قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: بين ركام التمني قراءة رمزية، نفسية وتأويلية

في خيبات العاطفة وتراجيديا الأمل المؤجل
تأتي قصيدة "بين ركام التمني" للشاعرة التونسية نعيمة المديوني بوصفها نصاً شعرياً نثرياً مشبعاً بالتوتر العاطفي والرمزية النفسية، حيث تتداخل فيه الحواس، والذاكرة، واللغة مع عناصر الزمن الغائب والانتظار المفتوح على اللايقين. لا تكتب الشاعرة المديوني فقط عن الحب، بل عن انكسار صورة الآخر، وعن العزلة المترسبة في زوايا الحنين. القصيدة تتحوّل إلى اعتراف وجودي، ينطلق من الذات المحبّة المتألمة لتصوغ تجربتها الوجدانية ضمن بناء شعريّ مشحون بالرموز والتأويلات، مما يفسح المجال لمقاربتها من خلال عدة مناهج نقدية متقاطعة.
- ففي مجال البنية الرمزية للنص:
نجد أنّ النص يحفل بمجموعة من الرموز المفتوحة والدلالات الكثيفة، التي تعمل بمثابة شفرات حسّية لتأويل العالم الشعري الذي تبنيه الشاعرة. من أبرز الرموز:
1. "الطيف"، حيث تقول:
"أنتظر طيفَك"
"هلّا اعترضك طيفُ وعدٍ ما أخلفَ يومًا مواعيده؟".
الطيف هنا ليس مجرّد حضور شبح الغائب، بل هو تمثيل للوعد/الحنين/السراب. الطيف رمز للغياب المقيم، للشخص الذي لا يأتي، لكنه يهيمن على الحضور الداخلي. هو تجلٍّ للخيبة المربوطة بالأمل، كما أنّ الصيغة الاستفهامية تضع المتلقّي في موضع تشاركي تأويلي.
2. "الدالية الوارفة"، تقول:
"وأنا هنا، تحت داليةٍ وارفة، أجمّع أنفاسي الوهنة..."
الدالية ليست فقط مشهداً طبيعياً، بل هي رمز للخصوبة والأمان الزائل، والمفارقة تتجلى حين تكون الشاعرة تحت ظلها، لكنها منهكة. الورف (الفيء) رمز للسكينة، لكنّ النفس “وهنة” مما يدل على تصادم الرمز الخارجي بالداخل النفسي.
3. "رفات الوعود"، تقول:
"وأنا العليلةُ على رُفاتِ الوعود..."
الوعود حين تتحوّل إلى رفات، فإنّ الزمن لم يخذل فقط الذات، بل قتل المعنى. هنا ينتقل النص من العاطفة إلى بعد وجودي فلسفي: كيف يتحوّل الحب إلى ذكرى، والذكرى إلى جثة؟
- في سياق المنهج الأسلوبي وتحليل البنية التعبيرية:
تتميّز القصيدة بـ:
1. التكرار البنائي لجملة "وأنا هنا":
يوجد تكرار أربع مرات لجملة "وأنا هنا"، وهذا التكرار هو تقنية أسلوبية تؤدي وظيفة مركبة:
- تثبيت الهوية المتصدعة في مكانها الزمني والنفسي.
- إبراز حالة "الثبات وسط الانهيار".
- إيقاع داخلي يضبط النغمة الشعورية (قريب من اللازمة الموسيقية).
2. الصياغة الإنشائية التقريرية/الاستفهامية، تقول الشاعرة المديوني:
"فما بالكَ أخلفتَ الموعد؟"
"هل كنتَ متعمّدًا، أم أنساكَ الزمانُ محبّتي؟"
"أتذكرُ يومَ أقسمتَ أن ترعى غربتي؟".
القصيدة تمارس حواراً داخلياً مع غائبٍ مُدان، وهي حوارات مكثّفة بالاستفهام الإنكاري، ما يجعل من النص محكمة عاطفية تُدين الغياب والخيانة والنسيان. الشكل الأسلوبي يتلبّس وظيفة نفسية: تفريغ المشاعر والتثبّت من جرحٍ لم يلتئم.
- في سياق المنظور النفسي: الذات الجريحة والبحث عن التوازن.
من المنظور النفسي، يمكن اعتبار القصيدة سرداً داخلياً للذات المجروحة الباحثة عن المعنى والعدالة العاطفية. يظهر البُعد النفسي في:
الهشاشة الظاهرة في "الأنفاس الوهنة" و"العليلة".
الكوابيس التي تنهش الجسد ، حيث تقول:
"ألا تتركني للكوابيس تنهشُ جلدي"
— تصوير الكوابيس بكونها تنهش الجلد هو تجسيد نفسي رمزي لحالة القلق الليلي، واللاوعي الذي يفضح الكبت العاطفي.
الدمعة الخارجة من "الكبد" ، تقول:
"أن تُهمل دمعةً تدحرجت من كبدي؟"
– في الترميز النفسي، الكبد مصدر العاطفة والغضب. الدمعة هنا تمثل وجعاً لا عين له، بل قلب/كبد ينزف.
