قضايا

خليل حمد: الإبداع في عصر التكنولوجيا

جدلية الموروث والعصرنة في تشكيل النص الإبداعي المعاصر

تتناول هذه الدراسة قضية الإبداع في عصر التكنولوجيا، من خلال تحليل العلاقة الجدلية بين استلهام الموروث الثقافي والتفاعل مع معطيات العصر الرقمي. تنطلق الدراسة من فرضية أن الإبداع المعاصر لم يعد مجرد إنتاج جمالي أو لغوي، بل أصبح فعلاً تواصليًا يتفاعل مع قارئ جديد تشكّل وعيه ضمن بيئة رقمية متسارعة. ومن ثمّ، فإن الكاتب المعاصر مطالب بإعادة صياغة أدواته الفنية والفكرية بما ينسجم مع متطلبات هذا القارئ العصري، دون التفريط في أصالة الموروث أو عمق الهوية الثقافية.

الكلمات المفتاحية: الإبداع، التكنولوجيا، الموروث، العصرنة، القارئ الجديد، الأدب الرقمي.

المقدمة

يشهد العالم المعاصر تحولات جذرية بفعل الثورة التكنولوجية التي غيّرت أنماط التفكير والإنتاج والتلقي في مختلف المجالات، ولا سيما في ميدان الإبداع الأدبي والفني. فقد أصبح الإبداع في زمن الرقمنة ظاهرة مركّبة تتقاطع فيها الفنون والمعارف والتقنيات، مما يفرض على الباحثين والمبدعين إعادة النظر في المفاهيم التقليدية التي حكمت العملية الإبداعية لعقود طويلة.

تنبع أهمية هذه الدراسة من كونها تسعى إلى استكشاف جدلية العلاقة بين الموروث الثقافي والعصرنة في تشكيل النص الإبداعي المعاصر، في ظل التحولات الرقمية التي أعادت تعريف مفاهيم النص، والكاتب، والقارئ. كما تهدف إلى إبراز كيف يمكن للمبدع العربي أن يوازن بين الأصالة والانفتاح، بين الجذور الثقافية والآفاق التقنية، ليصوغ نصًا قادرًا على التفاعل مع روح العصر دون أن يفقد هويته.

وتنطلق الدراسة من إشكالية محورية مفادها: كيف يمكن للإبداع أن يحافظ على عمقه التراثي وهويته الثقافية في ظل هيمنة التكنولوجيا الرقمية؟ وما السبل التي تمكّن المبدع من توظيف أدوات العصر لخدمة القيم الجمالية والفكرية الأصيلة؟

وللإجابة عن هذه الإشكالية، تعتمد الدراسة منهجًا تحليليًا نقديًا يقوم على تتبع مظاهر التحول في مفهوم الإبداع، وتحليل أثر التكنولوجيا في بنية النصوص المعاصرة، مع استحضار دور الموروث الثقافي في إثراء هذا التحول.

أولاً: مفهوم الإبداع في ضوء التحولات التكنولوجية

الإبداع، في جوهره، فعل إنساني يتجاوز المألوف نحو اكتشاف الجديد والمغاير. غير أن هذا المفهوم شهد تحولات عميقة مع الثورة الرقمية. فقد أصبح الإبداع اليوم مرتبطًا بقدرة المبدع على توظيف الوسائط المتعددة، والتفاعل مع فضاءات رقمية مفتوحة، تتجاوز حدود الورق واللغة التقليدية.

يشير عبد الله الغذامي (2005) إلى أن "التحول الرقمي في الثقافة العربية لم يعد خيارًا، بل أصبح شرطًا من شروط الوجود الثقافي ذاته"¹. وهذا يعني أن الإبداع لم يعد يُقاس فقط بجماليات النص، بل بمدى قدرته على التفاعل مع بيئة رقمية متغيرة، تستوعب الصورة والصوت والحركة إلى جانب الكلمة.

ثانياً: الموروث الثقافي كمنطلق للإبداع المعاصر

يُعد الموروث الثقافي خزانًا رمزيًا يغذي الإبداع ويمنحه عمقه التاريخي والإنساني. غير أن استلهام الموروث في عصر التكنولوجيا لا يعني استنساخه، بل إعادة قراءته وتأويله بما يتناسب مع روح العصر.

