قضايا
مصطفى غلمان: عالم يتقدم بسُرعة نحو نهايته.. الصورة الجديدة لطبقية مُتوحشة

ثمة ما يدعونا اليوم إلى إعادة تأطير إدراكاتنا الداخلية للأشياء المشاهدة، حيث نكتشف بشكل درامي تشكيكنا في رؤيتنا تلك، من خلال تأكيدها واقعا، على حدود نظرتنا المستبطنة غير المشروطة. ذلك أن استبعادنا لنموذج الدور السائد لكل ما هو بصري، كأساس جمالي وأخلاقي يطرح سؤال "الدريعة" في علاقتها المتشابكة بين الذات والعالم، تصبح محطة لاكتشاف تدريجي وحالة استحضار للأشياء والعلامات المرموزة.
هذا الموقف النقدي غير التقليدي، ينبثق عن فهم آخر لعالم يتقدم بسرعة نحو نهايته، بما هو انعكاس لباطن مأمول، يتحدى كل مفارقات المرئي/ المشاهد بعيون خالصة، ويسترعي انتباه الماوراء، على خلفية استقراء ينصت إلى الداخل، ولا يتورع في مراقبة التعبيرات المحايدة المجردة من حيلها الجمالية والعاطفية، المستقوية بانتظاراتها المحدودة والمتعالية عن كل اقتصاد زمني مقيد.
فيما مضى، كنت معتادا على استحضار الوحدة العظيمة التي يسميها ريلكه ب"الكل"، والتي يقترح فيها، أنه بما أن مواد الكون ليست سوى مؤشرات لترددات مختلفة، فإن النشاط الروحي البشري قد ينتج أجساما ومعادن وسُدما وأبراجا جديدة. لكن، سرعان ما أضحت هذه التعالقات، مرهونة بوضعيات نفسية وثقافية جديدة، تستوسع من فرائد الأدوات العلمية والمنهجية المستحدثة، التي تهدف إلى توسيع مجال الرؤية، ليس بالضرورة أن يكون بصرا، ولكن بالمعنى المجرد للرؤية التي تمثل شفافية خادعة للعقل.
العالم اليوم، في حاجة إلى ابتداع نهج أكثر واقعية، يُحشد فيها جميع الموارد الحسية بشكل متناسق وغير مختل، يتماشى مع المشروع الفلسفي لقيمة الوجود وإنسانية الإنسان، ويحاكي بشكل مثير للاهتمام خطابا فيه من العدل والمساواة والتكافل ما يستبين قوة العلم واستباق المعرفة ونفوذها وعظم التأثير في التحضر وأساليب الحياة والعيش المشترك.
وفي صور الحياة اليومية البسيطة، تتمايز الأنماط والفوارق الاجتماعية والطبقية حد القطيعة، وتنمو بأشكال وابتذالات خادشة غير مألوفة، إذ تصير الصورة في ترجمتها للمنظور الاجتماعي، جزءا من ذاك "الكل"، الذي يؤشر على اتساع الهوة واختزال المجال الحيوي للبشر، بما هو مقيد ومحدود، أو مخالف للنسق الطبيعي المأمول.
يعيق هذا التشرذم الراهن المرئي/المشاهد، بما يشبه تقطيعا فارقا بين الحقيقة والواقع، فيتحول المفهوم الطبقي هنا، إلى فعل نقض لمعايير التحديد الدقيقة بإزاء مجتمع يتغير باستمرار، بعيدا عن تأويل مفهوم الطبقية لدى ماركس، الذي يحدد العلاقة ذاتها بوجود علاقات إنتاجية بين الفرد ووسائل الإنتاج. كما لو أننا نريد استثمار صورة بدهية في مجتمع لا منتج، متروك لفريسة الأدوات الإنتاجية، ويستعصي على الرؤية من الداخل، كما ويحتاج إلى إعادة هدم شامل وتدوير استراتيجي قبل البناء؟.
في المنظور الثاوي ل"الطبقة" نستخدمها في أبحاثنا كإحدى أهم الوسائل الأساسية لتنظيم المجتمع بشكل تقسيمات هرمية. تبرز في نسقيات وتداولات المجتمع الرأسمالي كوحدة أو ككتلة في التسلسل الهرمي للسلطة، مع ما يمثل امتدادها وتوسعها، من أهمية في مركزية الفرد، خصوصا فيما يتعلق بالثروة والدخل كمؤشرات لموقع الفرد في السلم الاجتماعي.
هل يسترد الفرد في "الطبقية الجديدة" دوره المحرك في ديناميكا السلم الاجتماعي، بعيدا عن استعراضات المتقابلات الاجتماعية المعنية بهذا التموقع؟. في مقابل هذا التوجه، يقدم بيير بورديو مفهوما سوسيولوجيا متحولا يرهن رأس المال البشري، لقضم تغول وتوحش رأس المال الاقتصادي، بعيدا عن تشكيل السيولات المالية المؤمنة كملكية خاصة، إلى ما يشبه رأس المال الأخرى المؤسسة ثقافيًا، والتي أسماها بورديو ب" رأس المال الثقافي الشخصي" كالتعليم الرسمي والمعرفة، ورأس المال الثقافي الموضوعي كالكتب والفن، ورأس المال الثقافي المؤسسي كالتكريمات والألقاب.
عل هذه الصورة المحنطة لتطور "الطبقية" تستوحش الظفر بما ينماز عليها، في ظرفية تكنولوجية ومعلوماتية فارقة، لترتد إلى أبصار خارج الرؤى المحذورة، المتقوقعة حول أشكالها المكرورة والمنمطة، مستعيدة حلمها الإنساني والرحمي، الذي افترسته الكمبرادورية المتمنطقة المنبعثة، التي تجعل من كل الشعوب والأقوام المستضعفة، ضحايا الطبقية المتوحشة في لباسها الجديد وروحها المنفلتة.
***
د. مصـطـفــى غَـــلمـان