- في مجال المنهج الهيرمينوطيقي: تأويل المعنى والغياب الحاضر.
الهيرمينوطيقا تهتم بتفسير المعنى الذي يتجاوز النص الظاهري. وفي هذه القصيدة، تتداخل الأنا الشعرية مع الزمن المؤجّل، فيصير الغياب جوهراً لا مجرد حدث.
الغائب ليس شخصاً، بل رمز للمطلق المفتقد، للعهد المنكسر، للفكرة التي لم تكتمل.
لذلك تسأل الشاعرة نعيم. المديوني:
"فما بالكَ أخلفتَ الموعد؟ هل كنتَ متعمّداً، أم أنساكَ الزمانُ محبّتي؟"
– هذا التساؤل ليس مجرد سؤال عن الخيانة، بل تأويل لخذلان الزمن للعاطفة.
والختام، تقول الشاعرة
"وغيرَ صورةٍ لنا، تبتسمُ على مشارفِ الوعود، ساخرةً."
– نهاية تنضح بسخرية الوعي، ووعي السخرية: حيث تتحوّل الصورة إلى رمز للتاريخ العاطفي المتكسّر، تسخر منه الشاعرة بعد أن فقدت قدرتها على تصديق الوعد.
- في سياق الإيقاع الموسيقي والصورة الشعرية:
1. الإيقاع الداخلي:
ليس في القصيدة وزن تقليدي، لكنها تحافظ على إيقاع داخلي ناتج عن:
- التوازي التركيبي (وأنا هنا…)
- الجمل الفعلية القصيرة
- التكرار الصوتي لبعض الحروف (مثل السين والشين والنون) مما يخلق موسيقى داخلية حزينة.
2. الصور الشعرية:
الصور تتعدى التجميل اللغوي إلى حمل دلالات سيكولوجية وتأويلية، تقول:
"أُشعل قناديلَ الأمل" — صورة النور وسط الظلمة النفسية.
"أن تُهمل دمعةً تدحرجت من كبدي" — استعارة مركبة تستنطق الألم العميق.
"أدندن على العود أغنية أودعتني مواجعها" — الموسيقى هنا ليست راحة بل أداة استحضار للوجع.
في الختام لا يسعني إلا أن أقول إنّ القصيدة كجسد رمزي للخذلان والتوق.
قصيدة "بين ركام التمنّي" للشاعرة التونسية نعيمة المديوني ليست قصيدة غزل ولا رثاء، بل تجربة وجودية مكتملة الأركان، تكتب فيها الشاعرة جرحها بلغةٍ ذاتية كثيفة، محمّلة بالصور والرموز والموسيقى، ضمن بنية تؤسّس لنصٍّ فيه من التأمل أكثر مما فيه من الحكي، ومن السؤال أكثر مما فيه من الجواب.
تدعونا الشاعرة إلى تأمل خذلان الوعد كخذلانٍ للزمن ذاته، وإلى مساءلة الحب حين يصبح ذكرى ساخرة تبتسم من حافة السراب.
***
عماد خالد رحمة
...................
بين ركام التمني
وأنا هنا، وقد هلّلت الأفراح،
أنتظر طيفَك،
أُشعل قناديلَ الأمل،
أصافح نسماتِ الفجرِ النّديّة،
أهمس، والدّمعُ يجرح المقل:
"هلّا اعترضك طيفُ وعدٍ ما أخلفَ يومًا مواعيده؟"
وأنا هنا، تحت داليةٍ وارفة،
أجمّع أنفاسي الوهنة،
أنظر إلى السّماء،
أُبايع ذكرى لقاء،
عسى تجود بلحظةٍ ماجنة،
لحظةٍ تجمعنا،
تروي عطشي.
وأنا هنا... بين رُكومِ التمنّي،
أتسلّق محراب الهوى،
أتشبّث بحلمٍ مضى،
وآخرَ آتٍ مستبشرًا،
وعدتني، يا قطعةً من فؤادٍ سكَنَهُ النّوى وأضناه الفُراق،
وعدتني ألّا تتركني للكوابيس تنهشُ جلدي،
وعدتني أن تمحوَ دمعتي،
فما بالكَ أخلفتَ الموعد؟
هل كنتَ متعمّدًا، أم أنساكَ الزمانُ محبّتي؟
أتذكرُ يومَ أقسمتَ أن ترعى غربتي؟
كيف لك، يا قطعةً من دمي، أن تنسى القَسَم؟
أن تُهمل دمعةً تدحرجت من كبدي؟
وأنا العليلةُ على رُفاتِ الوعود، أُدندن
على العودِ أُغنيةً
أودعتني مواجعَها،
أوجعتني تقاسيمُها.
وأنا هنا، أقف على أمواجِ الأحلام،
أبحث...
أبحث عن عذرٍ يجعلني أغفر زلّتك،
فما وجدتُ غير الآه تجرح كبريائي،
وغيرَ صورةٍ لنا، تبتسمُ على مشارفِ الوعود،
ساخرةً.