شهادات ومذكرات
علي حسين: قطرة ماء أليف شافاك تربط بين البشر عبر العصور
في مقال نشرته منتصف عام 2025 تتحدث الكاتبة التركية اليف شافاك عن سبب حاجتنا الى قراءة الروايات، فهي تعترف في مقدمة مقالها ان معدل القراءة انخفض في العالم، وتستشهد بالكاتب الامريكي الراحل فيليب روث الذي كتب قبل وفاته – توفي عام 2018 -: " "لقد انتهى العصر الأدبي. والدليل على ذلك هو الثقافة، والدليل هو المجتمع، والدليل هو الشاشة "، وتقول شافك يبدو أن العديد من الدراسات تدعم استنتاج روث. فقد انخفض متوسط الوقت الذي يستطيع فيه الشخص التركيز على شيء واحد في العقود الأخيرة، إلا ان شافاك تعارض وبشدة فكرة " أن الناس لم يعودوا بحاجة إلى الروايات "، وهي ترى ان الرغبة في قراءة الروايات ما تزال منتشرة على نطاق واسع:" إن استمرار هذا النوع الأدبي الطويل يُعد معجزة في عالمٍ تشكله وفرة المعلومات، والاستهلاك السريع، وثقافة الإشباع الفوري "، فنحن نعيش في عصرٍ تكثر فيه المعلومات:" لكنّ المعرفة شحيحة، والحكمة أقلّ. هذا الفائض من المعلومات يُصيبنا بالغرور، ثمّ يُفقدنا الإحساس. علينا تغيير هذه المعادلة، والتركيز أكثر على المعرفة والحكمة. للمعرفة، نحتاج إلى الكتب، والصحافة المتأنية، والتحليلات المعمّقة، والفعاليات الثقافية. وللحكمة، نحتاج، من بين أمور أخرى، إلى فنّ سرد القصص. نحتاج إلى الأسلوب المطوّل ". وتخبرنا شافاك انها لا تدعي ان الروائيين حكماء، بل على العكس تماماً: " نحن فوضويون. لكنّ الرواية الطويلة تحوي بصيرة وتعاطفاً وذكاءً عاطفياً ورحمة. هذا ما قصده ميلان كونديرا حين قال: (حكمة الرواية تختلف تماما عن حكمة الفلسفة) ".- الغارديان إليف شافاك تتحدث عن سبب حاجتنا المستمرة للروايات -.
اليف شافاك التي قررت الاستقرار في بريطانيا، تم اختيارها الاسبوع الماضي رئيسة للجمعية الملكية للأدب في بريطانيا، دائما ما تثير الجدل عند صدور رواية جديد لها، الكاتبة التركية المغضوب عليها من قبل السلطة في تركيا، تفضل دائما ان تضع نفسها في بؤرة الاحداث، زادت مبيعات كتبها بعد ما شن عليها اعضاء في حزب الحرية والتنمية الحاكم، متهمينها باشاعة مفاهيم عن الجنس والدعارة في رواياتها، قالت ان الشعبوية أصبحت هي الثقافة السائدة في تركيا، في الوقت الذي تتلاشى فيه مفاهيم العلمانية والدولة المدنية، واتهمت السلطات بانها تحاول اعادة تشكيل التعليم على اسس دينية وقومية.
تنافس مواطنها الحائز على نوبل اورهان باموق على صدارا المبيعات. منذ ان نشرت روايتها الاولى " الصوفي " في نهاية التسعينيات، وبعد اكثر من عشرين عاما كتبت اكثر من عشرين كتابا، لا تزال تَغضب من اجل حقوق المرأة، تكتب كعادتها كل يوم، ترى في نفسها راوية حكايات. روايتها الاخيرة " هناك أنهار في السماء " – ترجمها الى العربية أحمد حسن المعيني " تتناول موضوعا حمهما يشغل معظم سكان الكرة الارضية وهو المياه، لكنها ستركز على منطقة واحدة تعاني من الجفاف وهي بلاد الرافدين الذي تصفها بانها بلاد شكلتها الأنهار، وفي الوقت نفسه تشكو فيها الأنهار فـ:"دجلة والفرات في أدنى مستوياتهما في التاريخ، بعد أن كانا ذات يوم مهد الحضارة. في الوقت الذي تجف فيه أنهار الرافدين، لا تنفك تظهر من تحت شواطئها المتراجعة مستوطنات عمرها الف عام " – هناك انهار في السماء اليف شافاك -.
