قراءات نقدية
محمد تركي الدعفيس: شموس الطين.. رواية البحث عن الجمال والأمل وسط المعاناة

"يغيب اللاجئون في أوطانهم ليشرقوا في أماكن اغترابهم"..
بهذه العبارة التي وردت في الصفحة 125 من روايتها "شموس الطين" تفسر الروائية ريما آل كلزلي ذاك العنوان الباعث على الخيال والتساؤل الذي اختارته عتبة أولى لعملها، وهي تشرح أكثر حين تكتب: "تلاشت أحزاني أمام إشراقة الأمل والإيجابية الساطعة التي حملوها، فغمرتني مشاعر من الصمت العميق مثل كل مرة أقابل فيها شمسا مشرقة من شموس الطين البشرية الذين قابلتهم في رحلة لجوئي"..
ومبكرا جدا، ومنذ الإهداء الذي يسبق افتتاح الرواية، يبدو الإصرار جليا على الانتصار للاجئين، ويبتعد عن تلك الصورة النمطية لمن أخذتهم بلاد المنافي، أو وجدوا أنفسهم على الرغم منهم في مخيمات لجوء تُوجع الحياة فيها بقدر موازٍ للموت، حيث ترى أن اللاجئ ليس مسحوقا كما اعتاد كثيرون تصويره، بل كائن يتطلع إلى الحب، وإلى الجمال، فتكتب في مطلع الإهداء:
"إلى:
ـ كل لاجئ ما زال يحفل بالحب والجمال برغم مرارة الحرمان.."
ويقودنا هذا التقدير المبكر لنوغل في رواية كتبت على نحو 200 صفحة من القطع المتوسط، وذهبت إلى تناول فلسفي عميق لقضايا الانتماء، والاغتراب، والوطن، والعزلة، والموت، والحرية، والكرامة، والوعي، حيث حفلت حوارات شخصياتها الرئيسة بالتطرق إلى كل هذه المسائل. كما كُتبت بلغة شاعرية، رجحت فيها كفة ريما الشاعرة على ريما الروائية، حتى خُيّل إليّ أن جمالية بعض العبارات وشاعريتها كانت تقود الروائية خلف الشاعرة التي تفرضها عنوة في الرواية.
يتمحور الحدث الرئيس للرواية حول مجموعة من الأصدقاء اللاجئين يجتمعون مساء كل أحد في مقهى أنوار الشرق في مدينة الأنوار، ليناقشوا ما سيطرحونه من مواضيع عبر منصة المثقفين في المدينة، يتحدثون عن كونديرا ونيتشه وتوماس هوبز وعن كتب دوستويفسكي، ويقررون أخيرا تحويل الانطلاق من قصة "دكان التوابيت" التي كتبها البطل الرئيس للرواية (عاصي) إلى فيلم توثيقي، ولأجل ذلك يتطوع بعضهم للذهاب إلى مخيم حيث يعيش لاجئون فروا من الحرب، وذلك ليوثقوا أحداث الفيلم بالصوت والصورة، مركزين على أهمية أن يتخذ موضوع الفيلم "هيأته الحقيقية بأبعادها الثلاثة، الأطفال في الداخل، وأولئك الذين في المخيمات، والأطفال في الخارج".
وعلى خلاف الصورة النمطية للرواية التي تتصاعد نحو بؤرة مركزية لحدث رئيس ثم تنتهي إلى حل، تكتب آل كلزلي روايتها كأنها تقدم لنا معرضا بلوحات بانورامية، وتحمّل شخصياتها التي جعلتها شخصيات مثقفة فيها الكاتب والصحفي وفنانة الرسم والمخرج والفيلسوف رؤيتها حول الوطن، والانتماء، والقراءة، والوعي، والموت، وهي رؤى عميقة حتى تكاد أهمية عمقها تشغلنا عن الاكتراث بالشخصية التي تقولها، ففي الوطن والكرامة تكتب: "الوطن وهم جميل نفقد فيه أجمل لحظات عمرنا وأكثرها حيوية، لندفن في مكان آخر يختلف عنه تماما، مكان لا يشبهه حتى في لون ترابه، مكانا يمنحك كرامة برغم رفضك لوجودك فيه حتى آخر لحظة". ص 17
وفي الاغتراب تكتب: "حينما تشعر أن كل شيء حولك يرفضك، يصبح عقلك أكثر الأشياء اغترابا" ص19
وفي الانتماء تكتب: "الانتماء شعور يتمناه كل الأحرار، وأعلى أنواعه الانتماء لذاتك" ص20
وفي الوعي والحرية تكتب: "إن أشد العذابات قسوة هو امتلاك وعي بلا حرية، فتحيا به كغصن أخضر معلق على طرف غصن آخر يابس من شجرة لم تعد تورق" ص21
وكل مقولة من هذه المقولات تحتاج تأملا وتفكرا للوصول إلى اتخاذ موقف منها، سواء بالتوافق معها أو الاختلاف عليها.
تنطلق الرواية من لقاء يحدث مصادفة في ليلة رأس السنة، لكن الحدث الحالي فيها يتشعب جريا خلف ماضي كل شخصية فيها، ويبين مثل منارة حلم كل منها للمستقبل، وما بين هذه الأزمنة تراوح الكاتبة بذكاء متنقلة في الزمن الروائي دون أن تفقد قدرتها على التحكم بخيوط السرد.
لا تبدو رواية "شموس الطين" من تلك الروايات التي تُقرأ باسترخاء في جلسة واحدة أو اثنتين، بل هي رواية تقودك إلى التفكير في كل تفاصيلها، كأنما تجبرك على القراءة بأناة، وربما تجبرك كذلك على إعادة قراءتها، حتى أن كاتبتها تقودنا بتؤدة خلف التجريب الذي تحاوله في شكل الرواية، فتروي كل شخصية ما مر بها وما تفكر به بطريقتها، ليس بالقول فقط، بل أحيانا حتى بالكتابة، كما يبدو جنوحها إلى التجريب أوضح ما يكون حين تضّمن روايتها حكاية فرعية منبثقة عنها، وهي قصة "دكان التوابيت" التي بدا أنها أرادت من خلالها أن تركز على معنى محدد يتجلى في قولها: "ليست الكتابة عن الموت سوى رحلة بحث في عمق الحياة" ص155.
***
بقلم: محمد تركي الدعفيس