قضايا
سامي عبد العال: صوت فيروز.. الفناء والبقاء

بعضُ الأصوات لا تُمحى ولا تتلاشى وسط ضجيج الحياة، ذلك لكونها تأـخذُك أبعد مما أنت فيه. أصوات تفتح صفحةً جديدةً من الذاكرة، أي تُجدد عدم قدرتنا على النسيان. ربما تمثل وسيطاً مدهشاً بين" الجمال والقُوة والرَهَافة ". إذْ ينصهر الايقاع الثلاثي في بوتقة الفكر والمعنى، لأنّ هناك أصواتاً تتشارك معك فيما تفكر فيه وأخرى تحضُك على التنقيب فيما لا تراه. صوت فيروز مُعلّق في هذا الجدار العازل المُسمى بالامتناع على المحو. والأصوات داخل مسارٍ كهذا تقف ضد الطابع المؤقت للأشياء، تتوحد بمعايير معانِدة لمُرور الزمن، هي على موعد مع التأجيل، على موعد مع البقاء.
فيروز قنينةُ عطرٍ تعبقُ بروائح جمالية فوّاحة. تبدو كعلامةٍ ابداعٍ مميز دون شيء آخر، فهي أحد مصادر "الثقافة الوجدانية" بحكم أنَّ الغناء سجلٌّ آخر لتاريخ البشر. ثمة رهطٌ من الفنانين- وهم الأغلب- يكتسبون الشهرة من ألقابٍ مجاورةٍ لأسمائهم ماعدا فيروز. ولو اكتفينا بصوتها في وقتٍ ما (يوم- أسبوع- شهر)، فلربما لا يتطلع المتلقي إلى أكثر من ذلك. الاكتفاء في مجالات الفن لا يعني التشبُع، ولكنه لون من طلب المزيد. اليوم يصبحُ أياماً، الأسبوع يمتدُ أسابيع، الشهر يغدو شُهوراً. بل قد تتفتح الأزمنة مع الأنغام الموسيقية وتتواصل حركة التفكير، لأنّ صوت فيروز يمثل دعوة للتأمل والنظر تجاه العالم. ويكشف لنا أشياء كنا نألفها يوماً ما، ولكننا سندركها لأول مرةٍ كما لو لم نعرفها من قبل!!
أصداء الصوت
تتميز أغاني فيروز بتردد الأصداء على خلفية صوتها المختلف. نسيج الصوت ذاته غير قابل لأنْ يُقاس على غيره، لأنّه فائض بالمعاني الناجمة عن حياة الإنسان وعلاقاته الوجودية. أجل .. ثمة أصوات بلا معنى حين ينعدم الاختلاف. لكن الصوت الفيروزي تراثي بالضرورة، ليس موجوداَ بالمصادفة. إنه مثقل بأشياءٍ حدثت منذ فترة ويُعاد قولها بصورة مكثفة ومؤرشفة. صوت يكتب الأشياء، ينحت الدلالات لا يرفع نبراته فقط. نغمٌ معبر عن شكل من أشكال الزمن كأنّه آتٍ منذ عصورٍ بعيدةٍ. كأنّ فيروز ليست ابنةَ القرن العشرين ولا هي السيدة التي نعرفها كهيئة إنسانية على قدر ما نراها، لكنها حضرت إلينا من مقتبل التاريخ. يعبر صوتُها عن ألوان من المشاعر المتراكمة والتي لا تحضُر من تلقاء نفسها.
اتصالاً بفكرة الظاهرة، ربما ليست فيروز مطربةً بصيغة الافراد. لأنّها لا تُغني وفقاً لرغبات داخل جدران الفرد حصراً. ولا تشدو بصوتها لاشباع الاحاسيس المحدودة، إنّما تدفعك إلى البحث عن أصالةٍ ما في المكان والزمان والحياة. تبدو لك عالماً خاصاً من الأنغام والجُمل الموسيقية والايقاع والأنات .. الواحدة تلو الأخرى. إذْ ذاك تتكون جماليات الموسيقى، وتنتشل المستمع من واقعٍ مَا غير مُحتملٍّ إلى احتمال أي واقع آخر. مهمة الفن هي أن تحتمل عن طريقه وطأة الأشياء والعالم الذي مللنا مقابلته، وتوسع قدرتنا على الاستيعاب والشعور بالبراح. كلُّ موسيقي حقيقة ترسم فضاءً من رصيد الاحتمال، وفوق ذلك تبقى الموسيقى في الخلفية كأنَّها معزُوفة لتلبية احتياجنا إليها دون سواها. هي طريق ممتد لسبر أغوار ما لم يُكتشف بعد وقد مرّت بتواريخ وحيوات شتى.
