قراءة في كتاب

نورة زقعار: قِراءة في كتاب "جدل العقلانية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت"

لكمال بومنير

مُفتتح إشكالـي: يعتبر مفهوم العقلانية التكنولوجية من أهم المفاهيم التي شكلت المشروع الحضاري الغربي، والتي أخذت مكانة أساسية في فلسفة هربرت ماركيوز والتي تم توظيفها للسيطرة على الإنسان والطبيعة حيث تحولت التقنية والتكنولوجيا إلى أداة سيطرة وهيمنة داخل الحضارة المعاصرة مما أدى إلى اضمحلال قدرة الإنسان في السيطرة عليها فأصبح مجرد أسير لها مما نتج عنها أزمة في الحضارة إذ نجد ماركيوز كغيره من الفلاسفة حاول تقديم رؤية نقدية للحضارة المعاصرة، كل هذا يقودنا إلى طرح التساؤل التالي:

- فيمَا تتمثل مظاهر سيّطرة العقلانية التكنولوجية على الإنسان المُعاصر؟

يُعدّ الباحث الجزائري كمال بومنير أحد أهم الباحثين المهتمين بأعمال فلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية؛ حيث خصص لها عدة كتب ترجمة وتأليفا وتعتبر إسهاما فلسفيا، فيعد كتابه جدل العقلانية في النظرية النقدية الصادر عن دار نشر منشورات الإختلاف - طبعة أولى، 2010م، الجزائر.

إضافة إلى الحقل الفلسفي في الدراسات النقدية فهو بمثابة تعميق لقراءاته في فلسفة "هربرت ماركيوز"؛ حيث يعتبر "ماركيوز" فيلسوف ومنظر اجتماعي وناشط سياسي ومن أهمّ مؤسسي مدرسة فرانكفورت النقدية والتي تمثل أهم تيار فلسفي معاصر ويمثل جيلها الأوّل لأن المدرسة منقسمة إلى أجيال وكل جيل يمثله ثلة من الفلاسفة، ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول؛ حيث تمحورت الفكرة الجوهرية حول العقلانية التكنولوجية؛ حيث تحتل مكانة هامة في فلسفة "ماركيوز"، فهي عبارة عن نمط من التفكير ظهر في عصر التنوير والحداثة في المجتمعات لا يهتم بالغايات إذا كانت غير إنسانية ومعادية للإنسان بقدر ماهو عقل برغماتي ومشروع لسيطرة على الإنسان والطبيعة، للعقل الأداتي جذور تعود إلى المنطق الأرسطي حسب مفكرو مدرسة فرانكفورت حيث تخضع جميع الموضوعات لنفس قوانين المنظمة وتتمثل هذه في مبادىء العقل التي وضعها أرسطو مبدأ الهُويّة، مبدأ عدم التناقض، مبدأ الثالث المرفوع، هذه القوانين تدعو إلى المنطقية والعقلانية وبالتالي ساهمت في تكوين العقل الأداتي الموغل في السيّطرة على كلّ شيء، فالعقلانية التقنية هي مظهر من مظاهر تجلّيات الحضارة، وبالتحديد الحضارة الغربية والعقل التقني يتميز بفكرة السيّطرة على كل شيء واهتمامه بالجانب المادي للتقنية.

لقد كشفت لنا رؤية "ماركيوز" النقدية للحضارة التقنية أن المجتمع المعاصر يسوده نظامان" النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي" وأن كلا النظامين يمارس السيّطرة على الإنسان المعاصر وأن الفرد في المجتمع الصناعي المتقدم تسيّطر عليه العقلانية التكنولوجية التي أصبحت تمارس عليه كل أنواع القمع والاستبداد (حسن حماد، النظرية النقدية عندهربرت ماركيوز، ص 183) معنى ذلك أن كلا النظامين يمارس السيّطرة على الإنسان المعاصر فالحضارة المعاصرة هي حضارة قمعية بالأساس تقوم على القهرcontraint ؛ حيث مثلت التقنية أداة تحكم وسيّطرة على الإنسان المعاصر لذلك حاول "ماركيوز" نقد العقلانية التكنولوجية في الحضارة الصِّناعية المتقدّمة التي أصبحت مرتبطة بمنطق السيّطرة لذلك كان من الضروري حسب "ماركيوز" العودة إلى "سيغموند فرويد" الذي درس وضعية الإنسان داخل الحضارة المعاصرة وكشف لنا عن الآليات السيكولوجية التي نتج عنها القمع الفرويدي في كتابه "الحب والحضارة"؛ حيث كان متوافقا مع جلّ أفكاره إلا أنه اختلف معه في فكرة القمع، فالقمع الذي قال به "فرويد" فهو الأخطر لأنه يمارس السيّطرة على الإنسان المعاصر داخل الحضارة الصناعية المتقدّمة.

