قضايا
أنور ساطع أصفري: المثقف العربي والفكر المعاصر بين الواقع والطموح
قبل أن نغوص في أعماق الفكر المعاصر، والتدوين العربي الجديد، جميلٌ أن نتوقّف قليلاً لنتأمل واقع المثقف العربي الذي يُعاني كثيراً من التهميش والإحباط، بسببٍ رئيسي يتجلّى بغياب مشروع النهضة القومية الخاصّة بالأمّة، وبالتالي غياب أي مشروعٍ حضاري أو ثقافي عربي مشترك.
الواقع الذي يعيشه المثقف أو المفكر العربي يُدركه الجميع، فهو ليس بمعادلةٍ كيميائية أو فيزيائية مُعقّدة، بل حتّى أبسط المتابعين والذين هم من خارج الوسط الثقافي والفكري يُدركون تماماً أن الواقع الثقافي والفكري في تراجعٍ ملحوظ، وينحدر رويداً رويداً نحو الهاوية.
نعم هناك متحدّثون عن خططٍ ومشاريع ثقافية، وقد أكون أحدهم، ولكن هذه الخطط أو المشاريع لا تعدو إلاّ محاولات فردية، وكل الأبجدية التي نتحدث من خلالها ما هي إلآّ من باب التمنّي ليس إلاّ، لأن الواقع يحتاج إلى تكاتفٍ فاعل وجاد وجهدٍ جماعي عربي، ومؤسساتي من أجلِ أن نقول بأننا نخطو الخطوة الأولى السليمة نحو الأفضل، أو نحو برّ الأمان.
فلو كانت الأوضاع على الساحةِ العربية شبيهة بأوضاعها في منتصف القرن الماضي، أعتقد لكانت العملية أسهل وأيسر، لكن منذ حوالي نصف قرن اختلطت الأمور واختلف الواقع الذي نعيشه كثيراً، فهناك تأثيراً وتأثّراً بالثقافة الغربية التي تسللّت حتّى إلى منازلنا وغرفِ نومنا، مع كاملِ اعترافنا بأن الأجهزة الإعلامية والثقافية العربية لعبت دوراً كبيراً في تفكيك الكيان الفكري والتعليمي والتربوي والثقافي العربي.
حيث أن أرضية التفاعل الفكري والثقافي العربي الآن هي أرضية هشّة، وهذا لا يعني نهائياً بأن التقصير من الجانب الأدبي أو الثقافي أو الفكري، بل التقصير وقولاً واحداً هو من جانب السلطات العربية العليا المسؤولة على إدارة هذا المنحى.
حتّى في مناحٍ أخرى هناك تهميش مفتعل من قبل السلطات على نشاطات اقتصادية بعينها، أو تجارية، حتّى أفراحنا بحاجةٍ إلى موافقةٍ مُسبقة، وهذا يؤكّد بأنه من أجل أن تكون هناك إمكانية للتفاعل الفكري والثقافي العربي لا بُدّ أولاً من إعادةِ النظر في كلّ خطاباتنا السياسية والإعلامية والتربوية والثقافية والاقتصادية والدينية، كي تكون هناك إمكانية فعلية لنشاط المجتمع العربي في مختلف مجالاته.
والمقصود هنا هو لفت الإنتباه إلى أن كل تقصير على الساحةِ العربية مردّه إلى قرارات سياسية سلطوية.
نحن عشنا خلال نصف القرن الماضي حالة صراعٍ بين الحداثة والأصالة، آخذين بعين الاعتبار بأن أغلبية ذلك الصراع كان مُفتعلاً، فالحداثة هي شيء طبيعي جداً، وعند كلّ الشعوب، لكن عندما نختلف وبعناد حول الحاضر والماضي، فإننا وقولاً واحداً سنخسر المستقبل، هناك شعوب شهدت حداثة قوية في مجتمعاتها، لكنها لا تزال تتمسّك بثوابتها وقيمها، وتتغنّى بتراثها الأصيل الذي تعتبره خطاً أحمراً أمام الجميع.
نحن ما يقلقنا هو التبعية والتي تتمدد أخطارها لتصيب كل جانبٍ وكلّ مجال، وغياب الديمقراطية على الساحة العربية تعني بأن المعّول الفاعل على أرضية الأمّة هو معول السلطان.
الجهاز الإعلامي على الساحة العربية يحتكر ويُشوّه كل الأمور، يحتكر الرأي والتعبير والتدوين، وكلّها أجهزة روتينية، لا تملك التعبير عن رأيها، لأنها أسيرة مراكز القرار، وهدفها الأساسي هو التمجيد وعلى الدوام بالسلطان وبمن حوله الذين يملكون القرار.
