قراءة في كتاب

مرتضى السلامي: حصاد العقل والتنوير في الفكر العربي

بين بذور الأمل ومرارة الإجهاض

نصل اليوم إلى محطةٍ فارقةٍ في رحلتنا مع كتاب الدكتور عبد الإله بلقزيز "من الإصلاح إلى النهضة". فالفصل الخامس، المعنون "قراءة نقدية لحصيلة فكرية"، يمثل تتويجاً للقسم الثاني من الكتاب، ويقدم لنا تقييماً نقدياً شاملاً لقرنين من جهود العقلنة والتنوير في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة.

مقدمات منهجية: في نقد التأريخ السائد للفكر العربي

يستهل بلقزيز هذا الفصل الهام بمقدماتٍ منهجيةٍ يهدف من خلالها إلى تفكيك إشكاليتين أساسيتين في كيفية قراءة وتأريخ الفكر العربي، معتبراً أن تصحيحهما ضروري لتقديم تقييم موضوعي للحصيلة:

إشكالية الزمن و"المعاصرة" الفكرية: ينتقد المؤلف بشدة التقسيم الزمني التقليدي للفكر العربي إلى وسيط وحديث ومعاصر، والذي يعتمد بشكل كبير على إسقاط الزمن المادي الموضوعي (زمن الأحداث والأجيال) على "زمن الأفكار". ويؤكد أن "زمن الفكر" يختلف جوهرياً؛ فهو زمن بنيوي وإبستمولوجي، وليس مجرد تعاقب كرونولوجي. المعارف والمعتقدات قد تستمر لقرون، وتتعايش أزمنة فكرية مختلفة في نفس اللحظة التاريخية. فكما أن منطق أرسطو ما زال مقبولاً ومحاورات أفلاطون تخاطب مشاكل عصرنا، كذلك يرى بلقزيز أن الإشكالية المركزية للوعي العربي منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم هي "إشكالية النهضة أو التقدم". وبما أن هذه الإشكالية لا تزال قائمة ومستمرة، فإن فكر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين "ما زال معاصراً وراهناً بإشكالياته". "الأهم من ذلك أن الكثير منا لا يجد سبباً للشعور بعدم التوازن حين تتجاور، في وجدانه الفني والجمالي وفي فكره، قيم وأفكار القديم والجديد، فيتفاعل مع الأول بنفس تفاعله مع الثاني. وهذا هو عين ما وصفناه بالتداخل بين أزمنة الفكر والثقافة".

إشكالية تصنيف "العقلانية" و"التنوير": يرفض المؤلف الحصر الأيديولوجي لمفهومي العقلانية والتنوير في التيار الليبرالي العربي فقط، كما فعل ألبرت حوراني وهشام شرابي وغيرهم، وإخراج الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرتهما. يشدد على ضرورة مراجعة هذه المعادلة الأيديولوجية وغير الموضوعية، والاعتراف بوجود عقلانية وتنوير ضمن التيارات الإصلاحية الإسلامية.

تعدد "العقلانيات العربية": تصنيف ثلاثي نقدي

بناءً على رفضه للحصر الأيديولوجي، يقدم بلقزيز تصنيفاً ثلاثياً لما يسميه "عقلانيات عربية" (بصيغة الجمع)، مؤكداً على تنوعها واختلاف مرجعياتها:

العقلانية الإصلاحية الإسلامية: تمثلت في مفكري الإصلاح بالقرن التاسع عشر والعشرين. ورغم انطلاقها من المرجعية الإسلامية، إلا أنها مارست الاجتهاد والعقلنة، وأعادت الصلة بالعقلانيين المسلمين كابن خلدون والشاطبي وابن رشد. كما أنها "تخطت ذلك إلى توطين - بل تأصيل - بعض موضوعات الفكر الليبرالي الأوروبي نفسه... تشهد بذلك عنايتها بمسألة الدولة الوطنية الحديثة، ودفاعها عن المدنية العصرية وعن وجوب الانفتاح على ثمراتها والانتهال منها، وسعيها في تقديم رؤية حديثة للإسلام تُصَالِحُ بينه وبين العصر، بين الإيمان والعلم، وتتخطى الفهم النصي الجامد لتعاليمه".ويرى بلقزيز أنها، وإن بدت "أَكْثَرَ تواضعاً" في شحنتها العقلانية مقارنة بالليبرالية، كانت "أكثر فاعلية وتأثيراً في حقل المعارف والأفكار وأوسع مدى ونطاقاً اجتماعياً من الأولى"، وذلك لقدرتها على الحفر في التربة المحلية ومقارعة اللاعقلانية من داخل السياق الإسلامي.