تنتقل الرواية بين ثلاثة ازمنة، تبدأ من قطرة ماء تنزل من السماء، لتستقر على شعر الملك اشور بانيبال الذي انشأ اضخم مكتبة في العالم، والذي انبثقت من بلاده ملحمة كلكامش أول ملحمة عن الطوفان، لتنتقل بنا الى لندن عام 1840 فنجد انفسنا امام نهر التايمز الملوث بمياه الصرف الصحي، هناك يولد آرثر من أبٍ مدمنٍ على الكحول ووالدةٍ مريضةٍ نفسيا، كانت ذاكرته القوية هي فرصته الوحيدة للنجاة من الفقر الذي يطارد عائلته عندما أهلته موهبته للحصول على فرصة تدريب في دار نشرٍ، احيث تنفتح أمامه آفاقٌ واسعةٌ، هناك يلفت انتباهه كتاب بعنوان " نينوى وآثارها" – الكتاب كتبه الرحالة البريطاني أوستن لايارد عام 1845 عمليات التنقيب عن الآثار في منطقة النمرود -، ينظر الى الكتاب فيقول لصاحب دار النشر:" سيدي. هل تطبعون هذا الكتاب ايضا " ان اسم نينوى يبدو لارثر اشبه بالحلم:" من هناك اتت الثيران المجنحة. رايتها عند المتحف البريطاني، ومنذ ذلك الحين أسرتني "
بعدها تنتقل بنا اليف شافاك الى تركيا عام 2014 حيث الفتاة الإيزيدية نيرين التي تبلغ من العمر عشر سنوات، مصابة بمرض نادر سيؤدي بها قريباً إلى فقدان السمع. وقبل حدوث ذلك، عزمت جدتها على تعميدها في معبد عراقي مقدس. ولكن مع تصاعد نفوذ داعش وتدمير أراضي أجداد العائلة على ضفاف نهر دجلة، بات الوصول الى المعبد مستحيلاً. لنلتقي بعد ذلك عام 2018 بزليخة او الدكتورة زي كلارك كما يسميها زملائها في لندن، وهي عالمة في المياه، تعاني من مشاكل زوجية أدت بها الى الطلاق، فهي الآن تسكن وحيدة في منزل عائم على نهر التايمز. زليخة الفتاة اليتيمة التي رباها احد اقاربها الاثرياء، عانت الكثير من المصاعب حتى انها كانت قد اتخذت قرارا بإنهاء حياتها إلى أن غير كتاب غريب عنوانه " نينوى ووآثارها " كل شيء في حياتها.
من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، تتلون هذه الرواية برمز الماء. تبدأ بقطرة مطر وتنتهي بقطرة من دجلة تصعد ببطأ لتتحول في عيني طفل الى انهار عظيمة في السماء لا تكف عن التدفق.
تمزج الرواية بين قصص مختلفة تتبع ازمنة مختلفة، تربطها جميعا قطرة ماء تحمل سر الخلود " فالماء له ذاكرة، والأنهار بارعة في التذكر". النهران الأبرز في الرواية هما دجلة والتايمز. يتغذى كلاهما من روافد متعددة، وينطبق الأمر نفسه على هذه الرواية، التي تمزج بين قصص مختلفة تنبع من أزمنة وأماكن متباينة.
هكذا، تاخذنا اليف شافاك في رحلة مع قطرة ماء وهي تمر بجميع العمليات الفيزيائية من تبخير وتكثيف وتجميد عبر القارات والقرون، لتجعلنا نقف وجهاً لوجه أمام ما فعله الإنسان بالمياة التي هي مصدر الحياة.