في منتصف القرن الماضي كنّا نقرأ كُتباً تتناول حرية الرأي والتعبير، وحقوق الإنسان، وكلّها كانت تضع المواطن والوطن في المقام الأول، لكن بعد تلك الآونة، وجدت الأجهزة الحاكمة الجديدة بأن بقاء الأمور على ما هي عليه يؤثّر سلباً على بقاء القرار بيدها، وخوفاً من خروج الواقع عن السيطرة، بدأوا يُروّجون شعارات " سلامة الأمّة " و" سلامة الأمن العام " و" الإنضباط "، بهدف الحفاظ على الفساد السياسي والحكومي العام.
وهكذا تمّ إفراغ هذا المحور بكامله من محتواه، وتمّ فرض الرقابة على كل شيء، من أجل أمن الوطن واستقراره كما روّجوا.
وتم اعتقال الكتّاب وأصحاب الرأي الحر والمدونون، لأن معظمهم كانوا " إنسان " واضحون، صادقون بكل كلمةٍ يخطّونها.
إن المؤسسات الإعلامية والثقافية العربية الفاسدة ترتدي ثوب الأيديولوجيا المشبوه الذي يُبرر كل الأفعال والمتغيرات من خلال شعاراتٍ يتم من خلالها استقطاب البسطاء من أبناء الشعب، آخذين بعين الاعتبار بأن الدول الأخرى تلتزم بايديولوجيتها بعيداً عن الزيف أو التلاعب، حيث أن الوضع في بلادنا العربية مختلف، لأن الأيديولوجيا عندنا عبارة عن رداء ليس إلاّ، وهناك فوارق كبيرة بين النظرية والممارسة على أرضية الواقع.
فبين أجنحة الأيديولوجيا عند العرب يوجد الجمود وعدم الرغبة بالتطور، ومحاولة إبقاء الحال على ما هو عليه، والتمسّك بالنموذج المعمول به، وفي هكذا حالة نفتقد الإبداع، نفتقد الفكر الإيجابي، والثقافة والبلاغة والتجديد والسياسة والاقتصاد.
ولو تأمّلنا جيداً في تاريخنا نجد أن مفهوم البلاغة يفتقد أي علاقة بالمفهوم الفكري ضمن البيئة التي نمت فيها، بينما كانت وثيقة الصلة بالأصول وعلم الكلام والنحو والمنطق.
إنّ الإنسان السوي مُكلّف بالاجتهاد وتجديد المفاهيم في حياته ومحيطه وفي البيئة التي يحياها، وفي الوطن والأمّة.
لكن الأمّة الآن في حالةِ إنهيار وتردٍ، ولعلّها لم تشهد حالة تفكك وتقزّم كما هي عليه الآن، وهذا التردّي هو شامل وعام، لا استثناءات فيه، لذلك من الضروري أن تكون هناك صحوةٌ توقظ الجميع قبل فوات الأوان، لا بُدّ من تحرير العقل العربي وإعادة بناء فكر وثقافة الأمّة، كي نستطيع أن نُعيد للأمّة مكانتها ودورها التاريخي والثقافي والفكري، كي تُكمل مسيرتها على أُسس واضحةٍ وسليمة مع الحفاظ على التعدد والتنوّع الذي ذخرت به ثقافياً وحضارياً وتاريخياً. طبيعة الاستشراف عند الإنسان لا تتحقق لأي كان، لأنها صفة تنطبع في ذاكرة المبدعين الذين يتخطّون الواقع ليحلّقوا في عالم من الاستشراف يستمدونها من خلال معطيات الواقع، فترتد عليهم صوراً استشراقية معاصرة تُنبّىء بما يمكن أن يحصل في المستقبل الإبداعي، المثقف والمبدع هو الذي يتحد مع ذاته فيرى في مجتمعه ووسطه ما لا يراه عامّة الناس.
فيرى عدم إمكانية بذل الجهود الإصلاحية بسبب هيمنة الجمود والروتين الممل على فكر وثقافة الأمّة، وانتشار مظاهر الاستبداد والظلم وقمع الحريات والكلمة الحرّة، وعدم توحّد رؤى الإصلاح والتغيير، لكونها محكومة بتبعات مرجعية تختلف رؤاها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
الاستعمار الحديث اكتفى بموضوع التبعية لكافة بلدان المنطقة، وصادر منها قرارها السياسي والثقافي والفكري والعسكري والاقتصادي فمات الإبداع والتطور.
