قضايا
تركي لحسن: عين الرضا وعين السخط

يقول الإمام الشافعي رحمة الله عليه:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تُبدي المساويا
حتى وإن كان الإمام الشافعي يقصد حالات فردية إلا أنه يُشخص ظاهرة اجتماعية ذات جذور ثقافية في مجتمعاتنا العربية، وهو الذي حدث له ما حدث مع الخليفة هارون الرشيد حين كاد أن يَقطع عنقه لو لا لطف الله. فالظاهرة الاجتماعية التي شخصها الإمام منذ العصر العباسي الأول، لازلت قوانينها تحكم مجتمعاتنا إلى حدّ الساعة.
نحن مجتمعات تجنح إلى الحكم على الأشياء بدل فهمها، التحيّز والتطّرف طبع متجذر في ثقافتنا. إمساك العصى من الوسط هو سمة مميِّزة لمجتمعاتنا، وهو ليس وسطية أو تعقّل، بل تطرّف مزدوج، نُصفق للقاتل ونبكي مع الضحية. فنحن إذا أحببنا نموت متيّمين وإذ كرهنا تحولنا إلى قتلة مجرمين. عين العقل لا وجود لها بيننا، فإما الرضا أو السُخط، نتطرف في كل شيء، نثور كالبراكين لأتفه الأسباب ثم نهدأ كالأطفال بلعبة أو مصاصة. نعمى عن العيوب إذا رضينا، ونُفتش بالمنظار عن السفاسف إذا سخطنا. نثور على أنظمتنا حتى نتحول إلى قتلة وإرهابيين لأجل الخبز، ثم نخضع ونركع تحت اقدام الطغاة حين يجودون علينا بفتاة من الريع.
إن من نحبهم ليسوا ملائكة ولا من نكرههم بشياطين، بل إن حبنا وكرهنا للآخرين محكوم بالظروف والسياقات والأمزجة، فنحن لسنا سوى بشر نخطئ ونصيب. إن مواقفنا تجاه القضايا والأشخاص ليست سوى تعبير عن الزاوية التي ننظر منها إلى كون فسيح بمنظار ضيق ومحدود.
كثيرا ما تُفسر تصرفاتنا الانفعالية تجاه بعض الناس أو في مواقف معينة، على أنها نابعة من طبيعتنا العاطفية، أي لأننا مجتمعات عاطفية غير عقلانية. وإذا أردنا أن ندقق في هذا المعنى نقول أن كل الأفراد في مجتمعاتنا العربية، أو على الأقل غالبيتهم الساحقة، عاطفيين غير عقلانيين. وهل جميع أفراد المجتمعات المتقدمة عقلانيين وموضوعيين؟ طبعا لا، بل لأنهم محكومون بمؤسسات تُدار بشكل عقلاني، أي بعيداً عن أمزجة وأهواء الحكام والقادة.
الطبيعة الانفعالية في مجتمعاتنا العربية ليست ذات أصل جيني أو عرقي، بل هي طبيعة ثقافية، يتشرّبها الأفراد من بيئاتهم الاجتماعية ويتلقونها من قيمهم الثقافية. لم تنجح المجتمعات الغربية في تحقيق التقدم وتكريس الديمقراطية لأن الأفراد في تلك المجتمعات وصلوا إلى مستوى من الوعي مكّن مجتمعاتهم من التفوق والنجاح، بل لأنهم استطاعوا الوصول إلى صيغ حكم أفرزت مؤسسات فوق الأفراد والأشخاص. يشعر الفرد في تلك المجتمعات أنه مهما امتلك من جاه أو مال أو سلطان فإنه لن يستطيع التعدي على القانون ولا المساس بهيبة وسلطة المؤسسات بشتى أشكالها وأنواعها.