العقلانية الليبرالية (الحداثية): انفتحت باكراً على المرجعية الثقافية والفكرية الغربية منذ العقود الأولى للقرن التاسع عشر. دافعت بجرأة عن العقل والعلم والكونية والاقتداء بالغرب، وأدخلت تيارات الفكر الغربي الحديث إلى الفكر العربي. يرى المؤلف أنها تبدو "أعلى جرعة من العقلانية الإصلاحية الإسلامية لسببين هما تحررها من سلطة النص الديني الحاكم للعقلانية الإسلامية، واعتمادها على أصول عقلية حديثة تخلصت من الحاكمية الأرسطية وخاضت في فتوحات معرفية لم تلجها الثقافة العربية - الإسلامية". لكنها عانت من صورتها كفكرة "برانية غير ذات جذور في تربة الثقافة العربية - الإسلامية"، ومن "منزعها التبشيري الذي حَوَّلَهَا... إلى إرسالية فكرية مُبتعثة بين ظهرانينا".

العقلانية النقدية (التركيبية): وهي رؤية فكرية "التزمت سبيل النظر إلى مسائل الفكر والمجتمع من منطلق عقلاني لم يتوقف عن نقد المرجعين الغربي والإسلامي على السواء، أو قل نقد العقلين الغربي والإسلامي". وقد فعل ذلك، على تفاوت، كل من عبد الرحمن بدوي، ومحمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري، وهشام جعيط، وعلي أومليل، وحسن حنفي، وفهمي جدعان، ومطاع صفدي، وسهيل القش، وإدوارد سعيد وغيرهم. "وقد يكون أهم الفتوحات المعرفية لهذه العقلانية النقدية وأهم تجلياتها أيضاً ما تحقق في ميدان الدراسات التراثية الإسلامية: حيث كان الباب مفتوحاً أمام بناء المسافة المزدوجة مع المرجعين والعقلين الإسلامي والغربي". يرى بلقزيز أن هذه العقلانية النقدية تبدو "أكثر تركيباً من سابقتيها. إنها عقلانية جدلية أكثر إصغاء لمطالب العقل الكوني، مع استعداد كبير للرد عليه نقدياً، وأكثر تفهماً للعقل الإسلامي، مع جاهزية لبيان أوجه قصوره ومواطن ذلك القصور".ويشير إلى أن هذه العقلانيات متمايزة ولا تقبل الإدراج ضمن نسقية واحدة لاختلاف مراجعها، وأن الأنثروبولوجيا المعاصرة سددت "ضربة موجعة لفكرة العقل الواحد المطلق المجرد، حين كشفت عن البنى العقلية الخاصة بمجتمعات «طَرْفِيَّة» لا تقبل المقاربة من داخل العقل الغربي".

تعدد "التنويرات العربية": توسيع مفهوم الوظيفة

يطبق بلقزيز نفس المنطق التعددي على مفهوم "التنوير". فبينما "العقلانية إِذْ تُحِيلُ إلى رؤية فكرية للعالم... تشير إلى فاعلية منهجية وإيبيستيمولوجية"، فإن "مفهوم التنوير، فيحيل إلى وظيفة ثقافية أو اجتماعية تقوم بها منظومة الأفكار، تلك، هي تبديد الغوامض والملتبسات، أو تبديد ما أَظْلَمَ وَعَمِيتُ فِي ظَلْمَائِهِ الأَبْصَارُ عن الإبْصَار". وكما تكون مفهوم الأنوار في أوروبا لمقارعة الكنيسة وفكرها الظلامي، كذلك تكون مفهوم التنوير في الثقافة العربية لمقاومة آثار الانحطاط والتيارات المتشبثة بالماضي.

ويرفض المؤلف حصر التنوير في التيار الليبرالي والعلماني، مؤكداً أن "العقل الإسلامي الإصلاحي - في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين - كان تنويرياً بهذا المعنى، لأنه خاض أشد الحروب الفكرية التهاباً ضد الخرافة والتقليد، وفتح وعي المسلمين على حقائق العالم الجديدة، وصالح وعيهم وإيمانهم الديني مع العلم".

ويخلص إلى أن التنوير، شأنه شأن العقلانية، نسبي ويتحدد بالموقع الفكري الذي يستعمله والمضمون الذي يُكسبه إياه. فهناك تنوير ليبرالي هدف لتحرير الوعي من "القرون الوسطى" وتعميم قيم العقلانية والعلم. وهناك تنوير إصلاحي هدف لتحرير الوعي من التقليد والخرافة والانفتاح على المعرفة الحديثة المتوافقة مع الإسلام. وهناك تنوير في خطاب العقلانية النقدية يمثل "معركة معرفية من أجل التحرر من اليقينيات والمطلقات، بما فيها يقينيات العقل الغربي".