ولدت أليف شافاك في الخامس والعشرين من تشرين الاول عام 1971 في مدينة ستراسبورغ حيث كان والدها " نوري بلجين " يكمل دراسته للدكتوراه في علم النفس، فيما كانت والدتها موظفه في السلك الدبلوماسي، انتقلت في سنتها الاولى الى أنقرة. بعد ان انفصال والديها،تولت امها تربيتها امها، تقول ان نشأتها في بيئة غير أبوية كان له تأثير إيجابي عليها، اضافت اسم امها " شافاك " الى اسمها كرد فعل على تخلي والدها عنها، أمضت سنوات المراهقة في أنقرة ومدريد وعمان واسطنبول، بوسطن، قبل الاستقرار في بريطانيا، لكنها ظلت "تحمل اسطنبول في روحها ".، قرأت بنهم الكتب التي كانت تجدها في بيت جدها، كانت ثمة انواع من المجلدات قرب سرير جدتها، في المدرسة ستكتشف تشارلز ديكنز، فتنتها روايته قصة مدينتين:" ظللت اقرأ مؤلفات ديكنز فصار هذا المؤلف الانكليزي من القرن التاسع عشر قرينا لطفلة من انقرة تعيش اواخر السبعينيات "، بعدا ستكتشف غابريل غارسيا ماركيز الذي جعل تصدق حكايات جدتها، فالكاتب الكولومبي مثل جدتها جعل الماء يتحدث والأنهار تغير مجراها، والاحلام تلعب دورا في حياة الناس.. شغفت بالتصوف، إلا ان موضوع النساء ظل يشغلها فقررت ان تكون رسالتها عن الإسلام، والنساء، والتصوف.
أصدرت ما اكثر من عشرين كتابا بين روايات وقصص قصيرة ومقالات، روايتها الشهيرة "لقيطة اسطنبول " التي صدرت عام 2006 وضعتها في مصاف كبار الكتاب في الغرب، واحتلت لاشهر قائمة الروايات الاكثر مبيعا، تحدثت فيها عن الماضي الذي يطارد الانسان، بطلة الرواية زليخة تفشل في محاولة قامت بها لاجهاض نفسها، تكتشف انها حامل من علاقة خارج الزواج، تنجب طفلة تسميها آسيا، ترفض الكشف عن هوية والد طفلتها، تعيش في بيت تسيطر عليه نسوة غريبات، الرجل الوحيد في العائلة شقيقها الذي يدرس في اميركا، وعندما يعود يصطحب معه زوجته الارمنية، في الرواية تضع شافاك مقارنات بين أرمن أميركا وأتراك تركيا وهوس الطرفين بنقاء الدم. تقول بطلة الرواية آسيا: "يتحدثون دائماً عن الماضي بنسخته النظيفة فقط، ويبتلعون كل يوم كبسولة جديدة من الكذب". ترى شافاك ان مشكلة الاتراك انهم ينظرون الى الماضي بجهل، ويصرون ان لا اخطاء فيه، ويرفضون الاعتذار، تتطرق الى مذبحة الارمن في زمن العثمانيين، وتجد ان المشكلة في ثقافة الكتمان التي يراد لها ان تسود المجتمع. لم تمر " لقيطة اسطنبول " بسلام، في صيف 2006 اقام عدد من من المحامين المتعصبين قوميا في تركيا دعوى قضائية ضد شافاك لورود كلمة "إبادة" في روايتها"، وقد لوحق أورهان باموق أيضاً بسبب تطرقه الى مجزرة الأرمن.
