قراءات نقدية
عبد المطلب عبد الهادي: قراءة في المجموعة القصصية "لا طمأنينة في مدينتي"

للقاص المغربي عبد الحميد الغرباوي
المدينة والهامش
صورة (1)
يدُك، في يد السارد قارئا مستمعا لنبض الكلام، لا كمن لا يعرف متاهات المدن الإبداعية، أو كمن لا يستطيع فك شفرات السفار بين دروب الحكي، ومفازات الدلالات والرموز، بل يجوب بك أزقة ودروب مدينته التي "لا طمأنينة فيها"، يوقفك هنا لتتأمل، وهناك لتتذكر، وبعيدا لتسأل، تِجوالٌ، رغم خطواته المتسارعة حكياً، يتوَقَّفُ بك عند تفاصيل تفتح لك أفقاً لتغوص معه في مسارات ودهاليز وجنبات مدينته العامرة بالروائح والأصوات والصراخ والصخب والآسئلة.
تسير جنبه وأنتَ تتوجّسُ أن تصادف أحداً أو مكاناً أو حدثاً يوقفك رغما عنك لتطرح السؤال، ولكل حدث سؤال.
تسير معه وفي خلدك يدور، دون توقّف، "لا طمأنينة في مدينتي"[1]، تكتشف، تسبر أغوارها، تُخالط ناسها، تسْكُنُ أحياءها وأزقّتها، تستشعر خوفها وما يَقُضُّ هدوءها وسلامها، تدنو من عوالم كأنها صيغت بيد رسّام خبر تقنيات الرسم والكلام، "استبدّ بي الشعور أن هذه المدينة حيث أعيش غابة، والبقاء فيها للأشرس والأقوى"[2]، لكنّه يعرف مدينته جيدا، كل شبر فيها، ناسها على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم، يعرف حيواناتها، قططها وكلابها وعصافيرها وحتى أصغر حشراتها، تلك النحلة التي لا تُخلف موعدها عند شرفة بيت، "والقطّة التي تجوب الأمكنة ليلا تأكل من خشاش الأرض"[3].
المدينة كتاب مفتوح على عوالم ظاهرة أو مخبوءة، وعلى أناس لا يتشابهون، لا يربط بينهم رابط، إلاّ رابط تواجدهم في هذه المدينة، أناس من الهامش يؤثثون فضاءاتها التي تتنوع بتنوع الشخوص والأحداث والوقائع.
صورة (2)
وأنت مشدود إلى يد السارد مُنْبهر، يبني أمامك بحرفية عالية، معمار الحكايات والقصص التي لا تتشابه، بلغة تدرك معانيها ومواقعها ودلالاتها وصورها وهي تتحرك أمامك، عياناً، واضحة صادقة ومؤثرة تفتح لك بلغتها السلسة، نوافذ تطلّ منها على دواخل شخوصها وما يعتمل فيها من ألم وفرح وسخط وتوجُّسٍ وبؤسٍ وخيبات.
"لا طمأنينة في مدينتي"، مذكرات رجل خبر النّاس والأشياء والفضاءات المشكّلة لها، مذكرات بعضها اعترافات لأناسٍ يبدؤون نهارهم كما بدأوه منذ زمن "بالركض في المدينة"[4]، ركض وراء لقمة العيش، أو بحثاً عن شيء ما، ركض يقطع الأنفاس بهدف وبدون هدف، في طريق ليس ككل الطرق، "المدينة مضمار كبير للركض يصحبه هدير وعويل ونداءات وصراخ"[5] لتجد نفسك عابرا نفس الطريق في نفس المدينة تركض مع الرّاكضين لمعرفة ما يختبئ وراء النصوص وبياض الصفحات.
المدينة فضاء منفتح على الهَمّ والوجع الإنساني، حيث تختلط فيه الوجوه ببعضها، وتنصهر داخله الأوجاع والآلام، لتُفرزَ ذواتاً إنسانية بعيدة عن معنى الإنسان في حقيقته، وتقتربُ من الألم تصوغه نصوص "لا طمأنينة في مدينتي" بحضور قوي يحمل من التناقضات الكثير، ومن المعاناة الكثير، ممزوجا بنكهات أليمة تجوب الشوارع والأزقة والحارات والمقاهي والأسواق، وكلام الناس البسطاء والمهمّشين.
