قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: النهر والابن الغريب.. قراءة نقدية في قصيدة

"يقول النهر أنت ابني" للشاعر العراقي فارس مطر

المقدمة: يُعد الشعر العربي الحديث، ولا سيما في تجاربه ما بعد التفعيلة، مساحةً رحبة لاستبطان الذات في علاقتها بالكون والمصير والآخر. ومن بين هذه الأصوات المعاصرة، يبرز الشاعر العراقي فارس مطر، الذي يحمل تجربته الوجودية عبر نسيج لغوي متوترٍ بين الفقد والانبعاث.

مؤكداً أنَّ الثقافة العربية المعاصرة تشهد صراعاً على المفاهيم وتداخلاً في الدلالات، ولعلّ أبرزها مفهوم التعدّدية، الذي حُصر في إطاره السياسي الحزبي الضيق، وتُركت أبعاده الحضارية والأنتروبولوجية والثقافية خارج التداول أو التفعيل. في الوقت ذاته، تواصل القصيدة العربية الحديثة لعب دورها في التعبير عن تلك الأزمة، عبر مساءلة الوجود والهوية والذاكرة من داخل فضاء لغوي مشحون بالرمز والمنفى والانتماء المتشظي.

إنّ المفهوم الرائج للتعددية في المشهد العربي يكاد ينحصر في البعد الحزبي أو التياري، بوصفها مجرَّد ترخيص قانوني لوجود آراء سياسية متعدّدة. غير أنّ التعدّدية في بعدها العميق، كما يراها مفكرون كـالمفكر الجزائري (مالك بن نبي) أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين والمفكر المغربي (محمد عابد الجابري)، تتعلق بقدرة الثقافة على تمثّل الآخر، وهضم التنوع وإعادة إنتاجه من داخل الذات، دون أن يُنظر إليه كتهديد.

إنّ المجتمعات التي لم تطوّر أدوات معرفية وهوياتية تستوعب التعدد، تفشل في تحويل التنوع إلى طاقة، وتحوّله بدلاً من ذلك إلى صراع أو انقسام. وهذا ما عبّر عنه عالِم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان حين قال: "المجتمع الذي لا يتقن فنّ الاختلاف، لا ينجو من شبح التفكك."

في المقابل، نرى أنَّ التعددية في الحضارة العربية الإسلامية، في فترات ازدهارها، لم تكن مجرد تسامح سلبي، بل مشروعاً فعلياً للتفاعل الخلاق مع الآخر؛ فمدن مثل بغداد وقرطبة والقاهرة ودمشق والقدس لم تكن محطات عبور ثقافية فقط، بل مختبرات كبرى لإنتاج معرفة متعددة اللغات والانتماءات، كتبها وأثراها شعراء وفلاسفة وأطباء من أديان وقوميات شتى.

وهذا ما يجعلنا نعيد التفكير في التعددية، لا كسياسة، بل كـ (حس حضاري)، كما يسميه الناقد والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، يكون بمثابة القدرة على الإصغاء إلى الآخر دون أن ترتعد ذاتك.

في ظل هذا العجز عن تمثل التعددية كهوية حضارية، تأتي القصيدة الحديثة، ومنها نص فارس مطر، لتجسد مأساة الذات العربية الممزقة بين أصل منسي ومنفى دائم. القصيدة "يقول النهر أنت ابني" ليست فقط تأملاً في العلاقة بين الإنسان والمكان، بل مرآة لخيبة ثقافية أعمق.

من هذا المنطلق، تهدف هذه الدراسة إلى دمج مسارين فكريين متوازيين: الأول نقدي ثقافي يرصد الخلل في تلقي وتوظيف مفهوم التعددية في الثقافة العربية، والثاني تحليل شعري يتخذ من قصيدة "يقول النهر أنت ابني" لفارس مطر نموذجاً لتجسيد أزمة الهوية والمنفى والبحث عن الأصل. وسنرى كيف يتقاطع الرمز الشعري مع المفهوم الثقافي لتشكيل صورة بانورامية لأزمة الوعي العربي الحديث، بين عجزه عن تمثل التعددية حضارياً، وحنينه المستميت إلى ضفاف مفقودة.

في قصيدته "يقول النهر أنت ابني"، يعيد الشاعر مطر تشكيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة في بنيةٍ دراميةٍ تضع الذات في مواجهة مأساوية مع الزمن والذاكرة والموت.

تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة نقدية موسعة للقصيدة، عبر تحليل بنيتها الموضوعية والرمزية واللغوية، من خلال تفكيك عناصرها الموضوعية والرمزية والأسلوبية، واستجلاء أبعادها الفكرية والشعورية. مع مقارنتها ببعض نماذج الشعر العربي الحديث. حيث تمثل قصيدة "يقول النهر أنت ابني" للشاعر العراقي فارس مطر نموذجاً رفيعاً للقصيدة الحديثة التي تتوسل الرمز والأسطورة لإعادة تشكيل علاقة الإنسان بالمكان والوجود. هنا يتداخل النهر باعتباره معلماً طبيعياً وحاملاً للذاكرة مع شخصية الجد المنفي، مما يمنح النص كثافة شعورية ويؤسسه على قاعدة الغربة والحنين والبحث عن هوية مفقودة.