يرى "ماركيوز" أن الإنسان المعاصر في ظلّ الحضارة الصناعية المتقدّمة أصبحت تمارس كلّ عليه كل أشكال السيّطرة والأنظمة القمعية التي لم يشهد لها التاريخ مثيل؛ حيث غمرت الإنسان المُعاصر بالإمتيازات كاقتناء ما يشاء من السلع والحاجات الضرورية والشعارات الوهمية كالحرّية، كلّ هذا خلق سعادة هشّة فقد اعتبر "ماركيوز" أن الأمراض التي مرّ بها المجتمع الصّناعي المتقدّم ويعكس أزمة الحضارة المعاصرة؛ حيث أصبح الإنسان فاقد لأبعاده الإنسانية لذلك حاول "ماركيوز" جاهدًا كشف ونقد الحضارة الصِّناعية المتقدّمة، ولابدّ أن ننوه أن التشيؤ أخذ أشكالاً متنوّعة منها تشيؤ اللغة؛ حيث تشيّأت اللغة وأصبحت ميتة بعدما كانت لغة حيّة ووسيلة للتواصل مع الغير والتعبير عن حاجات الإنسان وتحوّلت إلى أداة لقمعه، فالسلطة التكنوقراطية استعملت اختصارات للكلمات من أجل تزييف وعي الإنسان ويتم ذلك عن طريق وسائل الإتصال والإعلام مثلاً نجد USA

OTAN وغيرها من المفاهيم المُختصرة، فعبارة OTAN مثلاً يقصد بها معاهدة شمال الأطلسي، فإذا استعملت العبارة كاملة دون اختصار لتساؤل البعض حول عضوية بعض الدول كتركيا واليونان (هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ص 131) نلاحظ أن للكلمة صدى كبير لدى الناس لذلك تم تشييؤها من طرف النظام الاستبدادي، فحتى الديموقراطية التي يتخيلها الأفراد في النظام الرأسمالي ديموقراطية مزيّفة حاول النظام من خلالها دمج القوى المُعارضة في النظام وذلك عن طريق الإغراء المادي وإعطائهم مناصب عمل في السلطة.

تجدر الإشارة إلى أن "هربرت ماركيوز" لم ينتقد التكنولوجيا وإنّمَا انتقد انحرافها عن وظيفتها الأساسية وهي خدمة الإنسانية؛ حيث تحوّلت من آداة لتحرير الإنسان إلى أداة للسيّطرة والهيّمنة لذلك يدعو "ماركيوز" إلى إعادة توجيه التكنولوجيا وسيّطرتها على الإنسان المُعاصر داخل الحضارة الصِّناعية المتقدّمة بل اهتم بتجاوز آليات سيّطرة العقلانية واهتم بتحرير الإنسان من كل أشكال السيّطرة، فلابُدّ أن يدرك الإنسان واقعه الوهمي حتى يستطيع معارضة النظام لذلك رأى "ماركيوز" أن الثورة هي أفضل وسيلة لتحرير الإنسان داخل الحضارة المعاصرة؛ حيث تعتبر الثورة تغيير جذري على الأوضاع السياسية والإقتصادية والاجتماعيّة، لقد آمن "ماركيوز" بفكرة الثورة والتغيير لكن استبعد طبقة البروليتاريا من الثورة لأنها لم تعد قادرة على مُهمّة الثورة لأنها كانت مندمجة مع سياسة النظام لذلك بحث "ماركيوز" عن بديل يقود الثورة بدلاً من طبقة البروليتاريا والمتمثل في الشباب والعاطلين عن العمل، يجب أن ننوّه إلى أن "ماركيوز" أولى فكرة هامة لتحرير الوعي واعتبره شرط أساسي لقيام الثورة ونجاحها لأنه بدون وعي سوف تفشل الثورة من البداية. لكن لو نعود إلى الواقع هي قوى غير قادرة على تحقيق الأمل لأنها إذا ثارت فهي لا تثور على تغيير نظام سائد وإنّما من أجل مساواتهم بأي عامل سواء رجل أو امرأة ولا يعاملوا معاملة المنبوذين من طرف النظام (سهير عبد السلام، مفهوم الإغتراب عند ماركيوز، ص 131).

