قضايا

نورالدين حنيف: شاعرية الجسد في فنّ "الأيكيدو"

الأسئلة الحقيقية المناسبة لا يطرحها ممارس رياضة الأيكيدو وهو يلج قاعة التدريب، لأنه محمّل بتمثلات مسبقة تفيدُ انخراطه في أسلاك هذه الرياضة، وحسبُ. ولا يتجرّأ على فتحِ نوافذ معرفية من أجل استيعابٍ نظري لهذه المنظومة وهو الأمر العادي عند كل المهتمّين بها. ومن هذه الأسئلة الكامنة والمركزية سؤال :

ما هو جسدي؟ وما طبيعته؟ وماذا أريد منه؟ ولِمَ أدخلْتُهُ في هذا السياق الرياضي والفني والفلسفي؟ وماهي مدخلاته الأساسية؟ وما هي مخرجاته المرجوة؟ وكيف أحاورُ به أجساداً أخرى؟ وكيف أتعالق معها في سياقات إكراهية؟...

و أسئلة أخرى من نفس المقام، لا تلح على الممارس لأنه مطبوعٌ بالرغبة في التحصيل التقني لأدبيات هذا الفن، ومن ثمّة تغيب هذه الأسئلة المركزية على مقاصل النزوع النفعي، المشروع والصادق. وهي أسئلة يمكن اختزالها في سؤال واحد: ما هو هذا الوجود الجسدي أو الجسداني في منظومة فن الأيكيدو؟

"الأيكيدوكا" كائن إنساني مثل سائر الناس، لكنّه يقفز على النمطية بانخراطه في مجال رياضة الأيكيدو. وهو بهذا القفز يتحوّل إلى ممارس لوجودين

وجود يحكمه التواصل اليومي عبر آلية اللغة العادية المتواضع عليها في أفق التخاطب الاجتماعي، استجابةً لشرطه البشري والموضوعي. والثاني وجود فنّي تصمتُ فيه اللغة العادية لتتكلم فيه لغة الجسد، فيصبح الأيكيدوكا محاوراً جيّداً للأجساد الأخرى الغيرية التي يتعامل معها سواءٌ على صفيح ركح التداريب الأسبوعية أو على صفيح الملتقيات الوطنية والدولية الموسّعة. وبعبارةٍ أخرى فإن الأيكيدوكا، كائنٌ محظوظٌ تُتاح له إمكانياتٌ جديدةٌ عبر الفرص الحياتية الرحبة التي ينطلق فيها عجيباً في محاورات الجسد.

وهو في هذه المحاورة لا ينطلق من فلسفة أو مرجعية فكرية موغلة في التنظير، وإنما ينطلق من انسيابيةِ انخراطه التي تجعله محاورا جيّداً لجسده في علاقةٍ مع الأجساد الأخرى، وفي هذا السياق لا يمكننا تصوّر ممارس الأيكيدو حاملاً لترسانة من المرجعيات النظرية الموغلة في التجريد سواء تعلّق الأمر بالممارس المثقف، أو تعلّق الأمر بغير المثقف. والأمر في هذا المقام لا يغدو أن يكون ممارسة تنزل بأدبيات فلسفة الأيكيدو من أبراجها العلوية إلى إمكان تفعيلها على أرض الواقع. من هنا نفهم عمقَ هذه الرياضة وبساطتها في نفس الآن. ونعتبر هذا ازدواجيةً مطلوبةً في أجرأة النظر الفلسفي لهذه المنظومة وتنزيلها التنزيل الممكن، ودعوة هذا الفعل إلى مساجلة الذات الإنسانية في رغباتها ضدّ ومع الجسد في أفق تحويله من جسد مستهلِك إلى جسد منتج لمجموعة من القيم الإنسانية النبيلة والقابلة أساساً للتنزيل .

لا يقف الجسد في هذه المنظومة عند حدّ الطقس الاحتفالي الذي يبدأ ببداية الحصّة التدريبية وينتهي بنهايتها التقنية. بمعنى أنه غير محكومٍ بحدود دائرة الطقس الإمتاعية والاستمتاعية، بل يتجاوزها إلى إمكان انفلات هذا الجسد من قبضة القوقعة التلقينية التي تكتفي بعمليات الشحن لمجموعة من التقنيات الخاصّة بهذه الرياضة، إلى تمثل فن الأيكيدو كمنهج مرن وذكي في محاورة الجسد لكل أشكال الوجود المحيطة به. كيف يتمّ ذلك ؟