قوة النصوص في فضحها للهامش، لحيوات هي جذوة اشغال الحكي القصصي عند القاص عبد الحميد الغرباوي، والمدينة، هنا، هي الباب الواسع والمُخيف الذي رغم الوجع والألم الذي يسري داخلها، فاتحة أذرعها تتحمّلُ ما تبقى من الإنسان العادي الذي لا يُحسن من نهاره إلاّ الركض في أحياء المدينة العامرة بالحرمان والمرارة والعزلة والقهر هو وأشباهه الذين يتقاسمون معه نفس البداية ونفس المسار والمصير.
نصوص المجموعة تتماسك، يشد بعضها بعضا، تدفع بالقارئ إلى الاسترسال قراءةً والمشاركة الإيجابية في إنتاج مخبوء ما وراء السرد، نص يدفعك إلى نص، وكل نص مستقل يحمل طيته أدواته البنائية، يسيرا وحيدا غير منفصل عن المجموعة، عبر سرد سلس متماسك يفتح للقارئ مجالات للتأويل والمتعة، والدخول إلى عوالم وفضاءات الشخوص التي تركض باحثة عن الفرح والأمل للخروج من دائرة الهامش القابض بثقله على الحياة في المدينة التي تبحث، كناسها، عن الطمأنينة الهاربة لعيش إنساني كريم.
ترتبط المدينة بشخوصها كأنّهم هم المدينة نفسها، "وماذا تكون المدينة سوى البشر، كما قال وليام شكسبير، يؤثثونها بحياتهم ومعيوشهم اليومي، لأن المدينة تكون بناسها وحالاتهم التي يكونون عليها حين يركضون وراء ما يُقبضُ ومالا يُقبض، من خلال حكايات المجموعة التي تولد في الشقق والمقاهي والشوارع والساحات والأزقّة، وعلى الشُّرفات.. تُسيّر شخوصها مجبرة على احترام الأضواء ومواقيت العمل والتنقّلات، والوقوف في الطوابير وتحمّل بذاءة الناس، ودفع ضرائب التساكن والتجاور، وتحمّل الضجيج والصراخ، والتعايش مع لا طمأنينة الدينة/المدن. وكل تحول في المدينة ينعكس على كل نص من نصوص المجموعة، شكلا ومُعجماً وحركة وتصويرا وسردا.. ليصبح لكل نص بطل، بطل بصيغة الجمع، لأنه يمثل الكثيرين من أمثاله في مدينة السارد وفي مدن أخرى، تنتظر من يفتح أبوابها لتظهر أسرارها، فتتحرك حواس الأمكنة المشيدة للنصوص، وتهيج الأصوات وتتحرك بالتالي دواخل الشخوص التي تحضر بأمزجة ودلالات جديدة تحكي بتصرفاتها واقعا يختلف باختلاف الفضاءات والذوات التي تجمعها، وتبني بها ومعها حالات ومشاهد تمر أمام القارئ متسارعة مرة، وبطيئة مرة، ومشاكسة مرات، من ركض يقطع الأنفاس إلى آخر مطاف الرّكض حين يقف السارد والقارئ معا أمام نفسيهما.. "يا أنا"[6].. هل فعلا "يا أنا" ليخاطب السارد نفسه، أو "يا أنا" هي يا أنت أيها القارئ، "فِقْ أو قِفْ، ليحضُر السؤال صادما، هل كما دخلتُ راكضا خرجت؟
"يا أنا"، نص جاء قفلة للحكي ونهاية له، ملخّصاً جامعا كل النصوص بحرفية واضحة. أنا والشخوص والمدينة وما يجمع بينها من ألم وقهر وحزن وتحدّ، سؤال يظهر جليا أمام ناظر المتلقي عند نهاية القراءة، هل كما دخلتُ خرجتُ أو في نفسي بعضا من السارد والشخوص والأمكنة والألم؟ أكيد، في نفسي شيء.
ختاما..
يكفي القارئ أن يقرأ عن هذه المدينة التي لا طمأنينة فيها، مستمتعا، راكضا، متسائلا.. ورغم أن لكل شيء نهاية، ولكي يعود هذا القارئ لجمال السرد واكتشاف متع الحكي وأسراره، وخبايا المدينة الرابضة بين السطور، فلْيُعِدْ قراءة المجموعة، ولن يندم.
***
عبد المطلب عبد الهادي
.......................
[1] عبد الحميد الغرباوي. لا طمأنينة في مدينتي. قصص. منشورات باب الحكمة 2023.
[2] لا طمأنينة في مدينتي. ص 41.
[3] لا طمأنينة في مدينتي ص 89.
[4] الركض في المدينة. نص قصصي ضمن المجموعة القصصية ص 13.
[5] لا طمأنينة في مدينتي. ص 15
[6] يا أناـ نص من المجموعة ص 101..