تدور القصيدة حول نداء داخلي تتلبسه صورة "النهر"، الذي يخاطب الذات عبر الذاكرة الجمعية الممثلة بالجد المنفي.  حيث نجد الشاعر فارس مطر يستنطق النهر ككائن حي، حامل للذاكرة والموت والحياة، مكوّناً نصاً يقوم على ثنائية الوجود والغياب. بكاء الإنسان، عبثية البناء، ضياع الآثار، كلّها رموز لفشل الإنسان في ترك بصمته الخالدة. ومع ذلك، ثمة دعوة صريحة للانبعاث عبر الكلمة، عبر القصيدة ذاتها، بما يجعل من فعل الكتابة محاولة خلاص أو مقاومة للعدم.

وهذا يدفعنا للخوض في البنية الموضوعية للقصيدة، كونها تتمحور حول حوار وجودي بين النهر (ككيان طبيعي ورمزي) وبين الشاعر أو أسلافه المنفيين. منذ البداية، يواجهنا الشاعر مطر بتساؤل وجودي: لماذا لم تبكِ؟ ما يضع الفعل العاطفي البسيط (البكاء) في مرتبة المصير والموقف من الحياة.

يمضي النص في تتبع علاقة الذات بالزمن والمكان عبر صورة قافلة تضيع قبل أن تبدأ مسيرتها، مما يوحي بعقم المحاولة الإنسانية في مواجهة المطلق.

يتحول النهر هنا إلى شاهد أبوي على خيبة المسيرة الإنسانية، ثم إلى موصٍ ينصح بالوفاء للذاكرة وإطلاق الأسماء كوسيلة لإعادة خلق الوجود الضائع. فالنهر هنا رمز وليس مجرد طبيعة صامتة، بل يتحوّل إلى "أب" يتبنّى الإنسان الغريب والمنفي. هو معلم زمني ومكاني، يحفظ الذاكرة ويمنح الشرعية للهوية الضائعة. وهذا التوظيف الرمزي يعيد إلى الأذهان استلهامات نهر الفرات ودجلة في الوجدان العراقي كشرايين للحضارة والهوية. وهو رمز للذاكرة، للأصل، وللانتماء المنكسر. وهو صوت التاريخ الطبيعي الذي يطالب بالاستمرارية رغم الغربة والمحو.

تنعكس في خطاب الجدّ المنفي رمزية النفي من الوطن أو الوجود الأصلي، حيث يصبح التيه قدراً ملازماً. الغربة هنا ليست سياسية فقط بل كينونية: "لا وجهٌ ولا ضفةٌ"، أي غياب المكان المألوف والانتماء.

أما الدمع فإنّه يمثل الرمزية، وهو إحدى الأدوات المركزية في بناء القصيدة كما يمثل الاعتراف بالمحدودية البشرية، والبكاء كفعل خلاص داخلي.

هنا نبدأ من جديد في البحث عن رمزية العباءة التي تعبّر تمام التعبير عن استعارة من الإرث الثقيل للهم الإنساني والجماعي.

أما الحصان المُسمّى ريحاً، فهو استعارة للانفلات والتحرّر من القيود الماديّة، واستعجال المصير.

أما الغربة، فهي رمزٌ للغربة المزدوجة؛ غربة الذات عن المكان وعن ذاتها، مما يكرّس فقدان الضفة والوجه معاً.

هذه الرموز تتجاور في نص ينضح بالأسى من جهة، وبإرادة خافتة للبعث من جهة أخرى.

ـ الأسلوب واللغة:

تتسم لغة فارس مطر بكثافة إيحائية عالية، مع استعمال متقشف للأدوات البلاغية، يفضِّل الإيحاء على التصريح. حيث نلحظ أنّ الجمل قصيرة في الغالب، متقطعة، مما يعكس توتر الوجدان، ويواكب تموجات النهر نفسه. كما يعتمد التوازي بين الصور في المقطع الواحد لخلق إيقاع داخلي غير مرئي، حيث تتناوب أفعال الزمن والفناء والحياة بشكل دائري.

القصيدة مكتوبة بلغة مشحونة بالانفعال والاختزال، حيث الكثافة البلاغية تحلّ محل السرد. الأفعال فيها مكثفة ("لم تكن تبكي"، "يغزل وقته"، "أطلق الأسماء") ما يمنح النص طابعًا ديناميكياً.

ـ البنية المجازية:

اعتمد الشاعر فارس مطر في قصيدته (يقول النهر أنت ابني) على صور حركية مفعمة بالحيوية (القافلة، الرمل، الحصان، الريح)، مما أعطى القصيدة بعداً أسطورياً وطبيعياً معاً. الصورة الشعرية ليست وصفاً بل خلق لعالم موازٍ للواقع.

