قضايا

زهير الخويلدي: القرار الأنطولوجي الحاسم للذات الجمعية

بفك الارتباط بالمركزية الغربية وتغيير محاور التحالفات

مقدمة: في عصر يشهد إعادة تشكيل النظام العالمي بوتيرة متسارعة، يبرز مفهوم القرار الأنطولوجي كأداة تحليلية عميقة لاستيعاب التحولات الجذرية التي تطرأ على هويات الشعوب والحضارات. هذا القرار، الذي يتجاوز الاختيارات الاستراتيجية السطحية ليغوص في جوهر الكينونة الجماعية، يُحدد بالضرورة في فك الارتباط بالمركزية الغربية كبنية هيمنة معرفية وسياسية، وفي تغيير محاور التحالفات نحو شراكات تعكس استقلالية وجودية حقيقية. ينطلق هذا التحليل الشامل من رؤية متعددة التخصصات تجمع بين الفلسفة الأنطولوجية، والنظرية السياسية ما بعد الاستعمارية، والدراسات الجيوسياسية، والتحليل المعرفي للهيمنة، ليكشف عن الآليات الدقيقة التي تحول هذا القرار من مجرد إعلان سياسي إلى فعل تأسيسي يُعيد صياغة الذات الحضارية والعلاقات الدولية. فهل يمكن اعتماد الأنطولوجيا السياسية كمدخل لفهم التحولات الاجتماعية والصدامات الحضارية؟

الإطار النظري:

القرار الأنطولوجي هنا ليس حدثاً عابراً، بل هو لحظة وجودية حاسمة تُشبه "الانقلاب الكوبرنيكي" في الفكر، حيث تنتقل الذات الجمعية من موقع التابع المُعرّف من الخارج إلى موقع الفاعل المُعرّف ذاتياً. هذه اللحظة تتطلب قطيعة معرفية جذرية مع المركزية الغربية، التي لم تكن يوماً مجرد تفوق مادي، بل بنية أنطولوجية تُحدد ماهية الوجود البشري انطلاقاً من مرجعيات أوروبية-أمريكية، مما يُحول الآخر إلى كيان ناقص يُقاس دائماً بمعيار الغرب. فك الارتباط، إذن، هو عملية تحررية متعددة الأبعاد تشمل المجالات المعرفية والاقتصادية والثقافية والسياسية، بينما يُمثل تغيير محاور التحالفات الجانب الإبداعي لهذا التحول، حيث تُبنى علاقات جديدة تعكس تعددية الكينونات الحضارية وتُنهي عصر الهيمنة الأحادية.

البعد الأنطولوجي: رفض الوجود كتابع واستعادة السيادة على الوجود

في صميم الفلسفة الأنطولوجية، يُعرف الوجود بوصفه السؤال الأول والأخير عن ماهية الكينونة. عندما نتحدث عن قرار أنطولوجي للذات الجمعية، فإننا نتحدث عن رفض جذري للوجود المفروض، أي رفض للكينونة كما تُشكلها المركزية الغربية عبر آليات الاستعمار، ثم الاستعمار الجديد، ثم العولمة النيوليبرالية. هذه المركزية ليست مجرد نظام سياسي-اقتصادي، بل هي بنية أنطولوجية تُحدد ما هو "حقيقي" و"عقلاني" و"تقدمي" انطلاقاً من تجربة تاريخية محددة، مما يُحول الذوات غير الغربية إلى هامش أو استثناء يُطالب دائماً باللحاق.

