قضايا
عدي البلداوي: دور الشباب العربي في قيام نهضة ثقافية معاصرة (3)

لكي يبدأ الشاب العربي مشروع النهضة الثقافية يحتاج الى ثلاثة انواع من الاتصالات الأساسية:
- الاتصال بالنفس
- الاتصال بالله
- الاتصال بالمجتمع
إتصال الشخص بنفسه تؤمنه له معرفته بنفسه، والنفس هي مفتاح وعي الذات، ومفتاح الاتصال بالنفس هو التأمل.. والنفس هي البصمة الخاصة بكل شخص، التي يتحقق بها تواصل العقل والقلب والنفس.. والــنــفــس في الــقـرآن الكريم: (لوّامة) و(مطمئنة) و(أمارة بالسوء) في الآيات الكريمة:
(ولا اقسم بالنفس اللوّامة) آية 2 سورة القيامة
(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية) آية 27 سورة الفجر.
(وما أبرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي ان ربي غفور رحيم) آية 53 سورة يوسف
فالنفس (لوّامة) بمعنى الضمير الحي، وهي (مطمئنة) بمعنى المصالحة مع صاحبها، وهي (أمارة بالسوء) بمعنى الشهوة والأنانية.
والنفس في قول الإمام علي عليه السلام (فارغة فاشغلها بما يصلحها وإلا شغلتك بما يفسدك)، ونقصد بالوعي الذاتي هو إحاطة الشاب معرفة بنفسه كمشاعر وافكار ورغبات وإعتقادات وقيم.
تأتي اهمية اتصال الشخص بنفسه وتأمينه بالشكل الذي يتحقق معه تفاهم ومصالحة، في تأهيل الشخص للنوع الثاني من الاتصال وهو الاتصال بالله سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول الإمام علي عليه السلام (عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه)، فكيف يعرف الشخص نفسه لينجح في اتصاله بربه ؟ يحدث ذلك عن طريق التأمل.. التامل فكرة قديمة ارتبطت بالمعتقدات الدينية ثم تطوّرت الى اسلوب من اساليب العلم الحديث في الطب لمعالجة المرضى.
أفادت دراسات علمية ان بضع دقائق يومياً من التأمل البسيط حيث يترك الانسان كل مشاغله ومشاكله ويدعها جانباً ويختلي بنفسه لدقائق معدودة يومياً لمدّة خمس دقائق مثلاً في جوّ هادئ، تفيد في إحداث توازن في جوانب الشخصية النفسية والسلوكية والعقلية والاخلاقية، وهي حاجة ضرورية لبداية مشروع نهضة صحيحة، حيث التأمل يفتح مجالات واسعة لإستفهامات كثيرة تخصّ أحداث وسلوكيات ومواقف يومية، ويفيد التأمل في تخفيف التوتّر وحالات القلق التي تسببها ضغوطات الحياة، وتفعّل التركيز وتقوّي حضور الذهن، والتأمل من الأدوات الفعّالة في نجاح صناعة الوعي الذاتي، فكلّما تحقّق التوازن الداخلي تحقّقت الجودة في العمل، فإذا تحققت حالة التوازن هذه وصل الشاب الى درجة المصالحة مع النفس، وهي مرحلة النفس المطمئنة، ووصول الشاب الى هذه المرحلة سيؤهله بنجاح الى مرحلة الاتصال بالله سبحانه وتعالى.
من شأن الإتصال بالله سبحانه وتعالى انه يفعّل البعد الروحي في حياة الشخص القائمة على الروح والمادة وعليه ان يتحرك في حياته على اساس تحقيق التوازن بين هذين المكونين، لأن أي خلل في معادلة التوازن بين الروح والمادة يترتب عليه مشاكل كثيرة تقلق او تهدد استقرار واستمرار الحياة كالتطرف والتخلف والتعصب و..
يـأتي الاتـصـال بالله سـبـحـانـه عـن طـرق عـدّة مـنـهـا العبادة والاستغفار
والعمل الصالح والتفكر، والعقل هو من افضل طرق التقرب الى الله وفي الحديث النبوي تأكيد على اهمية التفكير (ان تفكر ساعة خير من سنة عبادة او من سبعين سنة عبادة) وكثير من آيات القرآن الكريم تحث على التفكير والتدبر والتعقل.
بتحقق هذين النوعين من الاتصال بالنفس وبالله، يرتقي الشاب الى النوع الثالث وهو الاتصال بالآخرين، وهو اتصال ضروري لابد منه، لأن الانسان كائن اجتماعي لا يعيش بمعزل عن الآخرين.. والاتصال بالآخرين يعني مواجهة ثنائية الخير والشر التي تطرقنا اليها، وما يساعد الشاب على معرفة الخير من الشر، والصح من الخطأ، هو نجاحه في تأمين الإتصالين الأوليين: مع النفس، ومع الله.
بسلامة تحقيق هذه الانواع الثلاثة من الاتصال سيتمكن جيل الشباب في عصر التقنية المتطورة وتطبيقات الذكاء الإصطناعي من التواصل مع العالم الافتراضي حيث تواجهه انواع مختلفة من المحتويات، منها المحتوى الهابط الذي يسيئ الى الاخلاق والقيم والضوابط الاجتماعية، او المحتوى السيئ والمحتوى التافه الذي لا يحفز على التفكير والتطوير.. فنحن لا نستطيع أن نمنع الأشخاص الذين لم يحالفهم الحظ في امتلاك رصيد حياتي سليم كالذي تطرقنا اليه، من صنع محتوياتهم الهابطة ونشرها، لكننا نستطيع ان نحصّن انفسنا من ان تخدعنا او تحرفنا المادة الموجودة في تلك المحتويات الهابطة من المضي في مشروع النهضة الثقافية المرجوّة. فإذا صنع الشباب المتعلم في المدارس والجامعات شبكة محتويات هادفة ينشرون من خلالها مادة ايجابية نافعة، امكن حماية طبقات المجتمع البسيطة من الوقوع في فخ المحتويات الهابطة، وامكن تهيئة مساحة جيدة للمفكرين والمثقفين يشتغلون عليها في اعداد منهاج ثقافي يوفر مستلزمات تمكين المجتمع ثقافياً، وهكذا بالتدريج حتى يصبح للثقافة قوة حضور فاعلة ومؤثرة.
***
عدي عدنان البلداوي