نعلم أن رياضة الأيكيدو هي مجموعة من التقنيات الخاصة بالدفاع، وتعتمد على قوة الشريك كي تمارس حضورها كنقيضٍ للفعل الرياضي العنيف. لكن هذا غير كافٍ لصناعة الممارس المحاور، وإنما تكتفي التقنيات بإنتاج الممارس الآلي الذي يتقن الحركة ويقدّمها في صورتها المرجوّة من دوائر التوجيه الأستاذية. وهذا مطلبٌ مقبولٌ لكنه لا يصنع ممارساً حقيقيا، كما هو الشأن في تعليم الطفل قواعد الموسيقى بطريقة علمية، يحفظها عن ظهر قلب ثم يردّها بضاعةً كلّما طُلب منه ذلك. والأيكيدوكا ليس ممارسا استرجاعيا، إنه ممارس مستقلّ في عمليات الاستقبال وفي عمليات الأداء، أي في المدخلات وفي المخرجات، أو هكذا ينبغي لنا أن نتصوّر هذا الممارس حتى لا نكون أمام مشهدٍ تلقيني يقوم على ثقافة الشحن بدل ثقافة التفاعل، وفتح باب الإبداع...

من هنا، أفقُ أن يكون لكل ممارس خصوصية التعلم وتفعيل مخرجات هذا التعلم، لأن الجسد غير الجسد والروح غير الروح، والاختلاف حاصلٌ ومطلوبٌ وواعد بالتنويع في هذا المجال. 

تتجلى خصوصية الجسد في مجموعة من الأداءات، منها رقصة التايسباكي، وهي رقصة على الرغم من نمطيتها فهي متعددة بتعدد الأجساد الراقصة، وهي رقصة واحدة في العالم إذا حددناها كنموذج يُنتج المفهوم ويتمّ الاتفاق عليه والتواضع على شكله. أما روحه، فمتعددة، من هنا إمكان القول إن رقصة التايسباكي هي رقصات، تتعدد بتعدد الأجساد التي تمارسها، ويستحيل أن نتصور اتفاقاً حول أداءٍ واحدٍ لأن ذلك يدخل في المستحيل ويفتك بخصوصية الممارسة. هكذا تخضع رقصة التايسباكي لطبيعة الجسد، سليماً كانَ أو ناقصا، وتخضع أيضاً لطبيعته في قدرته المختلفة على الحركة وتمثل هذه الحركة، فليس كل الناس يتحركون بأجسادهم بنفس الوتيرة ونفس الاستجابة ونفس المرونة. وقد نذهب في القول إلى درجة أن أداء الممارِس للرقصة اليوم يختلف عنه في يومٍ آخر، وذلك تبعاً لاستعداده النفسي غير التابث وغير النمطي...

ومنها أيضا، حركة الجسد في سياق التفاعل مع جسد الآخر الموصوف بالشريك، حيث تلتقي ثقافتان مختلفتان كما يلتقي تمثلان مختلفان أيضا. وهذا من شأنه أن يُغني الممارسة ويُثريها ويُخصِبها. خذ مثلاً تفاعلَ ممارس في عقده الخامس مع شريك في عقده الثاني، وكيف يمكن أن يكون اللقاء بين سمتِ الحركة الخمسينية مع عنفوان الحركة العشرينية. وخذ مثلا تفاعلَ ممارس ذكر مع شريكةٍ أنثى وانظر كيف يكون اللقاء بين فحولة الحركة وبين نعومتها... وخذ مثلا تفاعلَ ممارس في الدرجة الرابعة مع شريك مبتدئ بحزامٍ أصفر، وانظر كيف يكون اللقاء توجيهيا أكثر مما يكون تنافسيا، ثم انظر كيف سيتفاعل الجسد العارف مع الجسد الطالب معرفةً. وخذ مثلا تفاعلَ ممارس من بيئةٍ مغربية مع ممارس من بيئة يابانية، وانظر كيف يكون اللقاءُ بين ثقافةٍ مؤسسة لهذه المنظومة وبين ثقافةٍ مُفعِّلة لهذه المنظومة... وهكذا في أمثلةٍ كثيرة من شأنها أن تفصح أن طبيعة الجسد في فن الايكيدو مجالٌ خصبٌ وغنيٌّ ومختلف أشدّ الاختلاف، وواعد ومتنوّع وبعيدٌ كلّ البعد عن النمطية البليدة.

