قراءات نقدية

كريم عبد الله: أنين الذاكرة.. حين يتحول الحب إلى قيود

قراءة نقدية في قصيدة "ولا هكذا وجع"! للشاعرة الجزائرية آمال زكريا

***

ولا هكذا وجع!

آمال زكريا / الجزائر

كهاوية تمتطي الخيال

مرتوية الغنج

كل بنات جيلي على قدم وساق تترقب

أبي يطرٍز سروج الخيل

وأي الرشمات والخامات سيتفنن بهم في سرج مدللته!

في سري ويقيني

لن يقتني إلا أسلاك الذهب والزمرد والمرجان

وبريش النعام يميٍزه

بطراز عثماني أصيل

فصنع لي تابوت وشيّع أحلامي

لحظتها فقط

وقفت صوب مرآة الذاكرة

ليتضح يتمي المبكر!

مذ آمنت بالحب

منحته قلبي وكياني

وضعني بزنزانة موحشة

حتى يريني النور

أخرجني لموكب يزف فيه ثلاث حوريات

هو يتباهى بحسنهن

وأنا أدوخ في دوار الحضرة

ودهشة تبتلع شظايا لغتي

كل اللآلئ التي أودعتها في حصّالته

وكل رغباتي المشتهاة التي أجلّها

نثرها على جلدهن

حتى السماء خائنة تدوي بالفرح

ليهطلني فيض من دمع لا يجف

كان الشعور غريب

أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية

ألم لم يشهده كياني

كلحد ضمني كسر أضلاع هيكلي

أمي الأرض بعنف تحاصرني شامتة

هذا أباك وحبيبك

ذاك رحل

والآخر وأد نبضك

لم أقل ليتني كنت ترابا لكن تمنيت لو أنني

لم أشهق الحياة أبدا...

***

القراءة النقدية:

حين قرأت قصيدة /و لا هكذا وجع!/ للشاعرة آمال زكريا، كنت كمن يطأ عتبة عالم مليء بالأشواك والآلام المستعصية. القصيدة ليست مجرد كلمات مرصوفة بعناية، بل هي حوار داخلي طويل مع الذات، ونداء صامت يمر عبر الزمن ليحكي لنا عن القهر الذي يعتصر القلب، والحزن الذي يطفو على سطح الذاكرة ليغرق كل شيء في ظلاله. في قلب هذه القصيدة تكمن معركة مريرة بين الحب الذي كان يُفترض أن يكون مخلصًا، وبين الواقع الذي لا يعترف بالأحلام، ليُجسد الوجع الذي يتشكل من مزيج معقد من العواطف والأحلام الضائعة.

1. الخيال كهاوية: البداية التي تُنبئ بالخسارة

/كهاوية تمتطي الخيال/، عبارة بسيطة، لكنها في غاية الشدة في رمزيّتها. فالخيال هنا ليس مجرد هروب من الواقع، بل هو الحفرة التي تبتلع الأحلام ببطء. الخيال يُشبه البحر العميق، عميق بما يكفي ليغري العقل بمتعة السباحة فيه، لكنه يحمل في طياته غرقًا حتميًا. وهذه هي مفارقة القصيدة: أن الخيال كان أداة السقوط والضياع، كأن الشاعرة لم تكن تعلم أن عالمها المثالي سيتحطم في لحظة من الوعي الثقيل.

2. /صنع لي تابوتًا وشيّع أحلامي/: من حلم الرفاهية إلى واقع المأساة

الشاعرة تبدأ حلمها بحياة فاخرة، مثالية، يغلفها الذهب والزمرد، في أجواء تشبه الأساطير. /أبي يطرز سروج الخيل/، ليس مجرد مشهد من الطفولة، بل هو استعارة للطمأنينة التي كانت تملأ قلب الطفلة التي كانت تظن أن والدها سيحميها من قسوة العالم. ولكن تأتي اللحظة التي يتحول فيها هذا الأمان إلى نوع آخر من العزلة، لحظة من الخيبة الكبرى عندما تُدرك أن /التابوت/ الذي صنعه والدها ليس لدفن أجسادهم، بل لدفن أحلامهم. التابوت هنا رمز للفخ الذي يدور حول الحلم المثالي ويخنقه. إن الحلم الجميل يتحول إلى عبءٍ ثقيل؛ هو إعلان عن نهاية حقبةٍ كانت مليئة بالأمل.