لذلك نحن بأمسِ الحاجة إلى تجديد الإبداع الثقافي والفكري، والأمّة ليست بحاجةٍ إلى الخروج عن الرؤية الكلية التي تُحدد مسيرتها وخصائصها ومكوناتها ومقوماتها. الإبداع هو شمول واستيعاب بشكلٍ مُجرّد، وهو الذي يرصد كل التحديات لمختلف مناحي الحياة، وهو الذي يطرح بل ويؤسّس لكل البدائل الحضارية والثقافية والجمالية وسواها، وهو الذي يُحرّض العقل العربي الذي يرفض الرتابة والانحباس والصمت، وهو الذي يتراجع أمام الغزو السياسي ومصالحه الفئوية.
فمن خلال الرؤية السليمة، فإن ما يعنينا في المقام الأول هو الإنسان، الذي يملك الوعي والعقل والممتلك مناهج معرفية لا يمكنها أن تستمر بدون هدفٍ تروم إليه. لذلك فإن مفاهيم الفكر المعاصر تُقيّم الإنسان ونصوصه إن كانت دراسات أدبية أو لغوية أو نقدية، وهذا التقييم النقدي ينبثق من خلال أُسس فلسفية وفكرية تتناول كل شيء شكلاً ومضموناً.
إنّ النقد المعاصر يغوص في ماهيّات الأمّة والأجيال أو شخصيات في الجانب التاريخي، ويعمل على تفسير خصائصها وتحوّلاتها وتطوراتها، ويُفنّد الفوارق تماماً بين أدباء العصر الواحد، في بيئةٍ واحدة، ومن شأن ذلك أن يجعل من النص وثيقةً مهمة.
وفي الجانب الاجتماعي الذي انبثق من الجانب التاريخي، يؤكّد الفكر المعاصر، والنقد المعاصر أن " الفن للفن " ويؤمن بالأدب الملتزم والهادف، والذي يخدم المجتمع والإنسان، وهو من المناهج الأساسية في الدراسات الأدبية والنقدية.
وبالتالي هو فكر معاصر، ومنهج يُوثّق الأمور ويربطها بشكلٍ جيد، ليضعها بين طرفي الأدب والفكر والمجتمع، بحيث يكون الأدب هو الممثّل للحياة على مستوى الجماعة أو الجمهور، والمجتمع هو المنتج الأساسي والراعي للأعمال الأدبية، والمتلقي هو الحاضر في ذهن الأديب، وهو وسيلته وغايته في آنٍ واحد.
ووفق الفكر الماركسي فإن نتيجة التطور الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي وارتباطه بالتطور الإبداعي الأدبي لا تظهر مباشرة، بل تحتاج لمرور أجيال وعصور حتّى يتفاعل الأدب مع ظواهر التطور المختلفة ويكتسب القوّة منها.
وفي مجال المنهج الاجتماعي فهناك اتجاهان، الاتجاه الكمّي، الإتّجاه الجدلي، ولكن في الفكر المعاصر والنقد الحديث لم يكن لهذا المنهج روّاد مقتنعون به، يربطون بين الإنتاج المادي والإنتاج الأدبي.
وهناك المنهج الأسلوبي فإنّه يحتوي على الاسلوبية التعبيرية، والأسلوبية البنائية، والأسلوبية الأدبية، والأسلوبية اللغوية، والأسلوبية الاجتماعية، وأسلوبيات أخرى مثل الصوتية والوظيفية.
وهناك مناهج عديدة حديثة، وكلّ منها أسلوبه الخاص في معايرة الخطوات، وكل المناهج المعاصرة تعتمد على آليات عمل ووسائل وأدوات يطبّقها الناقد على النص من خلال خطةٍ واضحة للمدخلات والمخرجات والخطوات.
إنّ حاضرنا العربي لا يزال هشّاً، يطمح إلى تحقيق لحظةٍ نهضوية، وهذه النهضة لا تتحقق من خلال اعتمادنا على تراث غيرنا، فالنهضة ليست سلعة كي نستوردها، بل هي نتاج انتظام الجماهير في مشروعٍ نهضوي تنويري يُحقّق نهضة كل المجالات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولا بُدّ من طرح السبل والوسائل لتحقيق هكذا هدف، من خلالِ برنامج عملٍ متكامل يُعبّر عن رأي وطموح المواطن " الإنسان " دون أي وصايةٍ أو إملاء.
***
د. أنور ساطع أصفري