الجسد صيرورةٌ بحرف الصاد، وتفيد التحول. كما أنه سيرورةٌ بحرف السين وتفيد المسار والحركة. وبالتالي فنحن أمام جسد غير متخشّب وغير جامد وغير نمطي... بل هو تاريخ شخصيٌّ يتطوّر تباعاً وسِراعاً، ويقدّم في كل تجلٍّ إدهاشاً يشي بخارقيةِ هذا الجسد وبمعجزته واجتراحه للمألوف. وهو من هذا الاستنتاج، جسدٌ لا يقدّم طريقةً لمحاورة الأجساد الأخرى على صفيح الركح فحسبُ وإنما يقدّم طريقةً للوجود تقوم على إدراك الصورة الفلسفية للجسد في الذاتِ وفي الآخر وفي العلاقة مع الوجود بشكل عام. وبتعبير "هنري برغسون " فإن الجسد يقدّم في محاورته الدائمة للآخر رؤية خاصة للعالم عبر المعيش الجسداني انطلاقا من استقبال صورة الآخر فينا واستقبال الآخر صورتنا فيه.

الجسد كينونة متناهية في بعدها الفيزيولوجي ولكنه مقولة غير متناهية في أبعادها الإنسانية القائمة على المحاورة الدائمة، من هنا فعل الصيرورة والسيرورة. وبالتالي فإنّ كلّ جسدٍ هو كونٌ مستقل ووجودٌ قائمٌ  بذاتهِ أولاً وبذواتٍ أخرى ثانياً.  مما يُخصِبُ لدينا فكرة التجمع الجسداني على صفيح الركح في ممارسة (الأيكيدو) بحيث يتحوّل هذا التجمع البشري من حالاتٍ متنوعة لقابليات التعلم إلى حالاتٍ وجودية للحوار والمحاورة، في نسق معرفي غائب، ونقصد أن الممارس لا يستحضر تجريدَ هذا الحوار أو المحاورة بقدر ما يمارس حضوره التلقائي في حضرة أشكالٍ أخرى من الحضور، فيتمّ اللقاء عفويا وتنسجُ العلاقات ذاتَها في غير موقف علمي قصدي وإنما في انسيابية تعلّمية تستقبل المفاهيم الخاصة بفن الأيكيدو دون قصد ودون أن تُدرك ذاتها داخل المصطلح وإنما داخل الممارسة.

أعتبر هذا المنظور الممارس الواقعي، واقعا مشدوداً إلى النظر الفلسفي الثاوي خلف مرجعيات ثقافة آسيوية استنبتها الشيخ (أوشيبا) عبر تمثله العارف لتاريخ الجسد. وهو ما يمكِّنُنا من القول إن الجسد داخل الركح لا يفيد حركةً تقنية فحسب، وإنما يفيد إنتاجاً لقيمٍ إنسانية جديرة بالاعتبار، منها قيمة التعايش واحترام التعدد وتقدير الآخر في غيريته المتفردة، ومراعاة المختلف وتشييد الحوار على أساس قراءات واعية وغير واعية للجسد وتحركات هذا الجسد الذي لا يمكن قراءته مفصولاً عن سياقاته الثقافية الصغرى (داخل الركح) والكبرى (داخل الواقع).

الجسد داخل منظومة الأيكيدو لغةٌ، لأنه يتحركُ وفق نظامٍ من المعارف الفنية والفلسفية التي تؤهل هذه الممارسة كي تكون متجذّرة في التأصيل وقابلة للامتداد الزمني، والامتداد المكاني، بحيث نستطيع استنباتها في أي بيئة شئنا لأنها تحمل في جيناتها القدرة على التكيف بحكم مرونة مبادئها المؤسسة، وبحكم انطوائها على منظومة القيم الإنسانية. من هنا حركات الجسد المفهومة داخل مفهوم النسق، سواء تعلّق الأمر بالذهن حيث تنرسم في وعي الممارس آليات الفعل ورد الفعل... أو تعلّق الأمر بمهارات التفعيل حيث قدرة الممارس على إنزال هذا الوعي على صفيح الركح. وهو إنزال أو تنزيل لا يرتبط بالتطبيق التقني النموذجي لأدبيات فن الايكيدو فحسب وإنما يرتبط بتفعيل لغة جسدية مشبعة بالقيمة، حيث لا نتصور حواراً جسديا يقوم على العنف أو على رغبة الممارس في إيذاء الشريك المدعو خصماً في نظام رياضات أخرى كالملاكمة والكاراتيه مثلا.

القيمة هي لبّ عملية الاستقبال في رياضة الايكيدو، ولا قيمة لهذه الرياضة خارج منطق القيمة. وهي وجودٌ مثالي يسبق وجود الجسد المادي الواقعي، بل يؤطره، ويوجّهه ويشذب كل ما فيه من انزلاقات سلوكية عنيفة تشي بالكراهية أو الحقد أو الإقصاء أو أي سلوك مستنبت في حقول البغضاء والمشاحنة.

***

نورالدين حنيف أبوشامة

في المثقف اليوم