الطابع الشخصي لدي صوت فيروز ذو أطياف كونية على أقل تقدير. تكاد دلالة الايقاع بجانب الكلمات تلامس لغزاً من ألغاز الطبيعة، تطرُق بُعداً مجهولاً من أبعاد الحياة التي عايشناها مع آخرين. تستدعي دلالة الصوت ما يقول: صوت فيروز هو نسمات الصباح، صوت فيروز هو هديل المساء، صوت فيروز هو طيف الغروب، صوت فيروز هو نجمات الليل. ومرات تالية: صوت فيروز هو أشكال التجلي والتفتح: أغاني الربيع، أشجان الخريف، هدير الشتاء، اجواء الصيف. ومرات أخرى: صوت فيروز هو جداول المياه، هو أنفاس المروج، هو مهابة الجبال وروائح الوديان. صوت هو عواصف السفوح ورزاز البحر، صوت هو إيماءات السحب وزخات المطر. وثقافياً، صوت فيروز هو صوت الذكريات الحميمة والبيوت العتيقة والممرات الأثرية وزوايا العلاقات الحميمة وجماليات المكان وزوايا الحنين وضيعات الحب والأمل. حيث تتضافر (المشاعر– العواطف) في جمل موسيقية مصحوبة بالأنات العذبة.
بجانب هذا، تختلف الحالة الفيروزية من أغنيةٍ إلى أخرى.أقصد خاصية التنوع الثري في الأغاني من موضوعات إلى سواها. لأنَّ كل اغنية صحيح هي بصوت فيروز نفسها، بيد أنَّها تفتح باباً أمام حالات من المعاني. إنَّ الشعور بالجميل يندمجُ مع الشعور بالجليل. كلاهما يصنع فضاءً ساحراً من الشجن الداعي لتقريب الرؤى والأفكار. ليست المفردات والجُمل الموسيقية مواداً ملموسة هي ما تشكل آفاق المعنى الموسيقي. ولكن هناك رموزاً أخرى بين الطبيعة البكر وحالة من التناغم الوجودي/ الإنساني معاً. وتلك طاقات الصوت القادرة على استحضار المعاني مثلما لم تأتِ سلفاً.
النغم يفكر
ربما- للمرة الأولى- في تاريخ الغناء يُكوّن صوت المطرب الفرد ظاهرةً مركبةً. لأنَّ الظواهر عادةً-أية ظاهرة بحكم التعريف- قد تأتي بشكل جمعي في مجتمعاتنا الإنسانية. لكن أنْ يكون الصوت هكذا: بصيغة الجمع، فذلك أمرٌ يدعونا إلى التقصي والتعجب في الوقت نفسه. رُبَّ صوت لفيروز لا يدع فرصة لمركزية التفكير والاحساس بالعالم. إنه يشتت استحواذك، يفك حصارك الذاتي لصالح تنوع النغم أينما وُجد. كذلك لا تترك فيروز المستمع ينجذبُ إلى قطب عاطفي أحادي، هي تدفعك لالتقاط الجمال الآتي من أي مكان، أي تضعك في مساحة حرة لألتقاط النغم الخارج من اللامكان.
إذا كان النغم أصيلاً وممتعاً، فإنه يأتي مؤتلفاً من تردد أصواتٍ لا صوت مفرد، يتحقق التردد بانصهار المشاعر والحواس والأفكار في بوتقة واحدةٍ. السمات العامة لصوت فيروز ومحتوى الاغاني تعطيها مستويات من التميز. مستويات لا تُكتشف دفعةً تامة ولا بشكل مباشر. صوت فيروز صوت متدرج الأبعاد، متدرج الطباق، متدرج النغمات، لا يعطيك أسراره من أول وهلة. الأساس أنه يأخذ عواطفك تدريجياً في رحلة بلا توقف. وفي كل ذلك، يناشد في المتلقي إثارة الخيال والإحساس. داخل الصوت الفيروزي لا فاصل بين الخيال والحس. الحس يتخيل والخيال يتجسد رامياً إلى آفاقه المميزة. أنه يشدو كلماته بخلفية فلسفية لا تخطئها العقول.
في أغنية (اعطني الناى وغنّ) على سبيل التوضيح، تنصهر كلمات جبران خليل جبران مع صوت فيروز تعبيراً عن معاني الوجود في درجاته القصوى. "القول والنغم والصوت" علامات دالة بفحوى الحالة الموسيقية. ليس الناي أداةً، ولكنه كلمات موسيقية. وليس الصوت مساحة من الهواء الخارج لتوّه من حنجرة فيروز. وليس النغم خلفية ثابته، لأنَّ كل ذلك هو سيرورة حضور الوجود بالفعل. إننا لا نتمكن من معاينة الوجود في إيقاعه الكوني على ما يبدو. ولكن الأغنية تستحضره، ترسمه، تدخلنا وجوداً نحن نتتظره ونترقبه في اللحظة والتو.
