قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية موسعة لقصيدة "طائر الهدهد"

لآمال صالح.. البنية الدلالية والرمزية والنفسية والتأويلية

- منذ لحظة ولوجنا إلى النص: "طائر الهدهد" ندرك أن الهدهد رمز إشكالي.

يأتي عنوان النص "طائر الهدهد" كعتبة دلالية مشحونة بالرموز؛ فالهدهد في المخيال العربي والإسلامي ليس طائراً عادياُ، بل هو رسول الحكمة والإلهام ووسيط الوحي (الهدهد في قصة سليمان مثالٌ على طائر يكتنز المعرفة ويتجاوز حدود المألوف). اختيار هذا العنوان يضع القارئ منذ البدء في مواجهة نصّ يبحث عن الرسالة المفقودة، وعن وسيط بين الذات والعالم، بين الحقيقة والغياب.

- ففي البنية الدلالية مجد أنّ الوطن ككائن حيّ.

يشتغل النص على تفكيك صورة الوطن عبر نقله من كيان جغرافي إلى كائن حيّ يتألم، يسافر، يبكي، وينمو، تقول الشاعرة آمال صالح:

"هل سمعتم بوطنٍ يسافر، يقفز.. يغتسل بدموع اليتامى ويكبر في حجر النساء الثكالى.."

هذه الصورة تكسر النمطية، وتجعل الوطن أقرب إلى ذات إنسانية تتقاسم مع الشاعرة الألم والانتظار. بهذا التحويل، يصبح الوطن آخرَ محاوراً للذات، لا فكرة مجردة بل كائن يتقاطع مع مخاضاتها النفسية.

- في مجال الرمزية والتأويل: من الهدهد إلى السحابة.

القصيدة مشبعة بالرموز: الهدهد، المطر، السحابة، الزيتون، الطفل الجائع.

الهدهد: رمز للرسول الذي يحمل بشارة، لكنه في النص يصبح أيضاً علامة على الأمل المؤجل: "لا بأس إن هو قلدَ الهدهد.. وجاء يخبرنا عن وطنٍ يأتي به على سحابة."

المطر والريح: رموز لحركة الطبيعة التي تسبق التحول الروحي، المطر هنا ليس ماءً فحسب، بل لغة كونية تنتظر الشاعرة آمال صالح أن تنطق: "ترقبتُ أن يتكلم المطر.."، وكأنها تعوّل على أن تصبح الطبيعة نفسها وسيطاً للوعد القادم.

الزيتون: رمز السلام والجذور، يوظَّف هنا كبشارة للوطن الموعود تقول: "يصبح علينا ببشارةٍ وعرف زيتون."

الطفل الجائع: أقصى تجليات الألم الإنساني، لكنه أيضاً رمز المخاض الأخير الذي يسبق الميلاد/الخلاص.

- في سياق البنية النفسية: الذات في لحظة افتقاد.

النص مشحون بشدة بـ القلق الوجودي، إذ تكتب الشاعرة آمال صالح من موقع الانتظار الذي يقترب من اليأس لكنه لا ينزلق إليه، تقول:

"قد كاد يقتلني بك السؤال.."

الخطاب هنا موجه إلى الوطن/الرسول/الحلم الذي تتوسل منه كلمة – حتى لو كانت كذباً – لكنها تعترف أنه لا يكذب: "لكنه لا يكذب، حتى وإن فاقت جراحُه كل مخاضات العالم."

هذا التكرار (لا يكذب) يكشف عن حاجة عاطفية قهرية للتصديق، وكأن الشاعرة تبني أسطورة طهرانية حول هذا الوطن/الحلم الذي يظل صادقاً حتى وهو متأخر عن المجيء.

- في مجال المنهج التأويلي (الهيرمينوطيقي): النص كرحلة بحث عن معنى.

