قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسّعة لقصيدة "لأنك أنت" للشاعر محمود السرساوي

قراءة في أفق الشعر الوجداني وتحوّلات المعنى في لغته الحُبّية

يمثّل الشاعر الفلسطيني محمود السرساوي أحد الأصوات الشعرية التي تجسّد في كتابتها توتّر الوجد بين الداخل والكون، بين الذاتي والعالمي، حيث تتجلى القصيدة عنده كضرب من الانكشاف الأنطولوجي المضمّخ بماء الحب، لا كفعل لغوي فحسب، بل كإزاحة للرؤية وتحويل للغة إلى طاقة كشف. في قصيدته "لأنك أنت" يفتح السرساوي أفقًا من الوجد الخالص الذي يزاوج بين الإنساني والطبيعي، بين الحب والكينونة، بأسلوب شعري ينأى عن المباشرة ليتوسل الرمز والتكثيف والتجريد الحسي.

أولًا: جدلية الذات والآخر — من الهوية إلى الذوبان:

العنوان نفسه "لأنك أنت" يشكّل جملة شرطية ناقصة، ما يضمر أن القصيدة كلّها هي جواب ذلك الشرط. هذه البنية المعلقة تمنح النص كثافة وجدانية وتفتح إمكانات متعددة للتأويل. فـ"أنت" هنا ليست فقط ضمير المخاطب، بل هي مطلق الحضور، قد تكون الحبيب/الآخر، وقد تكون الكينونة/المطلق، وقد تكون صورة الذات وقد انعكست في الآخر.

إن الشاعر ينطلق من "أنت" لا كطرف خارجي، بل كشرط أولي للوجود وللإدراك:

 "لأنك أنت / الساعة خارج الوردة / خارج العطر المسفوح على الأعشاب"

يُخرج السرساوي الزمن من معناه الميكانيكي، ليجعله توقيتًا شعوريًا مرتبطًا بالحب. "الساعة" لم تعد وحدة لقياس الوقت، بل لحظة وجودية متجاوزة "للوردة" و"العطر"، كأنّ الحب هنا يفكّك العلامات الحسية ليستعيد المعنى الأصيل للوجود..

ثانيًا: اللغة الشعرية كفعل انبثاقي:

يعتمد سرساوي على الاقتصاد اللغوي والتكثيف الدلالي، حيث تتراصف الصور الشعرية في توليفات غير مألوفة، تصنع انزياحات لغوية تعبّر عن التوتر بين الداخل والخارج:

 "يخرج من كفيك المطر / سرب دروب ظامئة / وشجر يتوجع".

الصورة هنا تتجاوز الاستعارة التقليدية، لتقيم علاقة بين الجسد (الكف) والطبيعة (المطر، الدروب، الشجر). لا حضور لمخاطب خامل، بل لكائن فاعل، خالق، يسقي الكون بفيضه، ويستدرج الظمأ إلى الاكتمال. في هذا السياق، يصبح الآخر (أنت) كينونة فياضة بالمعنى، مركزًا كونيًا تتجاذب نحوه العناصر.

ثالثًا: السفر كاستعارة للبحث عن الذات

في قوله:

"كم اكتمل الآن بك / كم احتاج السفر إليك"

يتحوّل الحبيب إلى وجهة روحية، إلى اكتمال وجودي يتوق إليه المتكلم. "السفر" ليس حركة مادية، بل تعبير عن التوق الأنطولوجي نحو الاندماج، وكأن الهوية لا تكتمل إلا بالآخر، بما يحيل إلى تصوّر هيغلي للاعتراف: أن الذات لا تكتمل إلا عبر الآخر.

رابعًا: انكسار الزمن وتجاوز الواقعي

"صفير دمه المشع على المقاعد / والهمس الذي أسقط كرة العالم / بقبلة واحدة"

تشكّل هذه الصورة إحدى أكثر مواضع النص كثافة وغرابة. هنا يتحول "الهمس" إلى قوة كونية قادرة على "إسقاط" العالم، ليس عبر العنف بل عبر الحب. تتلاشى الحدود بين الخاص والعالمي، بين ما هو حسي وما هو ميتافيزيقي، فيصبح "القبلة" حدثًا كونيًا، أشبه بما يسميه باشلار بـ"الصورة الجوهرية" التي تحرّك فينا مخيلة العالم.

خامسًا: تفكيك مفهوم البداية — الحب بوصفه أصلًا

تبلغ القصيدة ذروتها في ختامها:

"لأنك أنت / في البدء كان الحب"

هنا يستعيد الشاعر جملة الكتاب المقدس "في البدء كان الكلمة"، لكنه يستبدل "الكلمة" بـ"الحب"، مما يشير إلى تأويل وجودي مغاير: الحب ليس عاطفة عابرة بل أصل الكينونة. بهذا التوليف، يقيم الشاعر فلسفة شعرية ترى في الحب قوة الخلق والبدء، لا فقط انفعالًا ذاتيًا.

سادسًا: تحليل الأسلوب والدلالة الجمالية:

1. الأسلوب:

تتسم القصيدة بلغة شعرية تعتمد على المجاز والانزياح.

لا وجود لقافية أو وزن تقليدي، مما يضعها في إطار الشعر الحر الحداثي.

التكرار (خاصة عبارة "لأنك أنت") يمنح النص إيقاعًا داخليًا ويُرسّخ البنية الدائرية للخطاب الوجداني.

2. الفضاء الدلالي:

الطبيعة (السماء، المطر، الشجر) تحضر بوصفها مرآة للمشاعر الداخلية.

هناك تشاكل بين الخارجي (الكون) والداخلي (الحب)، مما يضفي على القصيدة طابعًا كونيًا لا شخصيًا فقط.

3. الجمالية الكلية:

القصيدة لا تسعى إلى وصف شعور، بل إلى تجسيده.

الحب هنا ليس حالة بين اثنين، بل شرط أنطولوجي للوجود.

خاتمة:

قصيدة "لأنك أنت" لمحمود سرساوي ليست فقط نشيدًا للحب، بل تأمل شعري في معنى الوجود، حيث يلتقي الشعري بالفلسفي، والحسي بالميتافيزيقي. إنها قصيدة تجترح لغة جديدة لقول العاطفة، لا تسكن في الحنين أو الغياب، بل تقيم في الحضور، حضور الآخر الذي تتجلّى به الأشياء ويكتمل به المعنى.

يستحق النص أن يُقرأ كجزء من مشروع شعري فلسطيني وعربي يعيد للحب مكانته كقوة معرفية وجمالية لا كحالة رومانسية فقط، ويتجاوز حدود التعبير التقليدي ليخوض في جوهر الإنسان وعلاقته بالعالم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

في المثقف اليوم