تقييم الحصيلة النهائية: مآلات العقلانيات الثلاث

في الجزء الأخير والأكثر أهمية، يقدم بلقزيز تقييماً نقدياً لمآلات هذه التيارات العقلانية:

العقلانية الإصلاحية: مشروع رائد أُجهض: يؤكد مجدداً أنها شكلت "ثورة فكرية" في القرن التاسع عشر، تميزت بالانفتاح والعقلانية ومقارعة الاستبداد. "غير أن هذه العقلانية الإصلاحية التي حَمَلَتْ... مشروعاً ثقافياً نهضوياً لا سابق له منذ الحقبة الأندلسية، سرعان ما ستشهد عداً عكسياً سينتهي إلى إجهاض مشروعها قبل أن يكمل قرناً على انطلاقته". ويعزو هذا الإجهاض إلى ثلاثة عوامل: انهيار المشاريع السياسية الإصلاحية للدول التي كانت حاضنة لها؛ الانقلاب الداخلي عليها من قبل جيلها الأخير، وخاصة محمد رشيد رضا الذي ارتد عن فكرة الدولة الوطنية إلى فكرة الخلافة، مدمراً بذلك تراث العقلانية الإصلاحية؛ وسقوط البلاد العربية والإسلامية تحت الاحتلال الأجنبي الذي غير طبيعة الصراع نحو إشكالية الهوية، مما أدى إلى "الانتقال الفكري سريعاً من إشكالية النهضة (الترقي، التمدن) إلى إشكالية الهوية". ورغم نهايتها كحركة مهيمنة، استمرت بعض تعبيراتها جزئياً في القرن العشرين، لكنها بدت كتجذيف ضد تيار الإحيائية الإسلامية الجديد. ومع الإصلاحية، كان "الغرب منبعاً من منابع المعرفة والنور؛ أما مع الإحيائية (الصحوية)، فبات منبع شر وعدوان. ومع الإصلاحية، كان العقل سلطة معرفية تدين لها الأذهان، بينما صار النص الديني السلطة المعرفية الوحيدة لدى الإحيائية".

العقلانية الحداثية (الليبرالية): مسار آفِل: بعد فترة ازدهار وجرأة (منتصف القرن 19 - ثلاثينيات القرن 20) استفادت فيها من الحاجة العامة للمنظومة الغربية ومن حاضنة مصر وبلاد المهجر ومن مناخ الحرية النسبية بين الحربين، وفترة عنفوان وظفراوية (الخمسينيات - السبعينيات) اكتسبت فيها شرعية وطنية، دخلت هذه العقلانية طور اضمحلال وتراجع منذ نهاية السبعينيات لم تخرج منه حتى الآن. ويعزو المؤلف ذلك إلى طابعها "الدعوي التبشيري" الذي اكتفى باستعادة معطيات الفكر الغربي دون جهد تأصيلي كافٍ، مما جعل تراثها يبدو "برانياً غير ذي صلة بالتاريخية الخاصة للفكر العربي". كما أنها قدمت "تنازلات فكرية كبيرة" تحت ضغط التيارات المحافظة، والمثال الأبرز هو طه حسين وعباس محمود العقاد. ويرى بلقزيز أن "أفولها هذا قد يمتد لفترة طويلة أخرى قادمة في ضوء وقائع التراجع العام الذي يشهده العقل العربي، الذي يعبر عنه - بجلاء - اجتياح خطاب الصحوية الارتكاسي لأذهان الغالبية العظمى".

إرهاصات العقلانية التركيبية (النقدية): نشأت في سياق المضاربة الفكرية بين الإحيائية المنكفئة والعقلانية الحداثية الظفراوية (المنقطعة أحياناً عن التراث). حاولت هذه العقلانية النقدية نقد الخطابين معاً وتجاوزهما نحو رؤية جدلية. وقد حققت "فتوحات معرفية كبرى" خاصة في مجال دراسات التراث الفكري والسياسي العربي الإسلامي. لكنها، كما يرى المؤلف، لا تزال غير متجانسة وتحوي خليطاً من المساهمات الفكرية من مواقع نظرية متباينة، وتعاني أحياناً من "احتدادها في النقد إلى درجة شارفت فيها العدمية أحياناً".

ويختم بلقزيز بملاحظتين استدراكيتين، مؤكداً على المساهمات الرائدة للإصلاحية الإسلامية (في الانفتاح والتقدم والإصلاح الديني) والعقلانية الليبرالية (في ربط الفكر العربي بالإنساني وإطلاق الإبداع)، وأن نقده لهما يهدف لتدارك قصورهما وترشيد حركتهما. ويرى أن العقلانية النقدية تستأنف ما بدأته التيارات السابقة، لكنها لا تزال فرضية تحتاج للإثبات.

إن هذا الفصل يقدم تقييماً نقدياً عميقاً لمسيرة قرنين من العقلنة والتنوير، كاشفاً عن تعقيدات هذا المشروع وأزماته المستمرة، ومبرزاً المحاولات النقدية الجديدة لتجاوز الاستقطابات التقليدية، في سعي دؤوب نحو حداثة عربية أصيلة ومنفتحة.

***

مرتضى رائد عباس

....................

* ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (6)

في المثقف اليوم