يرى محمد عابد الجابري (1991) أن "التراث ليس كتلة جامدة، بل هو طاقة فكرية قابلة للتجدد عبر القراءة النقدية"². ومن هذا المنطلق، فإن المبدع المعاصر مدعو إلى إعادة إنتاج الموروث في ضوء أدوات العصر، ليصبح التراث مادة حية تتفاعل مع الحاضر، لا عبئًا يثقل النص.

إن الموروث، حين يُعاد توظيفه بوعي نقدي، يتحول إلى عنصر إبداعي فاعل يسهم في بناء هوية النص المعاصر، ويمنحه بعدًا إنسانيًا يتجاوز حدود الزمان والمكان.

ثالثاً: القارئ الجديد وإشكالية التلقي في العصر الرقمي

أفرزت التكنولوجيا قارئًا جديدًا يختلف جذريًا عن قارئ الأمس. إنه قارئ متصل بالشبكة، سريع التفاعل، متعدد الوسائط، يستهلك النصوص عبر الشاشات لا عبر الصفحات.

تؤكد دراسات علم الاتصال أن "القارئ الرقمي يميل إلى النصوص القصيرة، المتفاعلة، والمفتوحة على الصورة والصوت"³. وهذا يفرض على الكاتب إعادة النظر في بنية نصه، ولغته، وإيقاعه، ليواكب هذا التحول في الذائقة.

فالنص الإبداعي المعاصر لم يعد مجرد خطاب لغوي، بل أصبح فضاءً تفاعليًا يدمج بين الكلمة والصورة والصوت، ويتيح للقارئ المشاركة في إنتاج المعنى، مما يجعل عملية التلقي جزءًا من الفعل الإبداعي ذاته.

رابعاً: النص الإبداعي بين التجديد والتشويق

إن التجديد في النص الإبداعي لا يعني القطيعة مع الماضي، بل يعني إعادة صياغة العلاقة بين الشكل والمضمون بما يحقق التشويق والتفاعل. فالقارئ العصري يبحث عن نصوص تثير خياله وتستجيب لسرعة إيقاع حياته.

يشير رولان بارت (1970) إلى أن "النص الحديث هو نص مفتوح، يولد معناه من تفاعل القارئ معه"⁴. ومن هنا، يصبح التشويق عنصرًا بنيويًا في النص، لا مجرد وسيلة لجذب الانتباه، بل أداة لإشراك القارئ في عملية الإبداع ذاتها.

إن النص الإبداعي المعاصر، في ضوء هذا الفهم، يتحول إلى تجربة جمالية تفاعلية، تتجاوز حدود القراءة التقليدية نحو فضاء من المشاركة والتأويل المستمر.

خامساً: نحو رؤية تكاملية للإبداع في عصر التكنولوجيا

إن الإبداع في زمن التكنولوجيا يتطلب رؤية تكاملية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الموروث والحداثة، بين الجمالية والتفاعلية. فالمبدع المعاصر مطالب بأن يكون واعيًا بتراثه الثقافي، ومتمكنًا من أدوات العصر الرقمية، ليصوغ نصًا قادرًا على مخاطبة القارئ الجديد دون أن يفقد هويته.

إن هذا التوازن هو ما يضمن للنص الإبداعي أن يظل متجددًا ومشوقًا، وأن يحقق رسالته الجمالية والفكرية في عالم سريع التحول. فالإبداع الحقيقي هو الذي ينجح في تحويل التكنولوجيا من أداة إلى لغة، ومن وسيلة إلى فضاء للتعبير الإنساني العميق.

الخاتمة

يُظهر تحليل الإبداع في عصر التكنولوجيا أن التحدي الأكبر أمام المبدع المعاصر يتمثل في قدرته على الجمع بين استلهام الموروث والتفاعل مع معطيات العصر الرقمي. فالقارئ الجديد، الذي أفرزته التكنولوجيا، يفرض على الكاتب أن يعيد النظر في أدواته وأساليبه، ليقدم نصًا متجددًا، مشوقًا، ومؤثرًا. ومن ثمّ، فإن مستقبل الإبداع العربي مرهون بمدى قدرة المبدعين على تحقيق هذا التوازن الخلاق بين الأصالة والتجديد، بين الجذور والآفاق، في زمن تتسارع فيه التحولات وتتشابك فيه الهويات.