كلمات الاغنية مقتبسة من أبيات جبران في (قصيدة المواكب). والاقتباس ذاهب مباشرةً إلى العلاقة بين أداة الغناء والصوت والوجود. وهي مفردات تضع الصوت موضعَ السر الرابط بين الإنسان والوجود. وكأنَّ فيروز هي منْ تقوم بهذه المهمة، لعلَّ دلالات الاغنية تسري مع امتداد الصوت كإشارة إلى أن الاغنية تواصل المعنى الموجود من بعيدٍ حتى الآن. إنَّ خط الزمن هو خط الصوت، الاثنان يتهاديان داخل بعضهما البعض وقد عبّرت فيروز عنهما بأدق تعبير على نحو هاديء وقوي في الوقت نفسه.
خلال البُرهة التي تُردد فيروز عبرها كلمة (اعطني)، يتحول الصوت إلى نغم كأنه خارج من الناي. هذا الشدو الرزين. تحاول الكلمات رتق المسافات بين المعاني لتعطي المستمع قدرةَ استحضار الوجود. لأنَّ الوجود ليس شيئاً مادياً، إنه عملية معقدة كامنة في آلية الاستحضار. والاستحضار عمل إنساني لتجسيد المعاني والأفكار والعواطف كأنَّها معطاة لنا وجهاً لوجه.
أعطني الناي وغنِّ .. فالغناء سر الوجود ..
وأنين الناي يبقى.. بعد أن يفنى الوجود ..
العطاء هو الأساس بالنسبة للإنسانية وإزاء الوجود جنباً إلى جنبٍ. فالغناء يعطي المستمع نفسه في الوقت الذي يعطينا الوجود أسراره. الغناء بما هو قيمة ضافية معطى بلا مقابل. ويتميز بدلالة الهبة التي لا ترد. أن تغني- بإطاره العام- يعني أنك ستهب الآخرين شيئاً ذا قيمة. ولذلك نحن لا نبالي بالمقابل حين نغني ولا حين نسمع الغناء. إن إثارة الذائقة هي المغزى من وراء النغم. أنْ تتذوق هو ما يعطيك رشفة متفردة من الأنغام الساحرة.
الأمر نفسه إزاء الوجود، فالوجود هو المعطى للبشر كهبةٍ. يقول محي الدين بن عربي: "لو لا الجُود ما كان الوجود". لأن الأخير يوجد هكذا بلا مقابل من الله. حتى أن مارتن هيدجر قال إنه ليس على الانسان التساؤل حول مصدر الوجود، لكن ينبغي رعايته وحسب. والرعاية هي اشعال عواطف البشر واهتمامهم تجاه المسمى بالوجود. أي السهر على الوجود حين يأتي وحين يروح طي الزمن. ولذلك أثار مارتن هيدجر سؤال (نسيان الوجود) لا التساؤل حول سبب وجوده. لأنَّ سؤال السبب سؤال لاهوتي، بينما نحن البشر نريد سؤالاً إنسانياً.
الوجود والخلود
لنرى الآن: كيف يحتفي صوت فيروز بالوجود والخلود، إذ يقرنهما بالغناء. وبخاصة أن الغناء هو النغم المعبر عن سر الوجود في هذا السياق. ذلك أن الكلمة هي أساس الموجودات بلغة المسيحية (في البدء كان الكلمة). والأغنية مثل قصيدة جبران خليل جبران مكتوبة بلغة صوفية تكاد تشف المعاني كأنها قوارير من أنوار.
اعطني النايَ وغنِّ .. فالغناء سر الخلود ..
وأنين الناي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود ..
إنّ تكرار الشطر الشعري يُؤكد الوجود كعطاء إذْ يبرهن عليه الغناء الذي هو سر الخلود بعد ما كان سرَ الوجود. وصوت الناي سيبقى، بحكم كونه أصلاً في المسألة، حتى أنَّ الأنين يظل سارياً بينما يتلاشي ما دونه. ورغم أنّ وجوداً ما سيفنى إلاّ أنّ آثاره الصوتية تظل باقيةً. تبرز فيروز هذا المعنى مع إطلاق الكلمات ومواصلة الغناء.
