قضايا
عبد السلام فاروق: تأملات في دور النخب الفكرية العربية: من التلقين إلى التجديد الحضاري
تأتي دعوة الدكتور أيمن السيد عبد الوهاب، مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، للنخب الفكرية لتعريف دورها في تشكيل مستقبل الأمة، في لحظة فارقة من تاريخنا المعاصر. إنها لحظة تحول "جيوفكري" عميق، تعلن نهاية دورة حضارية هيمنت على العالم قرونا، وتبشر بولادة دورة جديدة متعددة الأقطاب، تحمل بصمات شرقية آسيوية واضحة. هذا التحول ليس مجرد إعادة توزيع للقوى على الخريطة العالمية، بل هو تحول في "الميتافيزيقا الاجتماعية" التي تنظم علاقات البشر والمجتمعات والدول. وهو يطرح أسئلة مصيرية على النخب العربية، التي تقف أمام منعطف تاريخي لا يحتمل التردد أو التلكؤ.
فالعالم الذي نعيش فيه اليوم لم يعد هو العالم الذي نشأت فيه مراكز الفكر العربية في منتصف القرن الماضي. لقد انقضى زمن كانت فيه هذه المراكز مجرد نوافذ نطل من خلالها على إنتاج المعرفة في الغرب، أو ورش لتكييف هذه المعرفة مع واقعنا المعقد. نحن اليوم أمام واقع جديد: واقع تعيد فيه التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي صياغة مفهوم المعرفة ذاتها، وتحيل فيه التحولات الجيوسياسية الكبرى الكثير من المسلمات الفكرية السابقة إلى تاريخ.
في هذا الواقع المتشابك، تواجه مراكز الفكر العربية ثلاثة تحديات وجودية متداخلة:
أولا: تحدي الهوية في عالم الذوبان: كيف تحافظ هذه المراكز على رسالتها الحضارية الخاصة، بينما تتعرض الخصوصيات الثقافية لعمليات إذابة ممنهجة في بوتقة العولمة الثقافية؟ وكيف تشارك في صياغة النظام العالمي الجديد دون أن تفقد بوصلة ذاتها، ودون أن تظل أسيرة الثنائيات العقيمة التي شغلت العقل العربي طويلا (الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، الدين والعلمانية)؟ السؤال الجوهري هو: كيف ننتقل من موقع المتلقي للفكر إلى موقع المشارك في إنتاجه وصياغته؟
ثانيا: تحدي التسونامي التقني: لقد غير الذكاء الاصطناعي وثورة البيانات قواعد اللعبة الفكرية برمتها. فالقدرة على جمع المعلومات ومعالجتها وتحليل الأنماط لم تعد حكرا على العقل البشري. بل إن الآلات تتفوق عليه في هذه المهام بمراحل. وهذا يطرح سؤالا محوريا: ما هي القيمة المضافة التي يقدمها الباحث والمفكر البشري في عصر الخوارزميات الخارقة؟ وما هو الدور الجديد لمراكز الفكر في ظل هذه الثورة التي تتدخل حتى في تشكيل الوعي واتخاذ القرار؟
ثالثا: تحدي التحول الفلسفي: نحن إزاء تحول قيمي عميق في النسق العالمي. فالنموذج الغربي، الذي رفع شعار الفردانية والحرية المطلقة، يعاني أزمة عميقة تتجلى في التفكك الاجتماعي والاستقطاب السياسي. وفي المقابل، يبرز النموذج الآسيوي، الذي يقدم الجماعة والتنمية والاستقرار كبديل. مجتمعاتنا العربية تقف في ملتقى الطرق، تبحث عن مسارها الثالث الذي يستلهم من تراثها ويستوعب معطيات العصر، دون أن يكون نسخة طبق الأصل من أي نموذج وارد. هذا البحث يحتاج إلى تأمل فلسفي جريء، لا إلى مجرد ترقيع سياسي أو اقتصادي.
الاستجابة لهذه التحديات المصيرية لا تكون ببعض الإصلاحات الإدارية السطحية، بل تتطلب تحولا نوعيا في الرؤية والوظيفة والمنهج. وهذا التحول يقوم على أربعة أركان أساسية:
1. إعادة تحديد الهوية والوظيفة: يجب أن تنتقل مراكز الفكر من دور "مورد الخدمات الفكرية" للحكومات والنخب، إلى دور "حاضنة التجديد الحضاري". عليها أن تعمل على إعادة ربط العقل العربي بجذوره المعرفية والتاريخية، ليس للوقوف عندها تحنيطا، بل للانطلاق منها في حوار خلاق مع منجزات العصر. عليها أن تكون الجسر بين ثوابت الأمة ومتغيرات العصر، بين العمق التاريخي ومتطلبات المستقبل.
2. تبني منهجية تكاملية مركبة: لقد آن الأوان لتجاوز منهجية "إما/أو" التي شطرت العقل العربي وأضعفت فاعليته. نحتاج إلى منهجية تستوعب التعقيد، وترفض التبسيط المخل، وتجمع في تحليلها بين دقة العلوم الاجتماعية، وعمق الفلسفة، وروح النقد التاريخي، وحدس الحكمة الإنسانية. منهجية تنظر إلى الظواهر في كليتها وترابطها العضوي، لا كأجزاء منعزلة.
3. الاستيعاب النقدي للثورة التقنية: لا مكان هنا لموقف الرفض المطلق، ولا للانبهار السلبي. على مراكز الفكر أن تتحول إلى مختبرات لاستكشاف وفهم وتوظيف التقنيات الحديثة، خاصة الذكاء الاصطناعي. الهدف هو بناء "ذكاء مضاعف" يجمع بين سرعة التحليل الآلي الهائل، وعمق السؤال البشري، وقدرته على الحكم الأخلاقي والتأويلي الذي تفتقده الآلة.
4. بناء تحالفات المعرفة الجنوبية: في عالم يتجه نحو التعددية القطبية، يجب أن تتعدد وتتنوع روابط المعرفة. فالحوار مع مراكز الفكر في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية لم يعد ترفا، بل أصبح ضرورة استراتيجية. إنه الطريق لخلق توازن معرفي جديد، ولتأسيس منظور "جنوب-جنوب" يحرر الفكر العالمي من ثنائية الشرق والغرب التي هيمنت عليه قرونا طويلة.
بهذه الرؤية المتكاملة، يمكن لمراكز الفكر العربية أن تتحول إلى خلايا تفكير جماعي حقيقية، وذلك من خلال:
- استعادة الروح النقدية البناءة: نقد ينطلق من الانتماء والحرص، لا من التمركز حول الذات أو الانبهار بالآخر. نقد يفرق بين الجوهر والعرض، ويهدف إلى الإصلاح والتجديد، لا إلى الهدم والتشويه.
- بناء معرفة تشاركية حوارية: الخروج من الأبراج العاجية للإنصات إلى نبض الشارع وفهم هموم الناس الحقيقية. فالمعرفة التي تبنى مع الناس ولهم، هي وحدها القادرة على تقديم أجوبة مقنعة عن أسئلتهم المصيرية.
- تبني رؤية استباقية للمستقبل: الانتقال من ثقافة رد الفعل إلى ثقافة الفعل، ومن تحليل الماضي والحاضر إلى المشاركة الفاعلة في صياغة المستقبل. رؤية تجمع بين واقعية التشخيص وجرأة الطموح.
- إعادة الاعتبار للبعد الأخلاقي: في زمن العولمة المادية الصاخبة، تصبح مهمة الدفاع عن القيم الإنسانية والأخلاقية، المستمدة من تراثنا الروحي والحضاري ومن الفطرة الإنسانية السليمة، مهمة مركزية. فالفكر بلا أخلاق قوة عمياء، والسياسة بلا أخلاق صراع همجي.
بين لحظتين تاريخيتين نعيش: لحظة نهاية وهمود، ولحظة بداية وولادة. الخطر الوجودي حقيقي، لكن التاريخ يعلمنا أن أعظم المخاطر تحمل في طياتها أعظم الفرص. العالم الذي يبحث عن توازن جديد، هو عالم يحتاج إلى كل الأصوات الحضارية، خاصة صوت حضارتنا العربية الإسلامية الحامل لتراث إنساني هائل. ولكن هذا الصوت لن يسمع، ولن يكون له تأثير، إذا ظل مشتتا أو ضعيفا أو عاجزا عن التعبير بلغة العصر.
هنا تكمن المهمة التاريخية لمراكز الفكر العربية: أن تصوغ هذا الصوت، أن تجسده في رؤى واضحة، ومناهج دقيقة، وسياسات عملية. أن تقود النقلة النوعية في الفكر التي تشكل الأساس المتين لأي نهضة حقيقية. المهمة شاقة وتتطلب شجاعة المفكر، وصبر الباحث، وحكمة الحكيم، وتواضع من يدرك أن المعركة الحقيقية هي معركة فكرية في المقام الأول.
فالأمم التي تتخلف عن صناعة فكرها، محكوم عليها باستهلاك فكر غيرها. والفكر المستورد، كالرداء المستعار، قد يغطي الجسد لحظة، لكنه لن يناسب مقاسه يوما، ولن يعبر عن روح صاحبه وذاتيته. والقرن الحادي والعشرون، بتحولاته الجارفة، ينتظر منا إجابتنا الخاصة: المتماسكة، الأصيلة، والمعاصرة.
***
د. عبد السلام فاروق