يُشبه هذا الرفض مفهوم "القطيعة الإبستمولوجية" عند غاستون باشلار، لكنه مُطبق على مستوى الجماعة: قطيعة مع الإبستمي الغربي كمعيار وحيد للمعرفة. فالذات الجمعية، سواء كانت الأمة العربية أو الحضارة الإسلامية أو الجنوب العالمي ككل، لم تُمنح يوماً الفرصة لتعريف وجودها بمصطلحاتها الخاصة. بدلاً من ذلك، وُصفت دائماً بوصف نقص: "متخلفة"، "غير ديمقراطية"، "لاعقلانية". فك الارتباط الأنطولوجي يعني، إذن، استعادة الحق في تعريف الذات، ورفض الوجود كـ"آخر" للغرب. في هذا السياق، يُصبح القرار الأنطولوجي فعلاً تأسيسياً يُشبه "الولادة الثانية" للذات الحضارية. يتطلب هذا الفعل شجاعة وجودية جماعية، حيث تُدرك الذات أن حريتها الحقيقية تبدأ من رفض التعريف الخارجي. كما يُذكرنا مارتن هايدغر بأن الوجود البشري هو دائماً وجود في العالم، فإن الذات الجمعية لا تستطيع أن تكون حرة إلا إذا أعادت تعريف عالمها بمصطلحاتها. هذا يعني بناء أنطولوجيا بديلة تستمد مفاهيمها من تراثها الحضاري: من ابن خلدون في فهم العمران، إلى غاندي في مفهوم الاكتفاء الذاتي، إلى مالك بن نبي في فكرة "القابلية للاستعمار" كحالة نفسية-وجودية يجب تجاوزها.

البعد المعرفي: فك الارتباط كقطيعة إبستمولوجية

لا يمكن فهم فك الارتباط دون التركيز على بعده المعرفي، إذ إن المركزية الغربية هي في الأساس هيمنة معرفية تُحدد ما يُعتبر "علماً" و"حقيقة". هذه الهيمنة تتجلى في سيطرة المناهج الغربية على الجامعات، والمؤسسات البحثية، والنشر الأكاديمي في الجنوب العالمي، مما يُنتج نخباً محلية تُفكر بمصطلحات غربية حتى عندما تنتقد الغرب. فك الارتباط المعرفي يعني، إذن، بناء إبستمي بديل يستمد شرعيته من التراث المحلي مع انفتاح نقدي على العالم.

هذا البناء يتطلب عدة خطوات عملية:

أولاً، إعادة كتابة التاريخ من منظور داخلي، بعيداً عن الرواية الاستعمارية التي تُصور الحضارات غير الغربية كـ"راكدة" قبل الاستعمار.

ثانياً، إحياء اللغات المحلية كأدوات للتفكير الفلسفي والعلمي، إذ إن اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي بنية لتشكيل الواقع.

ثالثاً، تطوير مناهج تعليمية تُدمج التراث المحلي مع العلوم الحديثة، كما في تجارب الصين في دمج الكونفوشيوسية مع الماركسية، أو الهند في إحياء الآيورفيدا كعلم طبي موازٍ.

رابعاً، بناء مؤسسات بحثية مستقلة لا تخضع لتمويل غربي مشروط، مما يُتيح حرية البحث دون ضغوط أيديولوجية.

في السياق العربي، يُعد مشروع "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري نموذجاً لهذا التحول المعرفي. الجابري لا يرفض العقلانية الغربية، بل يسعى لاستعادة العقلانية العربية-الإسلامية كما تجلت في ابن رشد والفارابي، مما يُتيح بناء معرفة حديثة متجذرة في التراث. هذا النهج يُظهر أن فك الارتباط ليس رفضاً للغرب، بل رفضاً للهيمنة، مع انفتاح على الحوار بين الحضارات على قدم المساواة.

البعد الاقتصادي-السياسي: من التبعية إلى الشراكة المتكافئة

على المستوى الاقتصادي، يُمثل فك الارتباط رفضاً لنموذج التبعية الذي فرضته نظرية التحديث في القرن العشرين، والتي رأت في الغرب النموذج الوحيد للتنمية. هذا النموذج أنتج اقتصادات هامشية تعتمد على تصدير المواد الخام واستيراد التكنولوجيا، مما جعل الدول النامية رهينة لتقلبات السوق العالمية. فك الارتباط الاقتصادي يعني بناء نماذج تنموية بديلة تعتمد على التكامل الإقليمي، والاستثمار في التكنولوجيا المحلية، والتنويع الاقتصادي.

تجارب مثل البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) تُظهر إمكانية هذا التحول. هذه المجموعة لم تكتفِ برفض الهيمنة المالية الغربية، بل أسست بنك التنمية الجديد كبديل عن البنك الدولي، وطورت عملات محلية للتجارة البينية، مما قلل الاعتماد على الدولار. كذلك، مبادرة الحزام والطريق الصينية، رغم انتقاداتها، تُمثل نموذجاً للشراكة الجنوب-جنوبية يعتمد على البنية التحتية المشتركة بدلاً من الاستثمار الاستغلالي.

