قضايا

عصمت نّصار: الكذب في الثقافة الإسلامية وغرابيل الفلسفة النقديّة

إذا كان التفكير الناقد المعني بفحص بنية الثقافة الغربية في العصر الوسيط يقودنا إلى ضرورة تحليل الملابسات والوقائع والعوامل التي ساهمت مساهمة جادة في ذيوع الكذب بين الاتجاهات الفلسفيّة التي كانت تمثل قادة الرأي في هذه الحقبة؛ فإنّ المراجعة المنهجية الديكارتية وضوابط الاستقراء التي وضعها فرنسيس بيكون سوف ترشدنا إلى وجوب عدم إغفال الحلقات والروابط الداخلية التي تشكل الرحم الذي يلفظ الكذب في القضايا المطروحة وتحليله جينيًا للإحاطة الكاملة بمواطن الكذب وأسباب ظهوره.

أي أن تثاقف الاتجاهات والنزعات المتباينة لا ينبغي اعتباره العلة الوحيدة لذيوع الكذب وانتشاره خلال المصاولات والمناظرات الجدلية التي اتخذت من الكذب آلية وسلاح لنقض المخالفين في ميدان الجدل الدائر بين المتعارضين، بل إنِّ جوهر القضايا المطروحة للتثاقف والنقاش والجدل هي التي تحمل جراثيم غير مرئية للإفك والاجتراء والدَّس والتلبيس والخيانة والغش ولاسيما خلال القناة الواصلة أو الجسر الرابط بين النَّص الإلهي ومقاصده، والفكر الإنساني ومبرراته ودوافعه؛ ذلك الجسر الذي يمثله التأويل والتحقيق من جهة والأيادي الخفيّة التي تثير الشقاق والصراع  في الثقافة التي ارتضت الانضواء تحت راية واحدة ولاسيما عقب اشتغال العقل القائد بأمور الحكم والسياسة من جهة أخرى (أعني الثقافة الإسلامية التي تفشى الكذب في عقلها الجمعي)؛  فانقسمت على أثره إلى شيع ومذاهب وجماعات وأحزاب ونحل وعصبيات بدّدت الصدق الذي ارتضته هذه الشريعة دستورًا لها؛ فباتت تعاني من تفشي الكذب في كل مباحثها النقلية والعقلية (الفقه، علم الكلام، الفلسفة، التصوف) ولم ينقذ هذه الثقافة مما آلت إليه بنية الفكر في الفلسفة الغربية من جهل ونقوص وفساد أخلاقي (واستبداد سياسي) سوى عاملين أولهما: عدم الخلط بين  دائرة البحث العلمي والنّص المقدس وفتح باب الاجتهاد للتوفيق بين الدين والعلم. وثانيهما: اتساع رقعة التسامح العقدي لاستيعاب الأغيار والاحتكام إلى العقل في الحكم على الوافد من المعارف والمذاهب والآراء ولاسيما في صدر الإسلام وفجر دولته قبل ظهور الفتنة الكبرى في الثقافة الإسلامية ثم في ظُهر تلك الحضارة في كنف العقلانية والاشتغال بالعلم وانتصار الحكام؛ لتصور المدينة الفاضلة وعالمية الإسلام، وحرصهم على حماية الرعية، واحترام قادة الرأي والتمسك إلى حد كبير بالأخلاق الشرعية، وتفعيل مقاصدها إلى مرحلة أفول نجم هذه الحضارة وتفشي كل أشكال الكذب في صلب دستورها وحلول الرذائل مكان الفضائل وارتفاع رايات الأباطيل وانتشار بيوت اللهو والمواخير، فأهملت صروحها العلميّة وضعفت أصولها العقديّة وانطفئت مصابيح الحريّة  واستبدل التفكير بالتكفير وانصرف حديث أمراء المنابر عن التفكير في الاجتهاد والتجديد، إلى البحث في شروط انعقاد الإمامة وقتال المخالفين ودركات الالحاد وعقوبة الردة وقتل الكافرين.

وقد أردنا من ذلك الاستهلال تبرير حرصنا على الاستعانة بغرابيل الفلاسفة الناقدة لإثبات علة ما كان، وأسباب الانكسار والانتصار في هذا العصر الكذوب.

وسوف نكشف في السطور التالية عن أهم الاتجاهات العقليّة التي تصلح غربلتها لانتقاء النافع من أفكارها وتصوراتها والحلول التي قدمتها لمجابهة معوقات واقعها والكشف عن الدخيل الذي كان ينبغي عليها استبعاده أو معالجته حتى لا تؤول إلى ما آلت إليه.