كانت بداية الاستبداد في مجتمعاتنا العربية، حسب توصيف مالك بن نبي، في معركة صفين، أو تحديدا بعدما استولى الأمويون على السلطة بحدّ السيف. منذ ذلكم الحين والعرب يتجرعون مرارة التسلّط ويذوقون ويلات تجبّر السلاطين وظلم القادة والرؤساء. أصبح الحكم في البلاد العربية، مذ ذاك، رهينة بأيدي أولي الأمر ومن تُوكل إليهم مهام القيادة وتسيير الشأن العام. ترّسخ في اعتقاد الفرد العربي البسيط والمغلوب على أمره، أن حياته ومصيره لعبة في يد من يمتلكون السلطة، فإذا شاءوا جعلوه سعيداً، وإن أرادوا صار شقياً تعيسا.
إن تجبّر الأفراد وطغيانهم، وتعصبهم وتطرفهم في مواقفهم، ليس سوى انعكاساً لجبروت الحكام واستبدادهم. فحين يشعر الأفراد أن السلطة ليست مؤسسات فوق الجميع، بل قوانين بيد اشخاص تميل حيث مالت مصالحهم، يصبح من المستحيل أن يكون العقل هو قائدا لسلوك هؤلاء الأفراد وموّجها لأفعالهم ومؤطراً لمواقفهم. فكيف نطالب الناس أن يكونوا عقلانيين في أحكامهم وتصرفاتهم وهم يرون أن الشأن العام يُدار بالأهواء والعواطف والأمزجة؟ كيف نريد من الناس أن يكونوا متّزنين وأن يتجنبوا الأحكام المطلقة وهم يرون أن من يرأسهم ويقودهم يُصدر في حقهم أحكاما تعسفية ويعاملهم بأهوائه وانفعالاته لا بعقله وحكمته؟
لن يستقيم الأمر إلا إذا كانت قمة الهرم قدوة لقاعدته في الاستقامة. فالوحي لم يصعد من الأرض إلى السماء، بل نزل من السماء إلى الأرض. ونحن نقصد بالقمة هنا السلطة وليس تراتبية اجتماعية أو طبقية، فكما يقول المثل: "الناس على دين ملوكهم". أما نحن فنريد من الشعب أن يستقيم لكي تستقيم الأنظمة، ونطالبه بأن ينضج ويصبح واعيا لكي يصلح شأن الحكام والرؤساء، وندعم تصورنا هذا بمقولات الطغاة والمستبدين: "كما تكونوا يولىّ عليكم".
في أوقات الحروب والأزمات تتحول الشعوب إلى همج لأنهم باتو يدركون أن القوانين والمؤسسات انعدم جدواها في تلك الفترات ولم تعد قادرة على حمايتهم من بعضهم البعض. فطبيعة البشر ليست صراعية بحتة ولا تراحمية بحتة، بل هي طبيعة متقلبة تحكمها الظروف وتنحت قسماتها الأوضاع السياسية والاقتصادية. لا أريد هنا أن أتبنى نظرية هوبز في تعظيمه للسلطة ولا المقاربة الأناركية التي حاول روادها تقويض الدولة وهدم سلطتها، بقدر ما أريد أن أثبت أن التعّقل والموضوعية هي قيم تنساب من هرم السلطة إلى قاعدتها عبر مؤسسات لا يتحكم فيها الأفراد أو تتأثر بأمزجتهم وميولاتهم.
إذا كنا نفرط في محبتنا وصداقتنا كما نُفرط في عداوتنا فليس لأننا عاطفيين بالطبع والفطرة، بل لأننا نعيش تحت ظل أنظمة سلطوية بُنيت على أسس غير عقلانية، أنظمة كرّست الفرقة والأحقاد، أنظمة رسّخت قيم اللامساواة وشجعّت على التفاوتات غير العادلة بين الأفراد، أنظمة حاربت العقل وأغلقت الطريق أمام العقلاء للوصول إلى سُدة الحكم أو اسداء الرأي والنصح للقادة والحكام. نحن عاطفيون وانفعاليون لأننا تشرّبنا هذه القيم من بيئاتنا غير العقلانية، فهذه البيئات السوسيوثقافية هي نتاج لأنظمة فاسدة بناها طغاة متجبرون، وأرسوا قيمها وحصنوها بكل أنواع الفساد الذي أصبح من العسير محاربته والحدّ من انتشاره.
***
د. لحسن تركي