أما تغيير محاور التحالفات، فيتجاوز التحالفات العسكرية ليشمل الشراكات الثقافية والتكنولوجية. على سبيل المثال، تعاون روسيا مع دول إفريقيا في مجال الطاقة النووية، أو شراكة الهند مع دول الخليج في الذكاء الاصطناعي، تُظهر كيف يمكن للتحالفات الجديدة أن تُنتج قيمة مضافة مشتركة دون شروط سياسية مهينة. هذه المحاور ليست مجرد تحالفات براغماتية، بل هي تعبير عن رؤية عالمية بديلة ترى في التعددية القطبية ضماناً للاستقرار والعدالة.

البعد الثقافي-النفسي: مواجهة الاستلاب واستعادة الكرامة

على المستوى الثقافي، يتجلى فك الارتباط في مواجهة الاستلاب النفسي الذي أصاب الذات الجمعية جراء قرون من الاستعمار. هذا الاستلاب يُظهر نفسه في تفضيل المنتجات الغربية، واعتبار اللغات الأجنبية علامة على التحضر، وتقييم الذات بمعايير خارجية. استعادة الكرامة الثقافية تتطلب إحياء الروايات المحلية، وتعزيز الفنون والآداب الوطنية، وتطوير إعلام مستقل يُروج للقيم المحلية. في السياق العربي، تُعد حركة اليقظة العربية في القرن التاسع عشر محاولة أولية لفك الارتباط الثقافي، لكنها بقيت أسيرة للإعجاب بالغرب. أما اليوم، فإن منصات رقمية عربية، أو المسلسلات التركية التي تنافس هوليوود، تُظهر إمكانية بناء صناعة ثقافية مستقلة. كذلك، إحياء التراث الموسيقي والأدبي في إفريقيا وآسيا يُسهم في بناء هوية جماعية متماسكة.

التحديات والمخاطر: بين التحرر والعزلة

رغم أهميته، يواجه هذا القرار تحديات جوهرية.

أولاً، خطر الوقوع في النمطية أو الرومانسية الحضارية، حيث تُصور الذات الجمعية ككيان متماسك خالٍ من التناقضات.

ثانياً، صعوبة بناء بدائل اقتصادية في ظل الترابط العالمي، مما يتطلب استراتيجيات انتقالية مدروسة. ثالثاً، مقاومة النخب المحلية المرتبطة بالمركز الغربي، والتي قد تُفسر فك الارتباط كتهديد لمصالحها. رابعاً، التنوع الداخلي للذات الجمعية، الذي يتطلب حواراً ديمقراطياً شاملاً لتجنب الإقصاء.

خاتمة:

في التحليل النهائي، يُمثل القرار الأنطولوجي الحاسم بالنسبة للذات الجمعية لحظة تاريخية نادرة تُتيح إعادة تأسيس الوجود على أسس أصيلة ومستقلة. فك الارتباط بالمركزية الغربية ليس فعلاً سلبياً أو انعزالياً، بل هو عملية إبداعية تُتيح للذات الجمعية أن تُعيد اكتشاف ذاتها، وأن تُسهم في بناء عالم متعدد الأقطاب يعكس تنوع الكينونات البشرية. تغيير محاور التحالفات، من جانبه، هو التعبير العملي لهذا التحول، حيث تُبنى شراكات جديدة تعتمد على الاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة. هذا القرار ليس خياراً بين خيارات، بل هو ضرورة وجودية في عصر تتآكل فيه الهيمنة الغربية تدريجياً، وتبرز فيه قوى جديدة تُطالب بحقها في تعريف العالم. إنه مشروع حضاري مستمر يتطلب شجاعة، ووعياً، وصبراً، لكنه في الوقت نفسه وعد بمستقبل أكثر عدلاً وتنوعاً، حيث تُصبح الذات الجمعية ليست مجرد مشارك في التاريخ، بل صانعة له. فكيف يمكن تحويل هذا القرار الأنطولوجي الى مشروع حضاري مستمر؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

في المثقف اليوم