***

ولمّا كان من العسير الفصل بين الاجتهادات العقلية في القضايا الفقهية والمقاصد الإلهيّة، فسوف نحتكم إلى مباحث المشتغلين بتأصيل ثوابت الفكر الإسلامي - تلك التي تعبر عن جوهر فلسفة المسلمين - التي عنيت بدراسة الكذب وأشكاله وما يترتب على ذيوعه في شتى الميادين الحياتية؛ ومن ثم سوف نبدأ بمباحث الفقهاء وتحليلاتهم وأساليبهم في مواجهة خطره وسبل الحد من شره.

فالكذب عند الفقهاء مُحرّم في ذاته؛ وذلك بمقدار نقده أو مخالفته لمفهوم الصدق والحق، ومختلف درجات اليقين أو كل ما يترتب عليه من صور مسايرة للشيطان وضلالاته واقترابه من الشرور النقلية والعقليّة.

أمّا العقوبات المصاحبة للكذب، فتقدر بنتائج تطبيقاته وأثرها على سلامة العقيدة وخيريّة المجتمع وصلاحه مثل استحلال المحرمات والترغيب في المكروه من العادات والأقوال والمعتقدات وهي تنقسم إلى قسمين.

القسم الأول: (عقابات جنائيّة مثل التشكيك في الثوابت العقدية أو انتهاك الحدود): ولاسيما إذا كان الغرض من الكذب هو الإضلال أو الخيانة أو الخداع أو الاجتراء على ثابت عقدي أو الدّس والتلبيس والتدليس في أمور تفسد العقيدة، وغير ذلك من الآثام المترتبة على ذيوعه في المجتمع، والمخاطر التي ينجم عنها شرورًا تتعارض مع المقاصد الشرعيّة للصدق.

أمّا القسم الثاني من العقوبات؛ فيتعلق بالعبث في الأحكام المتعلقة بالكذب المباح والمندوب التي تتوقف على تقديرات الفرد في جوازه التلبيس أو تزوير الوقائع لمعالجة مشكلة أو حل قضية فُرضت عليه ويحدّد مقدار عقوباتها الحاكم، أو ولي الأمر تبدأ باللوم وتشدّد بالتعاذير غير المنصوص عليها.

ولتفصيل ذلك قسم الفقهاء الكذب إلى خمسة أحكام: -

أولها: الكذب الواجب: إذا ما دفعت إليه الضرورة في المنافع العامة أو إفشاء تدابير الحروب وفي أمور السياسة التي تستوجب كتمان الحقائق أو في الخلافات الزوجيّة الحادة، والخصام بين الأشقاء وفي مجالس الصلح والعتاب بغرض الوئام والمحبّة أو لتهدئة العوام الغاضبين في الأزمات أو دفع قهر من متجبر؛ على أن يكون الكذب في كل هذه الأحوال هو "الخير" أو هو المعروف الذي حث عليه الشرع في مقاصده.

وثانيها الكذب المباح: وهو يجوز في المسامرة والمؤانسة والمناجاة بين الأزواج والمحبين والضحك الذي لا يخدش الحياء وفي المعاملات دون الشهادة في مجلس القضاء أو في القسم لإثبات الحدود والجنايات، أو في الوقائع التي تدنو من طمس الحقائق أو مساندة الجور.

وثالثها الكذب المندوب: إذا كان الغرض منه دفع ضرر متوقع حدوثه وهو فعل أو قول يستحب صاحبه ولا يعاقب تاركه ولا سيما في المواقف الترجيحية التي يصعب الفصل فيها بين الحسن والقبيح مثل المجاملة والمدح بالقدر الفاصل بين النفاق والرياء.

ورابعها الكذب المكروه: في الأمور التي تتعلق بالتربية والإرشاد والتعليم والأخبار وترويج الشائعات.

أمّا خامسها فهو الكذب المحرم: وهو إذا ما ترتب على فعله جناية تستوجب عقوبة أو حد أو خيانة وهو لا يعالج بالتوبة أو بالاعتذار مثل ضوابط عقد الزواج أو الطلاق أو قذف المحصنات أو الاتهام بالشبهة والظن، ويستثنى من ذلك الكذب الذي تتلوه توبة نصوحًا أو جهل صاحبه أو الخوف المرضي أو لغو الصغار والسفهاء.

