قراءات نقدية
إبراهيم برسي: ملامح الشكلانية في الأدب السوداني

في السياق السوداني، حيث تُثقل الكلمة بحمولة التاريخ، ويُفترض في القصيدة أن تقول الحقيقة، وتخدم القضية، كثيرًا ما يُنظر إلى الشكل بوصفه ترفًا برجوازيًا، أو حتى خيانة للمعنى. غير أن الشكل، وفقًا للشكليين الروس، ليس غلافًا لما يُقال، بل هو الكيفية التي تُصاغ بها الرؤية، وتُبنى بها المسافة بين الواقع والعادي.
ولعل الشاعر السوداني الحديث، منذ التيجاني يوسف بشير مرورًا بمحجوب شريف، وحميد، وحتى شعراء الحداثة وما بعدها من الجيل الجديد في الحراك الثوري، قد مارسوا هذا التوتر بين الشكل والموقف، بين المجاز كبلاغة، والمجاز كسياسة. وإذا أخذنا مفهوم “التغريب” عند شكلوفسكي — وهو أن يعيد النص ترتيب المألوف ليُصبح غريبًا، ويجعل القارئ يرى العالم كما لو أنه يُكتشف لأول مرة — فإننا نجد أثره واضحًا في عدد من التجارب السودانية التي كسرت أفق التوقّع، لا بصرخة سياسية، وإنما بانزياح لغوي.
في قصائد حميد، مثلًا، لا تُقال الثورة بوصفها بيانًا، بل تُقال كما يُغنّى الحنين إلى سيدة ميتة. تفقد اللغة وظيفتها الإخبارية، لتصبح بنية صوتية تتفجر بالمفارقة، بالحكي الشعبي، بالتكرار البنائي، وبكسر الإيقاع الرسمي. قصيدته “عم عبد الرحيم” ليست هجاءً للفقر، بل “تغريب” للخطاب الرسمي الذي يصوّر الريف كبقعة سكينة. القصيدة تُعيد خلق الريف بوصفه حفرة روحية، لا مشهدًا طبيعيًا.
كذلك محجوب شريف، ورغم وضوحه السياسي، لم يكن يكتب شِعرًا كمنشورات الحزب، بل كان يستثمر في “شكل” الأغنية، وفي الإيقاع الشعبي، ليُخفي داخلها ديناميتًا دلاليًا، لا يُفجَّر دفعة واحدة. الشكل هنا لا يخدم المعنى، بل يشوّشه، يبطئه، ويُعيد تركيبه.
وإذا قرأنا القصة القصيرة أو الرواية السودانية المعاصرة — من بشرى الفاضل مرورًا بعادل القصاص — بعيدًا عن موضوعاتها الكبرى (الهوية، الجندر، الدين، السلطة)، وركّزنا على طرائق بناء الزمن، والضمير السردي، والانزياحات الأسلوبية، لأدركنا كم أن “الشكل” لم يكن تابعًا، بل قائدًا خفيًا للمعنى.
في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، على سبيل المثال، لا تحضر الحداثة في الموضوع، بل في الشكل السردي المفتّت، في الحكاية التي تتكرّر بظلال جديدة، لا لتخبر، بل لتُربك. هنا يصبح الشكل أداة مقاومة، لا فقط للنظام، بل للمُسلّمات الفنية.
والمدهش في النص السوداني أنه يمارس الشكلانية حتى دون وعي نظري بها، كرد فعل على سلطة المعنى الواحد، وعلى سلطة “الموقف”. فحين يُضطر الكاتب لأن يُعبّر عن نفسه داخل خطاب قمعي (ديني، أو عسكري، أو قبلي)، يصبح اللعب بالشكل هو التمرّد الوحيد الممكن.
وبالتالي، فإن الدفاع عن الشكل، عن التجريب، عن البنية، ليس دفاعًا عن الجماليات ضد السياسة، بل هو دفاع عن السياسة في أعمق صورها: حين تصبح الكتابة عملية خلق لا إعادة إنتاج.
ولأن السودان بلد يُطالِب كُتّابه دائمًا بأن يكونوا في “صف الجماهير”، فإن الشكل يصبح أيضًا اختبارًا للمسافة. أن تكتب بلا خطاب مباشر، في مشهد يموت فيه الناس يوميًا، هو أمر أخلاقي فقط إن فهمنا أن الشكل لا ينفي الألم، بل يصوغه بطريقة لا تُخدّر.
كما كتب جاكوبسون: “الوظيفة الشعرية للغة ليست تجميلًا، بل زلزلة.”
وإذا كان كل نظام قمعي ينتج خطابًا بلاغيًا ميتًا، فإن الشكل الحيّ، المربك، الغريب، المشظّى، هو في حد ذاته ثورة ضد يقين اللغة.
الشكليّون الروس لم يكونوا برجوازيين معزولين، بل كانوا يحاولون أن يُعيدوا للكتابة استقلالها، وسط نظام يريد من الأدب أن يكون بوقًا. أليس هذا هو عين ما نحاول فعله اليوم، في الخرطوم، حيث يُقتل الناس باسم الكرامة، وتُمنَح الجوائز للذين يقولون “الشيء المناسب” بالشكل المناسب للسلطة؟
إن السؤال اليوم في الأدب السوداني ليس فقط “ماذا نقول؟” بل: كيف نُدهِش القارئ فلا يصدّق أن ما يقرؤه هو الشيء الذي يعرفه؟
هذا هو الشكل. وهذا هو معنى التغريب.
***
إبراهيم برسي