ـ الحوار الداخلي:

استخدام ضمير المخاطب ("أنت ابني") والحوار مع النهر يمنح النص طابعاً درامياً داخلياً، حيث يتحوّل الحديث من نداء الوجود إلى استكشاف الوعي الفردي والجمعي.

ـ البنية الإيقاعية:

على الرغم من أنَّ القصيدة نثرية، إلّا أنّ بنيتها الإيقاعية تقوم على التكرار الداخلي والجرس الصوتي لبعض المفردات (كالتكرار الجزئي لكلمات مثل "قصيدتك"، "ريحاً"، "أطلق"، "احفظني"). هذه التقنية تمنح القصيدة إيقاعاً خفياً ينوب عن الوزن التقليدي، ما يجعلها تستجيب لمعيار "الموسيقى الداخلية" الذي تحدّث عنه الشاعر والفيلسوف والكاتب الفرنسي بول فاليري والشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر الملقب بـ (أدونيس).

تقدم قصيدة "يقول النهر أنت ابني" عملاً شعرياً مشبعاً بالرمز والحنين، متكئاً على التراث الجغرافي والأسطوري، وعلى التجربة الإنسانية في الغربة والمنفى. يتميّز نص فارس مطر بقدرته على تحويل القلق الوجودي إلى شعر، وتحويل الفقد إلى فعل للكتابة والخلق. إنها قصيدة تقف على تخوم الموت والبعث، وعلى حافة الوطن والغربة، ممهورة بصوت الذاكرة العراقية العميقة.

ـ مقارنة نقدية مع أصوات معاصرة:

... مع الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب ابن قرَية جِيْكُور في محافظة البصرة في جنوب العراق، والذي يعدُّ واحداً من الشعراء المشهورين. حيث يتقاطع النص مع تجربة السياب في تحويل عناصر الطبيعة (مطر، نهر) إلى شخصيات شبه أسطورية تتداخل مع مصير الإنسان.

غير أن مطر يتجاوز الرومانتيكية نحو مقاربة أكثر حداثية، ترى في النهر ذاكرة للغياب أكثر مما هو بشارة بالخلاص.

... مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش ابن قرية البروة في الجليل الأعلى، وهو من كبار الشعراء العرب، يحمل النص أصداء غربة درويش، خاصة في تيمات التيه واللاانتماء. لكنّ الشاعر فارس مطر يركّز على وحدة المصير الفردي بعمق أنطولوجي، بعيداً عن النبرة القومية التي غلبت على تجربة الشاعر محمود درويش.

مع الشاعر والمفكر السوري علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس)، ابن قرية قصابين ـ جبلة وهو من الشعراء الكبار في عالمنا العربي الحديث. يتقارب الشاعر فارس مطر مع أدونيس في وعيه بوظيفة اللغة كشريك فاعل في خلق الوجود الشعري. لذا فالقصيدة هنا ليست وصفاً للعالم بل محاولة لإعادة خلقه، حيث الكلمة تميت وتحيي في آن واحد.

في الختام:

في قصيدته "يقول النهر أنت ابني"، يقدم فارس مطر نصاً شعرياً ينتمي إلى فضاء الحداثة القلقة، حيث تتحوَّل الطبيعة إلى شاهد على غربة الإنسان وعلى صراعه الدائم مع الفناء والنسيان.

تتميز القصيدة ببنائها الرمزي المتين، ولغتها المشحونة بالإيحاء، وانفتاحها على مستويات متعددة من التأويل.

تجربة فارس مطر هنا تؤكد مكانته كشاعر قادر على مزج الوجداني بالكوني، والخسارة الفردية بالمأساة الوجودية الكبرى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

..........................

يقول النهر أنت ابني

لماذا لم تكن تبكي

لِتُعطي الدمعَ فرصَتَهُ

وَتَبني صَرحَكَ الوَهمِي

تَنمو مثلَ قافلَةٍ

تَضيعُ بأوَّلِ الخطواتِ

لا آثارَ

لا أوراقَ

كانَ الرَّملُ يَغزِلُ وقتَهُ أيضاً

سأسأَل عن عباءَةِ هَمِّكَ البَشَرِي

أتَحمِلُني بكامِلِ موتِيَ المُعلَنْ؟

وَتُطفِئُ كُلَّ أورِدَتي؟

*

يَقولُ النَهرُ: أنتَ ابني

يُخاطِبُ جَدِّيَ المَنفيّ

إذا شَرَّقْتَ إحفَظني

ولا تَترُكْ قِرابَكَ دونَ ذاكِرَتي

وأيضاً.. أطلِقِ الأَسماءَ كي تَعدو

حِصانُكَ سَمِّهِ ريحاً

وكُنْ قَلِقَاً

قصيدَتُكَ التي قَتَلَتكَ قد تُحييكَ ثانيَةً

كما انفَعَلَتْ قصائِدُنا

تَهَيَّأ كي تَرى زَمَناً وأمكِنَةً

وأنتَ غَريبُكَ المجهولُ

لا وَجهٌ ولا ضِفَةٌ

***

فارس مطر

في المثقف اليوم