بمعنى أن هذه الشرائح الاجتماعيّة تهتم بتحقيق مصالحها الخاصّة وأن يوفر لها النظام مطالبها وأن يعترف بحقوقها وحرياتها، كما يشير "ماركيوز" إلى آليات أخرى لتحرير الإنسان المعاصر من السيّطرة المتمثلة في الخيال والفن؛ حيث يؤكد على دور الخيال في عملية تحرير الإنسان المعاصر من سيّطرة العقلانية التكنولوجية؛ حيث عن طريق الخيال يمكن تصور واقع مغاير لنظام العقلانية تتحقق فيه السعادة التي طمست معالمها التقنية والتقدم التكنولوجي، ضِفْ إلى ذلك الفن الذي احتل مكانة هامة في فلسفة "ماركيوز" التحريرية في صميمة احتجاج وتمرد ورفض للواقع السياسي والاجتماعي، فالفن لا يقوم بالثورة وإنّما تكمن مهمته في توعية الأفراد وإدراكهم للوضع المأساوي ثم التمرد على الواقع.

وكخلاصة للقول يجب أن نؤكد أن المجتمعات الصّناعية المتقدّمة بحاجة اليوم إلى أخلاق وقيم يجب أن يتقيد بها الأفراد والمؤسسات ونظمها السياسية خاصّة بعد الخطر الذي واجه الطبيعة والإنسان وكانت نتائجه وخيمة تهدد الوجود الإنساني ككل لذلك لابدّ العودة إلى القيم التي تنظم المجتمع.

بعد وصولنا إلى نهاية الدراسة فإننا وصلنا إلى مجموعة من النتائج والاستنتاجات ويمكن أن نحددها في النقاط التالية:

- حاول "هربرت ماركيوز" تسليط الضوء على المُمارسات اللاعقلانية لنظام العقلانية التكنولوجية؛ إذ وضح أن سيّطرة العقلانية امتدت إلى جميع مناحي الحياة فأصبح الإنسان المعاصر فاقد لأبعاده الإنسانية وأصبح إنسانًا متشيّئًا تقاس أهميته بما ينتجه مع السلع، حتى علاقاته مع الأخرين طالها التشيؤ وأصبح إنسانا مستلب الحرّية والإرادة.

- دعا "ماركيوز" إلى الثورة لتحرير الإنسان المعاصر من قبضة التقنية ومحاربة الأنظمة الاستبدادية، فقد عقد إيمانه بالعمل الثوري ورأى أنه الحل لإرجاع إنسانية الإنسان المفقودة.

- اعتمد "ماركيوز" على آليات جديدة لتحرير الإنسان من السيّطرة المتمثلة في الخيال والفن فرأى أنه يمكننا رسم صورة الواقع الجديد من خلال ملكة الخيال والفن ويعد هذا الأخير ثورة بالأساس على الواقع ويعتبر الملاذ الأساسي.

***

الباحثة: نورة زقعار - جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر

تخصّص: الفلسفة التطبيقية

...................

قائمة المصادر والمراجع:

-هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، تر جورج طرابيشي، دار الآداب، لبنان، ط 3، 1988م.

- حسن حماد، النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز، دار التنوير، لبنان، ط1، 1993م.

- سهير عبد السلام، مفهوم الإغتراب عند هربرت ماركيوز، دار المعرفة الجامعية، مصر ، (د.ط)، 2003م.

في المثقف اليوم