هاهنا يواصل السر حضوره، لأنَّ الوجود يفني في ذاته مقارنةً بالغناء. وأنين الصوت يجري بهذا المعنى، لكونه صوتاً خالداً أشبه بالصوت المقدس هو الآخر تحت ظلال الفكرة الدينية. ورغم أنَّ الأنين لا تُوجد له- في العادة- معالم شكلية، إلاَّ أنه يُشعرك بحضور شيء ما لم يكن واضحاً. أي أن الأنين يستحضر وجوداً لا يتحقق مباشرة. والدليل كونه وجوداً فانياً في مغزاه النهائي. خلال المقطع الأول كان الغناء سراً للوجود، ثم سرعان ما كان انين الناي هو الأبد، أي سر الخلود.
هل إتخذتَ الغابَ مثلي.. منزلاً دونَ القصور ..
فتتبّعتَ السواقي.. و تسلّقتَ الصخور؟ ..
يجوب صوت فيروز كرحالةٍ جوانب الحياة بإختلاف أنماطها الطبيعية. كما لو كان الصوت هو الرحلة واسعة الآفاق. يأخذك الى حيث يريد حقيقةً لا مجازاً. الصدق الفني يكلل النبر بما تقوله الأغنية ساعياً إلى المشاعر قبل الآذان. وتلجأ الكلمات إلى الاستفهام الذي يرشق عقل المستمع في حاشية موضوعه. فالغاب هو المكان البكر بكارة الوجود، والاحساس النغمي لفيروز ينضو عن مستمعيه كل تراكمات الزمن وطباق الحداثة التي زجت بنا في منازل مصطنعة ومدن بلا قلب بعبارة الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي. لعلّ اخطر ما فعلته حياتنا المعاصرة هو حجب الوجود كما هو. حجب جذور الحياة الطبيعية التي أتينا منها وإليها.
كأنّ الصوت يتجول بالفعل بين أجمات الأشجار في الغابات. ويُقلّب الإنسان الاغصان والأوراق ويلامس طين الأرض بباطن قدميه. هذا الاحساس الأولي السابق للتاريخ يقع مع الصوت كأنه يحدث مراراً. ونكاد نرى محاولات الإنسان لتسلق الصخور وقمم الجبال مع وعورة المنحدرات والوديان.
هل تحمّمتَ بعطرٍ .. و تنشّفتَ بنور ..
وشرِبتَ الفجر خمراً .. في كؤوسٍ من أثير؟ ..
العطر هو عطر أطياف الوجود ولا شيء آخر. مجرد أن تلامس الأرض فقد تعطرت بأنفاس الطبيعة. حيث الروائح الحيّة والنور الطبيعي الذي يغطي وجه الحياة في أي مكان. التحمم بالعطر هو الانغمار بروائح وعبق الأشياء. وشرب الفجر بمثابة العيش المدهش. فالفجر رمز الباكورة والنقاء والحقيقة ونضارة الطبيعة. إنه يُسكر من يعيشة بنسمات الصباح والإحساس الخالص بكون الزمن لم يتلوث بعد. وفي الفجر تتنفس الطبيعة بكل ما هو حي كما جاء بالقرآن الكريم (.. والصبحِ إذا تنّفس). فمع الصباح تصطخب الكائنات وتتحرك بحثاً عن التفتح.
أعطني الناي وغنّ.. فالغناء خير صلاة ..
وأنين الناي يبقى.. بعد أن تفنى الحياة ..
باستمرار تؤكد فيروز ضرورة طلب الغناء وسماع الناي. فالغناء يبدو نوعاً آخر من الابتهال والخشوع مثلما تعبر الكلمات. وهي الفكرة التي ربطت التراتيل بالمقدس كما جاء في الثقافة المسيحية، حيث الجوقة والموسيقي مع بعض الصلوات والطقوس. في تاريخ بعض الأديان، يعد الرتم من ترتيبات الصلاة، إنه الأداء المُنغم الذي يتيح الانسجام والتوافق. الأمر الذي لا يفصل الغناء عن ممارسة بعض العبادات والطقوس. وهنا تبلغ فيروز قدرتها الفنية على خلق حالة من الشجن مع تواصل الغناء.
هل جلستَ العصر مثلي .. بين جفنات العنب ..
والعناقيد تدلّت .. كثريّات الذهب ..
يأخذك الصوت إلى عرض جوانب المشهد. هناك الجلوس وقت العصر بين جفنات العنب. والعنب مادة أولية لصناعة الخمر الذي كان فجراً. وارتباطاً بالوجود، يصبح الفجر رمزاً إلى الصفاء والتحرر. لأنَّ جلوساً في مثل هذا الزمن وتلك النباتات أمر كأنه الجنة، حيث يستمتع الناس بكل ما لذّ وطاب. وتقصد كلمات الأغنية مخاطبتك بضمير المفرد، حتى تتجسد حالة المتعة الكاملة دون منغصات. وهي كشف متواصل لعناصر البهجة والأريحية التي قد نشعر بها غناءً ووجوداً.
