قضايا
ثامر عباس: الاندراس المبكر للعمارة العراقية.. ظاهرة طبيعية أم ممارسة مفتعلة!

في لقاء حواري سابق مع المهندس المعماري المعروف (رفعة الجادرجي) في أحدى الفضائيات العربية، أوضح من خلاله ان الإنسان العراقي، خلافا"لما هو شائع لدى شعوب المعمورة، لا يهتم بما تحمله الأبنية (العمرانية) و(المعمارية) سواء منها القديم أو الحديث، من دلالات اعتبارية ورمزية، وبالتالي فهو لا يحمل حيالها أية مشاعر تنم عن الاعتزاز بالموروث التاريخي حين تتعرض لعمليات الهدم أو الإزالة، مثلما لا يحفل بما تنطوي عليه من أهمية تاريخية أو قيمة حضارية. ولهذا فهو – حسبما يقول الجادرجي – تحسب لمثل هذا الأمر بحيث اضطر خلال مسيرته العلمية والمهنية، الى عملية (تصوير) مراحل إنشاء وتشييد أي معلم من المعالم التي وضع تصاميمها بنفسه لكي يصار الى حفظها وأرشفتها، ومن ثمة الرجوع إليها عند الحاجة لأغراض التأرخة الحضرية لمدينة بغداد. معللا"بذلك بتوقعه أنها ستلقى ذات المصير المأساوي الذي آلت إليه بقية الشواهد المعمارية والمعالم العمرانية المندرسة.
وبالعودة الى أسباب هذه الظاهرة، فإن البعض قد يرجعها الى عوامل (الطبيعة) التي تتمثل بعمليات التعرية والتحات والتآكل التدريجي، جراء سيرورات (التقادم) التاريخي التي تخللت مراحل وجود تلك المعالم العمرانية والمعمارية. وهو الأمر الذي يحملنا على رفض مثل هذه الآراء والمزاعم المبتسرة، لاسيما وان هناك - في مختلف بلدان المعمورة - الكثير من تلك المعالم والشواخص لا تزال قائمة تقارع الزمن بالرغم من مضي مئات السنين على إنشائها أو تشييدها. ولذلك يبدو احتمال (افتعال) هذا التدمير المتعمد والتخريب المقصود أقرب الى الواقع منه الى الافتراض، لاسيما وان هناك الكثير من الدلائل والمعطيات التي تثبت تورط العديد من الحكومات أو الكيانات أو المؤسسات أو الشركات في عمليات (الهدم) و(الإزالة)، ليس فقط تحت ذرائع التطوير العمراني والتحسين المعماري التي تستلزمها المراكز المدينية للعواصم والمدن الكبيرة فحسب، وإنما تمت بدوافع سياسية مقصودة أو اقتصادية واضحة أو دينية معلنة يصعب إخفاء مقاصدها وحجب مراميها.
ولعل هناك من يتساءل؛ ما علاقة تلك المعالم العمرانية والمعمارية العتيقة التي أكل الدهر عليها وشرب، بالأهداف السياسية والمصالح الاقتصادية والدوافع الدينية بحيث يصار الى المبادرة بهدمها وإزالتها من الوجود؟!. فبدلا"من أن نتحسر أو نتألم على هكذا معالم متهالكة وآيلة الى السقوط، ألا يستحسن أن يجري استبدالها بأنماط عمرانية ومعمارية جديدة تتماشى مع معطيات (الحداثة) وما (بعد الحداثة) التي غزت ليس فقط (الجغرافيا) بكل ميادينها، و(التاريخ) بكل مجالاته، و(الاجتماع) بكل أطره، و(الثقافة) بكل تجلياتها، و(الوعي) بكل مستوياته ؟!. الحقيقية ان المحاججات التي تذهب بهذا الاتجاه لا تقدم شيئا"ذا قيمة، سوى أنها تفضح (جهل) أصحابها بألف باء ما تعنيه (أماكن الذاكرة) وما تحمله من مضامين وتمثله من رموز، وخصوصا"بالنسبة للمجتمعات التي تنشد أن يكون لها دور فاعل ومؤثر على خارطة العالم التاريخية والحضارية.
فالمواقع المعمارية والمعالم العمرانية التي من النوع الذي يمتلك عمقا"تاريخيا"أو رصيدا"حضاريا"، لا يمكن التعاطي معها كما لو أنها مجرد أبنية وشواخص مادية قديمة استنفدت وظائفها السكانية أو الاقتصادية أو السياسية التي كانت لها في السابق، بحيث ان الشروع بإجراءات هدمها أو إزالتها لا يشكل تفريطا"بقيمة الموروث التاريخي والحضاري، كما لا يعتبر بمثابة التقليل من شأنه وانتقاص من أهميته وانتهاك لحرمته. وإنما هي بمثابة كيانات حية تمتح من نسغ (الجغرافيا / المكان)، وتنوء بثقل (التاريخ / الماضي)، وتطفح بخزين (الذاكرة / المخيال). أي بمعنى أنها ركيزة أساسية من ركائز الوجود، ومثابة محورية من مثابات الوعي، ورمز ضروري من رموز الهوية.