***

وإذا ما حاولنا تحليل الخطاب الفقهي حيال الكذب فسوف نجد مضمونه يجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول (مقدمًا الثابت من القرآن، إذ وردت لفظة الكذب ومشتقاتها في نحو 220 آية، وصحيح السنة على المتغير من اجتهادات الفقهاء وآرائهم وذلك على نحو تطبيقي صالح لنفع المجتمع وتهذيب أخلاقه وتقويم عوائده وسلوك أفراده وذلك تبعًا لقناعات العقل الجمعي بهذا النهج التربوي وحكمة وإخلاص القائمين على تربية النشأ والتوعية والإرشاد على تنفيذه ونقله من طور الالزام إلى طور الالتزام حتى يصبح الصدق من مشخصات المنتمين للمجتمع المسلم - ولا يجانبنا الصواب عندما ندرج المباحث الأخلاقية الواردة في الخطاب الفقهي حيال قضية الكذب - ضمن النماذج الرائعة الممثلة لفلسفة المسلمين الخالصة التي لم تتأثر بأفكار السابقين أو المعاصرين من الحكماء أو الفلاسفة؛ الأمر الذي يبرر إدراج الشيخ مصطفى عبد الرازق (1947:1885 م)  وتلاميذه أمثال علي سامي النشار (1980:1917 م)  ومحمد يوسف موسى (1963:1899 م) علم الفقه وأصوله على رأس العلوم العقليّة الإسلامية التي تعبر عن فلسفة المسلمين الخالصة والطابع العملي في تفكيرهم وذلك لجمع آرائهم بين صحيح المنقول كما ذكرنا وصريح المعقول المتمثل في اجتهادات الفقهاء والمصلحين والمجددين الذين تمعنوا في فحص وصحة المنقول واستيعاب مقاصده الربانية الواردة في الوحي والحكمة النبوية التي جاءت في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من جهة، وامعنت العقل في دراسة طبائع البشر ومدركاتهم ونزعاتهم وانفعالاتهم ودوافعهم للكذب وعلله، وما يترتب عليه من مدار وما يمكن الحكم على بعضه بالاستحسان والنفع من جهة أخرى، محتكمين في النصف الأخير في تشكيل بنية اجتهاداتهم للواقع وما فيه من أحوال وأوضاع وتحولات ومن أهم أقوالهم في هذا السياق قول الفقيه عبد الله بن عتبة (ت نحو 86  هـ: 705 م) في كتاب "تاريخ التشريع الإسلامي" (إن الكذب في الخبر حتى لو كان للمفاخرة فهو غش وخداع ويقول اتقي الكذب وما أشببه، فالخبر يعتقده الناس على غير حقيقته وإن كان الغرض هو المفاخرة).

 وذهب أبو حامد الغزالي (ت 1111 م:505 هـ) في كتابه "إحياء علوم الدين" (إلى أن الكلام وسيلة إلى مقصد من المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان حقن دم محرم يتوقف على الكذب على ظالم يتعقبه فذلك الكذب واجب وإذا كان مقصود الحرب لا يتم، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة المجني عليه إلا بكذب، فالكذب مباح. ويقول أيضًا أن للمرء أن يتحرز من ذلك الكذب ويتأثم فيه جهد استطاعته؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه خيف أن يستطرد إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة؛ فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا للضرورة).   

كما أن جميعهم قد حذر من تقليد اجتهاداتهم باعتبارها ثوابت واجبة التطبيق؛ بل بينوا أن ما أفاضت به قرائحهم مرتبطة بزمانها ومن ثم يمكن تجديدها وتطويرها أو العدول عنها وتغيرها تبعًا لحاجة العصر في الثقافة السائدة. أمّا القسم الأول منها المتعلق بصحيح المنقول فيمكن الاجتهاد فيه أيضًا عن طريق التفسير والتأويل شريطة التزام المجتهدين بوجهة المقصد الشرعي الذي أشارت إليه الآيات أو الأحاديث الصحيحة ونذكر منها: قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار) (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا).

تلك كانت رؤية الفقهاء للكذب وعلى الرغم من ضوابط الخطاب الفقهي سواء في العرض أو المعالجة؛ فإن مردوده كان محدودًا وذلك لارتباطه بما نطلق الضمير أو قوة إيمان الفرد، أو وازعه الديني؛ فضغوط الحياة المدنية رغبت ضعاف النفوس عن المثالية الواقعية وانصرفت إلى اللذات الحسية والمنافع المادية فاستحلت من أجلها الكذب ذلك فضلًا عن إهمال معالجة هذه الآفة في التربية وسلوك العوام والخاصّة أيضًا بل عند المتظاهرين بحماية الخطاب الديني وعلماء الأمة فما برحنا نراهم جالسين في مصاف العلماء يزيفون ويتأولون ويفتنون ويدارون، ويصانعون على مرأى ومسمع من أرباب غرابيل الكذب، ومن ثم يجب أن نعترف بأن النصوص الدينية إذا لم تنتقل من الفقيه، لتسكن في القلوب وتفعل في السلوك فلا طائل منها حتى ولو كانت على لسان الأنبياء.

وللحديث بقيّة عن مبحث آخر من مباحث الفكر الإسلامي.  

***

 بقلم: د. عصمت نّصار

 

في المثقف اليوم