هل فرشت العُشبَ ليلاً .. وتلحّفتَ الفضاء ..
زاهداً في ما سيأتي .. ناسياً ما قد مضى؟ ..
في هذا السياق، لا مجال للإنسان سوى افتراش الأرض والتحاف السماء. وجه الأرض يعلوه العشب الأخضر المعبر عن ملمس خاص، حيث رائحة النباتات والأعشاب. والأهم أن ذلك الاحساس يولد لدى البشر نزعة الزهد فيما هو آتٍ، فعلى البشر ألّا يعبأوا بالتكالب على المغانم والمكاسب. لأن ذلك سلوك غير طبيعي من جهة تعكير صفو العيش في هدوء وسلام. كما أنَّ المنافسة على المصالح يحرم البشر من الاحساس بالوجود، الحد الأصلي للعيش في أحضان الطبيعة. أنْ تكون إنساناً هو أنْ تحيا على سجيتك، أنْ تكون طليقاً كالأعشاب البرية لا تحمل ضغينة لأحد ولا تزاحم الكائنات.
حدود الفناء والبقاء
أعطني الناي وغنِّ .. فالغنا عدل القلوب ..
وأنينُ الناي يبقى .. بعد أن تفنى الذنوب ..
يعبر المقطع عن حالة "الانسجام الداخلي" عندما يغني الإنسان. فلم تقل الكلمات إنّ الغناء هو راحة القلوب، ولم تقُل إنّ الغناء بمثابة سكون النفس، ولكنها قالت الغناء "عدل القلوب". والعدل هو الحالة التي يتحقق فيها التوازن الموضوعي رغم المنغصات، إنه حق الحياة بملء المعنى. فالعدل يُوجد بطبيعة الحال في الأشياء والكائنات، لأنَّ هناك ظلماً من طرفٍ ما. والظلم بالقلوب ظلمات، أي تراكم أثقال ينوء بها الإنسان. وقد يكون الإنسان ظالماً لنفسه. بيد أنه حينما يُغني، تنقشع الظلمات ليعود التوازن العادل للقلب، أي يبدو العدل أقرب حالاً يمكننا تحقيقه من هذا الجانب البعيد.
الذنوب قد تزُول نتيجة الرحمة من جانب الإله الخالق، بل ستفنى الخطايا كما يعبر المقطعُ صراحةً. ولكن تقول كلمات جبران إنه لن يستمر هناك شيءٌ إلاّ ّصوت الناي، أي أن الغناء الأصيل هو ما يدعو لتجاوز الذنوب. عكس الفكرة الشائعة بأن الموسيقى هي مزامير الشيطان. فالنظرة الوجودية العميقة توضح كون الناي صوتاً للغفران، نظراً لأنه صوت ينشد الخلاص. بل هي صوت للتداوي من الأسقام. وهو أمر موجود عند الصوفية كذلك. إن الغناء صوت الحقيقة بهذه الدلالة الفيروزية. ومع انسحاب صوت فيروز من المشهد واتساعه وتردد أصدائه البعيدة في الأفق، يشعر المستمع بأنَّ كل شيء قد انتهي، حيث سكون الوجود. الوجود هو الصمت، هو السر المُلغز الذي لم يُستجل غموضه بعد.
أعطني الناي وغنِّ .. وانسَ داءً ودواءً..
إنما الناس سطورٌ.. كُتِبت لكن بماء..
يكمُن السر في هذا النسيان حتى بالنسبة للدواء. قد يعطيك صوت الغناء فرصة لتنسى ما كان. إنه نقطة التلاشي والعبور نحو الآتي. ولكن لا أحد يدرك ذلك، لا أحد يدرك حقيقة ذاته. فالناس ليسوا كائنات خالدة حتى يراكموا وجودهم على ناصية الخلود، ولا هم خارج الزمان كي يناطحوا الوجود رأساً برأس. الناس مسكونون بالفناء، إنَّهم حروف الفناء ذاته. هم مجرد سطور هائمة كتبت بماء. وحتى السطور لم تكن سطوراً بارزةً ولا منحوته من صخور، لكنها خطوطٌ من ماء يذوب في بحر الوجود. والغناء هو الذي ينتشل الناس من الفناء، لأنّه باق بقاء الصوت بعد ما يتلاشى كلُّ شيء.
***
د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة