قضايا
مصطفى غلمان: عابرُون في نص الزمن

(التاريخ هو نتاج الإنسان لكنه لا يتركه حرّاً بالكامل).. أريك هوبسباوم
الخوف من التاريخ ليس مجرّد هاجسٍ عابر، بل هو ارتعاشةٌ في عمق الوعي البشري أمام مرآةٍ لا ترحم. إنه بوصفه سرداً متراكماً لأفعالنا وإخفاقاتنا، يكشف هشاشتنا أمام الزمن، ويفضح عجزنا عن بلوغ الامتلاء الذي نحلم به. من هنا ينبع السؤال: أهو الخوف من الوقائع الماضية بما تحمله من هزائم وانكسارات، أم الخوف من قوّته الرمزية التي تجعل الماضي سلطةً تحكم الحاضر وتكبح المستقبل؟
إنّ التاريخ في هذا المنظور، يتجاوز كونه أرشيفاً للأحداث، إنّه كائن أسطوري يتنفس داخل وعينا الجمعي، ينسج قوانينه الخاصة، ويتحرك بمنطق يعلو على رغبات الأفراد. إنّه “المطلق المتحرك” الذي يتغذى من لحظات الصعود والهبوط، لكنه لا يموت بسقوط الإمبراطوريات ولا بتفتت الدول، بل يواصل سيرورته بما يشبه القدَر. ولعلّ خوفنا الأكبر أن ندرك أنّنا لسنا سوى عابرين في نصّه، نضيف إليه شذراتٍ قد تُمحى أو تُؤوَّل وفق ما يشاء هو، لا نحن.
في هذا الأفق يصبح التاريخ أشبه بمرآة مزدوجة، مرآة تكشف الموت الرمزي للإنسان حين يدرك أن أفعاله تُستهلك سريعاً وتتحول إلى “أثر” بارد في سجلاته. ومرآة أخرى تُظهر العدم المخبأ في تكرار الوقائع، حيث تنقلب الصيرورة نفسها إلى دائرة مغلقة، تُعيد الأخطاء وتعيد معها فشلنا في “اقتدار الوجود”.
إنّ الخوف من التاريخ إذن هو خوف من ثورة زمنية لا نتحكم فيها، ثورة على محاولاتنا للسيطرة على السرد، وثورة على أوهام التقدّم الخطي، وثورة على فكرة أنّ الإنسان سيد قدره.
حين نُدرك هذا، نرى كيف يتحول التاريخ إلى سلطة رمزية تعيد تشكيل وعينا. إنه يطالبنا بأن نعترف بفشلنا وأخطائنا، لا لكي نسجن أنفسنا فيها، بل لكي نتحرر من وهم الكمال. وهنا تتجلّى المفارقة، ما نخشاه في العمق ليس الماضي، بل الحرية التي يكشفها الماضي، لأنّ مواجهة أخطائنا تفرض علينا أن نغيّر الحاضر، وهذا هو التحدّي الأشد.
لذلك يصبح التاريخ مجالاً للصراع بين الخوف والخلق، من جهة، هو قوة قهر، لأنه يعرّينا أمام أعيننا ويذكّرنا بأنّنا نتكرّر. ومن جهة أخرى، هو حافز للتحرّر، لأنه يبرهن أنّ كل لحظة جديدة تحمل إمكانية التخطّي.
ربما لهذا كتب نيتشه أن “التاريخ إذا استُهلك بلا وعي يصير سُمّاً”، فهو إن لم يُستفد منه بحكمة، يتحوّل إلى عبء يكبح حرية الإنسان ويجمّد صيرورته. غير أن فهمه لا يقتصر على الوقائع وحدها، بل هو حوار مستمر بين الحاضر وما مضى كما رأى غادامر، حيث يصبح الماضي نصًا حيًّا يُعاد صياغته في ضوء وعينا وحرّيتنا. وفي هذا السياق، يتقاطع قول ريكور: “الذاكرة ليست مجرد استحضار، بل إعادة صياغة مستمرة للزمن”، مع فكرة أن الإنسان ليس متلقياً سلبيًا للتاريخ، بل فاعل يضيف إلى نصه المفتوح ما يمنحه من إرادة ومعنى.
هوبسباوم يذكّرنا بأن “التاريخ نتاج الإنسان لكنه لا يتركه حرًّا بالكامل”، مما يضعنا أمام التوتر بين الحتمية والاختيار، وبين الوقائع الماضية وحرية التأويل. أما بروست فيُبرز أن “الزمن الماضي يعيش فينا أكثر مما نعيش فيه”، إذ يؤكد أثر التاريخ الرمزي على وعينا وعلى إمكاناتنا في الابتكار والتغيير. ويأتي ياسبرز ليقول: “كل إنسان يواجه التاريخ كمسألة وجودية، فهو امتحان للحياة والحرية”، ليضعنا أمام حقيقة أن تحدي التاريخ ليس مجرد مواجهة للماضي، بل ممارسة للحرية والإبداع في كل لحظة حياة.
لكنّ هذا التاريخ في الوقت نفسه جعل من “التأمل التاريخي” أداةً لتحرير الإنسان من عبودية التكرار. فالتاريخ ليس قدراً مكتوباً، بل نصٌّ مفتوح، وما نخافه هو أن يفضح كسلنا أمام حريتنا.
إن مواجهة التاريخ ليست استسلاماً لسطوته، بل وعيٌ شجاع بكونه فضاءً يتقاطع فيه الفشل والأمل، الموت والميلاد، العدم والخلق. حين نراه كذلك، لا يعود كابحاً للصيرورة، بل يصبح شريكاً في ابتكار المعنى، مهما بدا كائناً أسطورياً يتحرك بنظامه الخاص
السؤال: هل التاريخ قوّة تُحاكمنا أم نصّ نعيد كتابته؟ حين نقول: «قد نكون أو لا نكون»، فنحن نلمّح إلى التاريخ ليس ضمانةً للوجود، بل ساحة امتحان. قبوله بأحكامه المطلقة يشبه اعتراف الإنسان بحدود حريته، لا مهرب من الوقائع التي جرت، لكن طريقة قراءتها هي ما يحدد حريتنا.
هنا يطلّ سؤال نيتشوي آخر عن “التاريخ النافع للحياة”؛ فالتاريخ قد يُقيد إن قرأناه كقدرٍ مُبرَم، لكنه يتحوّل إلى طاقة تحرّر حين نقرأه كحافزٍ لخلق مستقبلٍ مختلف. التاريخ ليس انتصارًا للغيب ولا للعقل وحدهما، بل هو فضاء صراعٍ حيّ تتقاطع فيه الحتمية والاختيار، المجهول والممكن. فإذا استسلمنا لسطوته المطلقة صرنا أسرى العدم واللاجدوى، وإذا أنكرناه جملةً فقدنا الجذور والمعنى.
إنّ تحدّي التاريخ، في جوهره، وعيٌ مزدوج، أن نعترف بقوّته الكاسحة التي لا تُلغى، وفي اللحظة نفسها نمارس حريتنا في إعادة تأويله وكتابته، فنحيا لا كضحايا نصٍّ مكتمل، بل كفاعلين في نصّ مفتوح لم ينتهِ بعد، نصٍّ لا يُنجز إلا بقدر ما نمنحه نحن من إرادة ومعنى.
***
د. مصـطـفــى غَـــلمـان