النتائج العلمية

1. يتضح أن الإبداع في عصر التكنولوجيا لم يعد نتاجًا فرديًا خالصًا، بل أصبح عملية تفاعلية تتقاطع فيها الذات المبدعة مع الوسائط الرقمية، مما أفرز أنماطًا جديدة من التعبير الفني والأدبي.

2. أثبتت الدراسة أن الموروث الثقافي لا يتعارض مع العصرنة، بل يشكل رافدًا أساسيًا لإثراء النص الإبداعي المعاصر، إذ يمنحه عمقًا دلاليًا وهوياتيًا في مواجهة العولمة الثقافية.

3. أظهرت النتائج أن التكنولوجيا أسهمت في إعادة تشكيل مفهوم النص ذاته، من خلال توسيع فضاء التلقي والتفاعل، وتحويل النص من بنية مغلقة إلى فضاء مفتوح متعدد الوسائط.

4. تبين أن المبدع المعاصر بات مطالبًا بامتلاك كفايات رقمية وثقافية جديدة تمكّنه من توظيف الأدوات التقنية دون التفريط في الأصالة الجمالية والفكرية.

5. كشفت الدراسة عن بروز تيارات إبداعية هجينة تمزج بين التراث والحداثة الرقمية، مما يعكس تحولات عميقة في الذائقة الجمالية وفي آليات إنتاج المعنى.

6. أكدت النتائج أن التفاعل بين الموروث والعصرنة ليس مجرد جدلية فكرية، بل هو مسار ديناميكي يعيد تعريف الهوية الثقافية في ضوء التحولات التكنولوجية المتسارعة.

التوصيات

1. ضرورة إدماج الدراسات الرقمية في مناهج النقد الأدبي والإبداعي لتأهيل الباحثين والمبدعين لفهم التحولات النصية في البيئة الرقمية.

2. تشجيع المبدعين على استلهام الموروث المحلي والعربي في إنتاج نصوص رقمية معاصرة تحافظ على الخصوصية الثقافية وتواكب روح العصر.

3. دعم المشاريع البحثية التي تدرس العلاقة بين التكنولوجيا والإبداع من منظور ثقافي وفلسفي، وليس فقط من زاوية تقنية.

4. إنشاء منصات رقمية عربية متخصصة في عرض وتحليل النصوص الإبداعية الرقمية، بما يسهم في توثيق التجارب الجديدة وتبادل الخبرات.

5. تعزيز التعاون بين الباحثين في مجالات الأدب، والفنون، والتقنية، لتطوير مقاربات متعددة التخصصات تواكب التحولات الإبداعية الراهنة.

6. توجيه المؤسسات الثقافية إلى تبني برامج تدريبية للمبدعين الشباب حول الكتابة الرقمية وأساليب توظيف الوسائط المتعددة في الإبداع.

مقترحات لتوجيه الدراسات المستقبلية

1. دراسة أثر الذكاء الاصطناعي في تشكيل النصوص الإبداعية ومستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة في عملية الإبداع.

2. تحليل التفاعل بين القارئ الرقمي والنص التفاعلي، واستكشاف التحولات في مفهوم التلقي الجمالي في البيئة الافتراضية.

3. بحث دور اللغة العربية في الفضاء الرقمي الإبداعي، وكيفية تطوير أدوات رقمية تدعم حضورها في النصوص التكنولوجية.

4. دراسة مقارنة بين الإبداع العربي والإبداع العالمي في توظيف الموروث ضمن النصوص الرقمية المعاصرة.

5. استقصاء التحولات في البنية السردية والشعرية للنصوص الرقمية، ومدى تأثرها بالوسائط البصرية والصوتية.

6. تحليل الأبعاد الأخلاقية والجمالية لاستخدام التكنولوجيا في الإبداع، خاصة في ظل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الحديثة.

***

د. خليل حمد الأزهري - مدير مكتب البحث العلمي للاستشارات والنشر والترجمة بالكاميرون -عضو رابطة الأدب الحديث بالقاهرة

.....................

الهوامش

1- عبد الله الغذامي، الثقافة الرقمية وسقوط النخبة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005.

2- محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991.

3- دراسات في علم الاتصال الرقمي، جامعة القاهرة، 2018.

4- رولان بارت، لذة النص، ترجمة محمد برادة، دار توبقال، الدار البيضاء، 1986.

في المثقف اليوم