3. /زنزانة موحشة/ و/الخيانة المحجوبة/

في اللحظة التي تخاطب فيها الشاعرة نفسها قائلة /وضعني في زنزانة موحشة حتى يريني النور/، نرى كيف يختلط الحلم بالواقع، وكيف يصبح الحب في جوهره سجنًا نفسيًا. الشاعرة لا ترى في الحب أملًا، بل قيدًا يتجسد في زنزانة تجعلها ترى النور ولكن من خلف القضبان، كما لو كانت تراقب الضوء من نافذة ضيقة جدًا. هناك شيء أكثر ألمًا في هذه الصورة: إنه شعور بالتضحية الخالدة، أن الحب الذي اعتقدت فيه كان مجرد سراب يورطها في غياهب الحزن.

4. ألم الحب: بين التضحيات والخيانة

نحن هنا أمام حالة من الخيانة العاطفية التي لا تنفصل عن الخيانة الذاتية. الشاعرة تضع نفسها في موقع الضحية، لكن تذكر أنها /منحت قلبها وكيانها/ للحب، وهو ما يعمق الألم بشكل أكبر. لأن الحب، الذي كان يجب أن يكون ملاذًا، أصبح هو نفسه الجلاد. صورة /الحوريات/ في الموكب تضع الشاعرة في موقف المراقب العاجز الذي يرى الآخرين يعيشون في الجمال والنقاء الذي كان من المفترض أن يكون له، بينما هي غارقة في حالة من الاضطراب والدوار. الحوريات، كرموز للجمال المثالي، لا تُمثل فقط الطموحات الضائعة، بل هي في الواقع التذكير بالحلم الذي كانت الشاعرة تأمل في أن تعيشه.

5. من الفقد إلى العزلة: مأساة الأنثى في قلب المجتمع

/أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية/، هي صورة تراجيدية تنم عن وحدة شديدة لا تقتصر فقط على الخيانة العاطفية، بل تتعداها إلى ألم الانتماء. هنا لا تتحدث الشاعرة عن ذاتها فقط كضحية لفقدان الحب، بل تقدم نفسها كرمز للمرأة التي تتعذب في صمت داخل بنية اجتماعية لا تتفهم معاناتها. العار الذي تحمله في قلبها ليس فقط ناتجًا عن خيانة الحب، بل هو مرآة لمجتمع يضع عليها عبئًا إضافيًا: عبء الهوية، والمكان الذي يُفترض أن تكون فيه، و/الجسد العاري/ الذي لا ينتمي إلى أي شيء حقيقي أو ثابت.

6. /السماء خائنة/ و/فيض الدموع/: الفقد الذي لا يُغسل

ثم تأتي /السماء الخائنة/ التي /تدوي بالفرح/، وكأن الكون كله يتحول إلى مصدر للخيانة. السماء التي كانت تُعتبر رمزًا للأمل والرحمة، تتبدل هنا إلى مصدر آخر للحزن. الصراع في هذه اللحظة ليس فقط مع الشريك الذي خذلها، بل مع الكون نفسه الذي كان من المفترض أن يحتضنها.

الفيض من الدموع الذي لا يجف هو أعمق من مجرد حزن عابر؛ هو مرآة لنزيف روحي دائم لا يجد شفاء. الشاعرة لا تكتفي بالتعبير عن الحزن، بل تُظهر لنا كيف أن هذا الحزن أصبح جزءًا من كيانها، كيف أصبح جزءًا من جلدها وعظمها، وهو ما يجعل الخروج منه مستحيلاً.

7. النهاية: أمنية الفقد التام

وفي النهاية، تُختتم القصيدة بجملةٍ تحمل في طياتها أمنية محبطة: /تمنيت لو أنني لم أشهق الحياة أبدًا/. هذه العبارة تحمل أعمق معاني العزلة والتفكك؛ حيث يصبح الموت أو الفقد هو الحل الوحيد للمعاناة المستمرة. الشاعرة، في لحظة من اليأس الكامل، ترى أن الحياة التي عاشتها لم تمنحها شيئًا سوى الألم. هذه الجملة لا تعكس فقط خيبة الأمل، بل هي إعلان عن فشل الذات في مواجهة الواقع.

خاتمة تأويلية:

هذه القصيدة هي شهادة على فداحة الفقد، ليس فقط في الحب، بل في الوجود ذاته. الشاعرة لا تُحارب الأذى العاطفي فقط، بل تُحارب كونًا برمته لم يمنحها فرصة لتحقيق الذات كما حلمت. في هذا العالم المملوء بالقيود والخيبات، تصبح الذكريات هي الملاذ الوحيد، ولكنها مع مرور الوقت تتحول إلى شيء أشبه بالقيد الذي يلف الروح.