تابعت شافاك رحلتها مع الرواية، ولشغفها بالتصوف اصدرت عام 2009 روايتها الشهيرة " قواعد العشق الاربعون "، حيث تستدعي شخصية جلال الدين الرومي وصديقه شمس التبريزي، من خلال بطلة الرواية إيلا روبنشتاين، ربة منزل عادية غير سعيدة ولديها ثلاثة أطفال وزوج غير مخلص، لكن حياتها تبدأ في التغير بشكل كبير عندما تتولى وظيفة قارئ في دار نشر. اول مهمة لها كانت مهمتها فحص رواية، عن الشاعر جلال الدين الرومي ومعلمه شمس التبريزي، مؤلف الرواية اسم مجهول في عالم الادب، يكتب لأول مرة، يعيش في تركيا اسمه عزيز زهار، سرعان ما تجد إيلا نفسها مفتونة بالرواية والرجل الذي كتبها، حيث بدأت بمراسلته عبر بريده الالكتروني، تسأله عن الحياة التقليدية الخالية من العاطفة والحب الحقيقي..لتنشأ بينهما قصة حب، تحاول شافاك ان تمتزج التجارب الإنسانية بين مسارين زمنيين مختلفين ومكانين متباعدتين، لتنحت من خلال الاحداث خطوطا كبرى للتجربة الإنسانية.. قالت أن عصر الرومي والتبريزي يشيه كثيرا عصرنا، إذ أن القتال والاقتتال باسم الدين، وزُجَّ بالأديان في حروب الهويات المتناحرة والإثنيات القاتلة والمقتولة. وهي بهذا تمثل صدى للتبريزي واستحضارا لمقولاته في التسامح والمحبة وقبول الآخر، قالت في حوار صحفي ان نطقة انطلاقها في كتابة " قواعد العشق الاربعون هي:" مفهوم الحب. أردت أن أكتب رواية عن الحب ولكن من زاوية روحية. بمجرد أن تجعل هذه الرغبة الخاصة بك يأخذك الطريق إلى الرومي، صوت الحب. شعرت به، كلامه يتحدث إلينا عبر القرون والثقافات. لا يمكن للمرء أن ينتهي من قراءته، إنها رحلة لا نهاية لها"، وجدت نفسها امام تحدي وهي تستحضر شخصية جلال الدين الرومي الذي قرأت عنه في طفولتها بواحد من مجلدات جدتها، وظلت تسمع اسمه يتردد في البيت، لذلك ارادت بعد سنوات ان تستعيد هذه الاصوات التي كانت تسمعها، تؤمن أن النساء في الغرب يتحررن بينما النساء في الشرق يتعرضن للاضطهاد طوال الوقت:" عندما كنت أكتب رواية، أريد ان اوصل صوت هذه المرأة التي لايزال ينظر اليها بريبة " .
تنتصر في كتابها " حليب اسود " للانوثة والأمومة، شعرت بانها مطالبة ان تؤدي واجبها تجاه امها التي كان اسمها يرمز الى الفجر " شافاك " تؤمن ان النساء أعظم من يروي القصص:" لم أنشأ في أسرة تقليدية ذات نظام أبوي، وذلك جعلني أكثر استقلالية وأتاح لي فرصة القيام بأشياء كثيرة ربما منعت منها مثيلاتي ممن عاشوا تحت سلطة الأب"
قالت لصحيفة الغارديان البريطانية، إن سلطات العدالة والتنمية تركز الآن على الروايات التي تتضمن قصصاً عن التحرش الجنسي، مبديةً استغرابها من هذا الأمر، لأن " تركيا تشهد الآن ازديادا في جرائم العنف الجنسي ضد الأطفال والنساء".
شافاك التي تعيش في بريطانيا منذ سنوات ظلت تحذر من موجة صعود اليمين المتطرف في دول أوروبا، وأشارت في مقال نشرته في صحيفة الغارديان الى ان العالم لا يخوض "حرب حضارات"، كما يصر صموئيل هنتنغتون في كتابه الشهير " صدام الحضارات "، وانما يخوض حرباً اكثر تعقيدا وتفاوتا اسمتها " صدام الثقافات " وهذا الصدام كما نبهت في مقالها يمزق المجتمعات لأن الثقافة كما تقول شافاك أمر بالغ الأهمية، لا يلتفت له علماء السياسة، واضافت:" لقد افترض علماء السياسة بعجرفة ذات مرة أن ثمة بلدان حيث لن تستطيع الفاشية أن ترفع رأسها القبيح مجددا. وبعد أن مرت ألمانيا وإسبانيا، بأهوالها، كان يُعتقد أنها محصنة ضد الوعود الكاذبة لليمين المتطرف، ولكن بعد ذلك، جاءت احزاب يمينية، لتثبت لنا مدى خطأ تلك الافتراضات ".
في الجزء الاخير من رواية " هناك أنهار في السماء " التي وضعت له عنوان " ملاحظة الى القارئ " تكتب أاليف شافاك:" اغمض عنيني وأرى طاليس المالطي جالساً على ضفاف نهر المياندر المتعرج. أتخيله هناك، يراقب الماء بإحساس من الدهشة والاحترام، يلاحظ حركته وتجدده القلقين، ثم أتخيل قُطيرة صغيرة تبلل يد الفيلسوف.. تلك القُطيرة نفسها التي ربما كانت في قهوتي هذا الصباح، أو ربما في قهوتكم، تربطنا جميعاً عبر حدود الزمان والجغرافية والهوية.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية






