قراءة في كتاب
مرتضى السلامي: عندما تتحول الفكرة إلى قيد

رحلة 'الأصالة' من رحابة النهضة إلى ضيق الأيديولوجيا"
مقدمة: في معنى "الأصالة" وسياقات نشأتها النفسية والاجتماعية
نواصل إبحارنا في ثنايا كتاب الدكتور عبد الإله بلقزيز "من الإصلاح إلى النهضة"، ونتوقف عند فصله الأول، الذي يحمل عنواناً دالاً: "في نقد خطاب الأصالة: من الفكر إلى الأيديولوجيا". هذا الفصل ليس مجرد مدخلٍ عابر، بل هو بمثابة مشرحةٍ فكريةٍ دقيقة، يقلب فيها المؤلف واحداً من أكثر المفاهيم حضوراً وإثارةً للجدل في ثقافتنا المعاصرة.
يبدأ بلقزيز رحلته النقدية ليس بتعريفٍ جامدٍ لمفهوم "الأصالة"، بل بتشخيصٍ عميقٍ للتربة التي تنبت فيها "دعوات الأصالة". يرى أن هذه الدعوات لا تظهر في أزمنة القوة والازدهار، بل هي غالباً ما تكون صدىً لـ"حالات وهن في اشتغال الديناميات الاجتماعية - الثقافية الدافعة نحو التقدم والتراكم والصيرورة". كأنما المجتمع أو الثقافة، حين يشعران بضياع البوصلة أو بوطأة "زحف التحولات المنهمرة"، يلجآن إلى الأصالة كدرعٍ واقٍ أو ملاذٍ أخير.
وهنا، يمتزج التحليل الاجتماعي بالرؤية النفسية. فـ"الدفاع عن الذات" في هذه الحالة، كما يوضح المؤلف، قد يستحيل آليةً مكرورةً لإعادة إنتاج الماضي، لا لحيويته، بل بسبب انقطاع الصلة بطاقة الخلق والتجديد الدافعة. بل إن هذا الدفاع قد يصبح "فعلاً من أفعال التعويض النفسي"، حيث يستبدل المجتمع الإبداع الحي بالممانعة السلبية، في محاولةٍ يائسةٍ لتمديد كينونته في عالمٍ يشعر تجاهه بالغربة والنفور. ومن اللافت أن هذا الهوس بالأصالة لا يصيب إلا الثقافات "المكتنزة بالخبرة الحضارية" والتي تحمل في طياتها ميلاً "نرجسياً" نحو تراثها، أما تلك التي تفتقر إلى هذا العمق التاريخي، فتميل إلى النسيان الدفاعي لا إلى هذا التشبث المحموم بالماضي. وهكذا، تصبح الثقافة العربية المعاصرة، في نظر بلقزيز، مثقلةً بحضور التاريخ في تفاصيل يومها، إلى درجةٍ تكاد تكون مرضية.
الأصالة في مواجهة الحداثة: جدلية الثبات والتغيير
ثم ينتقل المؤلف ليحدد طبيعة "الأصالة" كمفهومٍ لا يكتسب معناه إلا في علاقته بنقيضه: "الحداثة" والتغيير والصيرورة. فالأصالة، كما يتصورها أنصارها، هي استدعاءٌ لموروثٍ يُرفع فوق مجرى الزمن، ويُعتبر "مطلقاً متعالياً" لا يأتيه الباطل. وأي محاولةٍ للانفتاح على "الحادث والطارئ"، أي على رياح الحداثة، تُعد في هذا المنظور خيانةً للجوهر، أو "بدعة" تهدد نقاء الكيان. ولكي تحافظ الأصالة على أصالتها المزعومة، يجب أن تمتنع عن التغيير، فالتغيير في عرفها "فساد"، وهي وحدها "صلاح مطلق".
ولكن، متى تزدهر هذه الدعوات إلى الأصالة بهذا المعنى المنغلق؟ ليس في أزمنة التطور الهادئ، بل "حيث تضطرب الأحوال وتنقلب الموازين"، وتهتز الثوابت بفعل هزاتٍ داخليةٍ أو خارجية.
ويستشهد بلقزيز بأمثلةٍ من تاريخنا الإسلامي الوسيط، كبعض مواقف الغزالي وابن تيمية التي دعت إلى الاعتصام بمنهج السلف، في سياقاتٍ تاريخيةٍ صعبةٍ قد تفسر، دون أن تبرر بالضرورة، هذا الميل نحو الانكفاء و"فرملة إيقاع التجديد والاجتهاد". وهنا، يؤكد المؤلف على نقطةٍ منهجيةٍ بالغة الأهمية: فهم السياق التاريخي لا يعفينا من واجب النقد، ولا يبرر "التمذهب" بتلك المواقف، بل يجب أن يدفعنا للبحث عن "الممكنات الأخرى" التي كان يمكن أن تحقق "الممانعة الإيجابية" دون أن تقودنا إلى "الانكماش والانكفاء والتشرنق على الذات".
"أصالة النهضويين" المنفتحة ونكسة التحول إلى "أيديولوجيا"
وهنا نصل إلى محطةٍ فارقةٍ في تحليل بلقزيز، وهي تمييزه لـ"أصالة النهضويين" في القرن التاسع عشر كنموذجٍ إيجابيٍّ ومغاير. فهؤلاء الرواد، وخاصة الإصلاحيين الإسلاميين منهم، حين واجهوا صدمة الحداثة الأوروبية، لم يتقهقروا إلى متاريس التراث بشكلٍ دفاعيٍّ سلبي. بل "قبلوا التحدي وطفقوا يبحثون في حداثة أوروبا عما أسس لها". لم ينكروا موروثهم، ولكنهم في الوقت ذاته لم يجعلوه حجةً لرفض الأفكار الجديدة أو قطع الصلة بها. لقد وجدوا في ثقافة أوروبا ما يمكن أن يسعفهم في الإجابة عن أسئلة التخلف والانحطاط التي كانت تؤرقهم. وكان جهازهم المفاهيمي، بمفرداته التي تدور حول العقل والاجتهاد والإصلاح والتقدم والتمدن، شاهداً على انخراطهم في معركة التغيير، وانفتاحهم على فكر الغرب ونموذجه الحضاري، دون أن يروا في ذلك بالضرورة إنكاراً للذات. لقد أعادوا بناء مفهوم الأصالة، ليس ككيانٍ جامدٍ مغلق، بل ككينونةٍ حيةٍّ تغتني بالجديد وتعيد إنتاج نفسها، فلا تكون رديفاً للماضي فحسب، بل قرينةً على الحاضر والمستقبل أيضاً.
لكن هذه اللحظة النهضوية المشرقة، كما يوضح المؤلف، لم تدم طويلاً. فالظروف السياسية القاسية، من احتلالٍ أجنبي وتجزئةٍ للمنطقة وسقوطٍ للخلافة، أدت إلى "نكسة كبرى لفكرة التغيير". وحين أصبح التغيير يُفرض من الخارج بدلاً من أن ينبع من الداخل، تصاعدت النزعة الدفاعية من جديد، ولكن هذه المرة، كما يؤكد بلقزيز، تجسدت "الأصالة" في صورة "أيديولوجيا".
تشريح "أيديولوجيا الأصالة" الإحيائية ومفارقاتها
ومع صعود التيارات "الإحيائية الإسلامية" منذ ثلاثينيات القرن العشرين، تبلورت هذه الأيديولوجيا بشكلٍ كامل. انتقل الوعي من "يقظة" النهضويين (التي كانت اكتشافاً للتخلف وسعياً نحو التقدم) إلى "صحوة" الإحيائيين (التي كانت خروجاً من "غفلة" عن الدين والتراث وعودةً إليهما كمرجعٍ مطلق وملجأ أخير). وقد صاغ رموز هذا التيار منظومةً أيديولوجيةً متكاملة، قامت على ثلاث دعائم رئيسية: الادعاء بالتفوق المطلق للإسلام كنظامٍ شامل، والتأكيد على انحطاط الغرب المادي واللاديني، والقول بعدم حاجة المسلمين للآخر بسبب الاكتفاء الذاتي المزعوم في موروثهم. هذه الأطروحات، كما يرى المؤلف، أفضت إلى رؤيةٍ نرجسيةٍ معاديةٍ للآخر، ولم تلبث أن تحولت من موقفٍ دفاعيٍّ إلى موقفٍ هجوميٍّ عدائي، يحمل في طياته بذور التكفير والعنف، ويجد بلقزيز "جراثيم" هذا التحول في نصوص الإحيائية الأولى نفسها.
ويصف المؤلف هذا الخطاب بـ"الأيديولوجيا" وليس "الفكر" لأنه، في تحليله، يفتقر إلى النسقية المعرفية، وغالباً ما يكون رد فعلٍ دفاعياً أو هجومياً، ويهدف إلى التحزب الذهني والوجداني أكثر من إنتاج المعرفة النظرية، مما سهل تسييسه وتوظيفه في مشاريع سياسية.
ثم يختم بلقزيز هذا الفصل بتفكيكٍ بارعٍ لأربع "مفارقات" رئيسية تسكن بنية هذا الخطاب الأيديولوجي للأصالة: مفارقة "اللاتاريخية" التي تجمد الماضي وتجعله مطلقاً خارج سياقه؛ ومفارقة "اختراع معنى أصولي" ينتزع "الأصيل" من حيويته التاريخية ويحنطه؛ ومفارقة "المذهبية" التي تقدم رؤية فئوية منغلقة للتراث تتجاهل تعدديته الداخلية؛ وأخيراً، مفارقة "معاداة التقدم" التي تؤدي إلى التقوقع والانسحاب من التاريخ الإنساني، وقد تتحول إلى برنامجٍ للانحطاط والتصحر العقلي.
خاتمة الفصل: نحو حداثة فكرية حقيقية
إن خلاصة هذا الفصل، كما يصرح بها المؤلف، قويةٌ وحاسمة: "لا يبدأ تاريخ التقدم والحداثة، إلا من نقد الأصالة وبيان لا أصالتها". فالنقد المعرفي الرصين لهذه "المقالة الأيديولوجية الضحلة" هو، في نظره، الشرط الضروري لولادة حداثةٍ فكريةٍ عربيةٍ حقيقية. وبهذا التشريح النقدي، يمهد بلقزيز الطريق لمناقشة أهمية وضرورة خطاب الحداثة العربي، وهو ما ستتناوله فصول الكتاب اللاحقة، في رحلةٍ فكريةٍ لا تسعى للقبول الأعمى، بل للفهم النقدي العميق.
***
مرتضى السلامي
.....................
ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (2)