والطامة الكبرى ان أغلب المعالم المعمارية والعمرانية في العراق – قديما"وحديثا"- ارتبط إنشائها واقترن تشييدها؛ إما بأسماء الملوك والسلاطين والزعماء، أو بمصالح الدول والحكومات والسلطات، لا بل ان هذا الارتباط والاقتران طال حتى (المدن) الكبيرة و(العواصم) المركزية مثل (البصرة – عتبة بن غزوان) و(الكوفة – سعد بن أبي وقاص) و(واسط – الحجاج) و(بغداد – المنصور). والانكى من تلك ان المدن والعواصم حملت وشم القبائل / العوائل التي حكمت فضائها وساست سكانها مثل؛ القبائل (الأموية) والقبائل (العباسية) والقبائل (العثمانية) سابقا"، أو جرى تصنيفها على أساس الحقب أو المراحل السياسية مثل؛ الحقبة (الملكية) والحقبة (الجمهورية) والحقبة (الدينية) حاليا". بمعنى آخر ان معظم تلك المعالم والأماكن تعرضت – على مدى مئات السنين - لعمليات (شخصنة) و(تسييس) واسعة النطاق، لم يسلم منها إلاّ القليل ممن اعتبر لا قيمة له في عالم المغالبة (الديني – العصبوي) و(السياسي – الإيديولوجي).
وفي إطار عمليات (الانتقام) الرمزي المتبادل بين تلك الجماعات المتكارهة والأصوليات المتباغضة، نجد ان الخليفة العباسي (أبو جعفر المنصور) باني مدينة (بغداد)، لم يتورع بالإيعاز الى عامليه وعماله من انتزاع كل ما كان يخدم بناء مدينته المدورة من أنقاض المدن المهملة والمنسية، لاسيما مدينة واسط التي بناها (الحجاج) الأموي، حيث أمر بجلب أحد أبوابها – كما يرد في بعض المصادر – لغرض استخدامه في عمارة (بغداد)، بعد أن دبّ الخراب في مدماكها (واسط) وتسلل الاندثار الى أبنيتها، ناهيك عن غزوات القبائل التي كان الفضاء الجغرافي لتلك البطاح مسرحا"لها. والمفارقة هي الحجاج ذاته (( هدم لعمارة مدينته كثيرا"من المدن والقرى المحيطة بها، ونقل أخشابها وأبوابها حتى ضج أهل تلك النواحي واحتجوا على ما جرى )). كما أن الخليفة (المنصور) لم يتردد في الإصغاء لكبار حاشيته ومريديه للقيام بعمليات هدم مدينة (طيسفون – المدائن) الفارسية، والاستفادة من مواد البناء التي كانت تحتويها لأغراض استعمالها في إكمال المدينة العباسية (بغداد)، ولكن تبين له لاحقا"ان هذه العملية التخريبية ستكون مكلفة اقتصاديا"مثلما أنها غير مجدية اعتباريا"، ولهذا فقد أعدل عن إكمال عمليات الهدم الجارية والاكتفاء بما تم هدمه مسبقا".
ومما زاد الطين بلّة، ان الانقسامات الاثنية، والصراعات القبيلة، والكراهيات الطائفية، التي طالما كان المجتمع العراقي بمختلف مكوناته مسرحا"لها ومخرطا"فيها، دخلت على خط المواجهات الدامية بين تلك الجماعات والأصوليات المنفلتة، بحيث كان دورها بمثابة عامل محفز ومشجع على الانخراط بتلك الممارسات الانتقامية المشينة. ولأن أغلب المعالم المعمارية والعمرانية سبق وأن تمت (شخصنتها) و(تسييسها) من قبل الحكومات / السلطات المتعاقبة – كما سبقت الإشارة – كنوع من أنواع (الهيمنة الرمزية)، الأمر الذي جعل منها هدفا"مغريا"من جملة الأهداف المعرضة للانتقام، سواء عبر إهمالها أو تجاهلها في أفضل الحالات، أو من خلال تخريبها أو تدميرها في أسوأها. وبضوء هذه الحقيقة المؤلمة، فقد خسرت الحضارة العراقية الكثير من كنوزها المعمارية والعمرانية التي تعاقبت على تشييدها الكثير من الأقوام والسلالات والأجناس المختلفة، والتي عكست من خلالها تباين ثقافاتها وتنوع فنونها وتعدد حضاراتها، وبالتالي فقدانها ميزة ثمينة كونها حاضنة لأقدم المواريث الإنسانية في مجالات الفنون المعمارية والإبداعات العمرانية.
***
ثامر عباس – باحث عراقي