إذا قرأنا النص بمنهج هيرمينوطيقي، فإنّ "الوطن" لا يُفهم هنا كمعطى سياسي أو جغرافي، بل كمعنى غائب تبحث عنه الذات، كأفق روحي يعيد ترميم العلاقة الممزقة مع الوجود.

الجملة:

"حتى وإن لم يأتِ مثلما تصورته.. لا بأس.."

تكشف عن تحوّل في وعي الذات: لم يعد الحلم نفسه هو الغاية، بل القبول بمجيء المختلف، كأن الذات تهيئ نفسها لرحلة وجودية تنتهي بالتسليم للحقيقة مهما كانت.

- في مجال الصور الشعرية والإيقاع.

الصور في النص مكثفة ومرنة، تزاوج بين الحسّي والميتافيزيقي، تقول:

"وطنٍ يسافر" (تشخيص مجرد).

"يغتسل بدموع اليتامى" (تداخل بين الألم والفعل التطهيري).

"يكبر في حجر النساء الثكالى" (مزج بين الوطن كطفل والنساء كأمومة جمعية).

أما الإيقاع، فالنص قائم على التدوير وكثرة علامات الحذف (..) التي تخلق مساحات صمت تعادل الحيرة والانتظار. الجمل القصيرة المتقطعة: "يقفز.. يغتسل.. يكبر.." تعكس ديناميكية حلم يتشكل ثم ينكسر.

- في مجال فلسفة النص: الأمل كنجاة.

في النهاية، يمكن القول إنّ القصيدة تعيد تعريف الأمل لا كحالة عاطفية، بل كـ فعل مقاومة وجودية حيث نجدها تقول:

"نظرةُ طفلٍ جائعٍ.. هي المخاض الأخير.. وبعدها.. لا بد أن يأتي..!"

الأمل هنا ليس تفاؤلًا ساذجاً، بل وعي مأساوي بأن الفجر لا يولد إلا من رحم أقسى اللحظات.

- خلاصة:

قصيدة "طائر الهدهد" ليست نصاً غنائياً فحسب، بل نص حواري مع الوجود؛ فيه تذوب الحدود بين الذات والوطن والطبيعة في رحلة بحث عن معنى الخلاص. الرموز الكثيفة (الهدهد، المطر، الزيتون، الطفل الجائع) تتشابك لتصنع خطاباً وجودياً يتأرجح بين الانتظار واليقين، بين الغياب والحضور.

إنها كتابة تستدعي الهيرمينوطيقا لفهمها، لأنها لا تُعطي معنى جاهزاً، بل تستفز القارئ ليشارك في تأويل حلم يتشكل على حافة اليأس والرجاء.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...............

طائر الهدهد

يا وجهي الذي لا تعرفه الحضارات الحديثة..

العالمُ غاب عن الأنظار

في الزمن الذي حضرتُ فيه..!

ترقبتُ أن يتكلم المطر..

وأن تهتدي الريحُ إلى طائرٍ جديد..

لا بأس إن هو قلدَ الهدهد..

وجاء يخبرنا عن وطنٍ يأتي به على سحابة..

هل سمعتم بوطنٍ يسافر،

يقفز..

يغتسل بدموع اليتامى

ويكبر في حجر النساء الثكالى..

يصبح علينا ببشارةٍ وعَرْفِ زيتونٍ..

هل سمعتم بوطنٍ يتكلم..؟

تخيلتُ صوته يقول الشعرَ لي،

رسمتُه بين حاجبيَّ،

ناديته: "قل لي ولو كذبًا كلامًا ناعمًا،

قد كاد يقتلني بك السؤال.."

لكنه لا يكذب، حتى وإن فاقت جراحُه

كلَّ مخاضات العالم..

لن يكذب..

وأنا أحبه لدرجة العشق..

لأنه لا يكذب..

حتى وإن لم يأتِ مثلما تصورته..

لا بأس..

نظرةُ طفلٍ جائعٍ..

هي المخاض الأخير..

وبعدها.. لا بد أن يأتي..!

في المثقف اليوم