هذه القصيدة تفتح أمامنا أبوابًا واسعة للتأمل في كيفية تأثير الحب على الذات الإنسانية، وكيف يمكن للألم الناتج عن الخيانة والفقد أن يصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية. إنها ليست مجرد قصيدة عن الحب أو عن الخيانة، بل هي رحلة عميقة إلى عمق النفس الإنسانية التي تصارع نفسها، تبحث عن معنى في عالم غارق في الضياع.

في /و لا هكذا وجع!/ نجد أنفسنا أمام قصيدة تتسلل إلى أعماق النفس البشرية بكل تعقيداتها، لتكشف لنا عن جروحٍ لم تلتئم، وأشباحٍ لا تزال تحوم حول الذات في صمتٍ قاتل. الشاعرة آمال زكريا، من خلال كلماتها، تقدم لنا صورة عن النفس الإنسانية وهي تترنح بين الأمل والخذلان، بين الحب الذي يذبحها والذكريات التي تحاصرها.

النفس هنا ليست مجرد موضوع شعري، بل هي كائن معذب، محاصر في دوامة من التناقضات العاطفية. الحب الذي كان في بداية القصيدة يمثل الأمل والرفاهية، يتحول تدريجيًا إلى سجن، إلى نوع من /الزنزانة الموحشة/، وكأن الشاعرة تتحدث عن دائرة لا نهائية من الألم العاطفي الذي لا يجد مفرًا. ما يجعل هذا الصراع النفسي بالغ العمق هو أن الحب هنا ليس فقط خيانة من الآخر، بل هو خيانة من الذات أيضًا. الشاعرة تتنازل عن نفسها من أجل الحب، تُقدم قلبها دون تحفظ، وعندما تجد أنها قد تمزقت، يبدأ الوعي بالذنب الذاتي، /تمنيت لو أنني لم أشهق الحياة أبداً/. هذه الأمنية ليست مجرد رفض للحياة، بل هي تجسيد لصراع أعمق، صراع يخص الهوية والوجود.

الشاعرة تجد نفسها في مواجهة لا فقط مع الحبيب الذي خذلها، بل مع كونٍ أوسع، مع الحياة التي تضعها في معركة مستمرة لا تملك فيها سوى ذكرياتٍ مشوهة وألمٍ دائم. هذه المشاعر لا تقتصر على الخيانة العاطفية فحسب، بل هي خيانة وجودية، حيث تشعر الشاعرة أنها لم تلبِ توقعاتها، وأن حياتها تحولت إلى سلسلة من التضحيات التي لم تثمر عن شيء سوى الخيبة والمرارة. إن ما تعيشه هو حالة من التشظي الداخلي: إنها روح تتكسر على صخور التوقعات المثالية التي كانت تظنها حقيقية.

عندما تقول /أخفي مأساتي كأم عازبة في جوفها عار ينبض دون هوية/، تتحول هذه الكلمات إلى مرآة للنفس البشرية التي تعاني من انفصال عميق بين ما كانت تظنه عن نفسها وما أصبحت عليه في الواقع. هي في حالة صراع مستمر مع الهوية، تتساءل عمن هي، وما الذي جعلها تكون بهذه الصورة المؤلمة. هي في حالة من اللامكان، لا تنتمي إلى الماضي الذي كانت تحلم به، ولا تجد مكانًا لها في المستقبل الذي كان يمكن أن يكون.

وفي النهاية، تظل القصيدة تسبح في بحر من الأسئلة غير المجاب عنها: هل يمكن للإنسان أن يتحرر من هذه القيود النفسية التي يفرضها على نفسه؟ هل يمكن أن يعيد بناء ذاته بعد أن دمرتها الخيبات؟ إن القصيدة، بكل ألمها، تقدم لنا إجابة غائمة، لكنها دعوة لا واعية إلى الوعي الذاتي، إلى ضرورة أن نتوقف يومًا ما، لا لنتوب عن الحب، بل لنعيد تقييم علاقتنا مع أنفسنا ومع أقدارنا.

لذلك، /ولا هكذا وجع!/ ليست مجرد قصيدة عن الحب والخيانة، بل هي مرآة للنفس التي تحاول أن تجد مكانًا لها في عالم لا يعترف دائمًا بحقها في الفرح. إنها صورة عن الإنسان الذي يشعر بالحيرة والتمزق، بين حقيقة ما هو عليه وأمل ما كان يمكن أن يكون. وكأن الشاعرة قد حاولت أن تطهر نفسها من خلال الكتابة، لكن في كل كلمة، في كل صورة، تكمن تلك الذاكرة التي لا تموت، وتلك الجراح التي لا تشفى، والتي تظل تلاحق النفس حتى تصبح جزءًا من هويتها.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

في المثقف اليوم