بإيجاز تقول: إن الخيار في الكتب المستهدفة، أو المشاريع المستهدفة ينبغي أنَّ يصوب إلى الواقع العراقي ورجاله وعلمائه ومفكّريه، فهم الأقرب إلى العقل العراقي الشاب والأجدر بالتكريم.
***
أ. م. د. حيدر شوكان سعيد
قسم الفقه وأصوله- كلية العلوم الإسلاميَّة- جامعة بابل.