قراءات نقدية

محمد صبي: قصيدة "شاهدة القبر" للأستاذ الشاعر يحيى السماوي

دراسة تحليلية نقدية

جنازة في قلب الغياب: بعد الهجرة الطويلة، عاد ليرى عش أمه. لم يكن عشًا من طين، بل من عيدان تنبت بين الذكريات، تفوح منها رائحة ليست ترابًا فقط، بل خليطٌ من حليبٍ قديمٍ ودمعٍ جفّ قبل أن يُمسح. النسائم كانت تتسلل بين تلك الأعواد كأنها تبحث عن شيء مفقود، ربما عن نبضٍ لا يزال يسكن التراب، أو حضنٍ لم يُكمل مدّته. كان الوطن يتجسّد أمامه قبرًا، لكنه قبرٌ حيّ، ينبض باسمها الذي طغى على أسماء المدن جميعًا.

فأسُ الموت لا يدنو تدريجيًا، بل يقتلع الحياة بضربةٍ واحدة. الأشجار تسقط بلا مقدمات، والروح تصرخ قبل أن تُلملم نفسها. بعد الفراق، الحياة تحوّلت إلى عقوبة، والموت صار خلاصًا تأخر، كم تمنّى أن تسبق حياته رحيلها كي لا يرى العالم يفتقدها.

في أقاصي المهجر، هناك حيث أسواق أديليد، حاول بعض الأصدقاء بناء عزاء بمواد مستوردة: كراسي أنيقة، طعام مرتب، لكن ينقصهم شيء لا يُشترى ولا يُطبخ... كأسٌ من دموع تعيد الحياة إلى عينين تيبّستا من الفقد. وبين هذا المشهد البارد، نبت سؤالٌ عميق: لماذا غابت قبل أن يلده الحنين؟ لماذا تخلّت عنه قبل أن يحمل اسمه؟ كان رجلًا، لكنه حينها شعر بارتجاف طفل يبحث عن حضنٍ بلا صوت.

المناجاة بدأت كهمسٍ لاهوتيٍ هش: هل لا توجد سلالم غير الموت للصعود إلى الملكوت؟ هل لا طريق للاجتماع سوى أن يفنى الجسد ليستيقظ القلب في السماء؟

وعندما شُيّعت، لم تكن لها جلبة، لا مدافع، لا موسيقى، لا ضجيج قادةٍ أو صخب وطن. فقط فقير يمشي بجانب عصافير وأرامل وطفلٍ مكسور الجناح، وكأنّ الوطن كلّه فقد صوته، وشيّعها كما يشيّع أرواح أبطاله الخجولين.

الليل بات عباءتها، والنهار كفنها، والزمن صار فصولًا لا تعرف الضوء إلا عبر ذكراها. يعيش حيًّا لكنه ميت، يمشي لكنه منهكٌ من الحياة. وكل الفرق بين الحياة والموت صار موقع السرير ونوع الوسادة، لا أكثر. حتى أبسط الأمنيات لم تتحقق: لم يُغمض عينيها، ولم تُغمض عينيه، ففشل الحنان في لحظة كان يستحق فيها أن يكون كاملاً.

في محاولة لتوثيق الغياب، طلب من عابرٍ أن يصوّره مع الهواء، مع نفسه، مع الحزن الوحشي، مع أمّه النائمة في قلبه. وهناك، بين الدمع والنداء، سأل الله: هل عذاب جهنم أشد قسوة من حرقة وداعٍ لم يحصل؟ لو وصل ساعي بريد الآخرة في الوقت المناسب، لربما نام مع ابتسامة.

ومثل قديسٍ ندم، خلع قميص الحماقات وتوضأ بالكوثر، ليس طلبًا للنجاة، بل رجاءً في رؤيتها، حتى لو من وراء الحُجب. تساءل: كم غطّوها بالتراب؟ هل أخفوا نحيبه عنها بأكوام الأرض؟ أما زالت تسمع صوته في العتمة؟

عند منتصف الليل، عاد الصوت الطفولي يتسلل من ثنايا الرجولة: "أريد أمي"، قال، ثم بكى. لم يجد مأوى لأحلامه، ولا وسيلة للسفر دونها، فقد كانت تأخذه معها إلى الأماكن المقدسة، حتى عندما لا يذهب، كانت تأخذه بروحها.

القصيدة تتجسّد روائيًا: عباءتها السوداء أصبحت سجادة صلاة، دعاؤها نجاة، وصفعتها لم تكن ألمًا بل خوفًا عليها من ألم الكفّ. عند موتها، جفّ حليب الطفولة، والسنون تحوّلت إلى خيوط كفن، والحياة إلى محرابٍ خالٍ من الصلاة. طلب من أحبابه ألا يدعوا له بالهناء، بل بالصبر، بالبلادة، بتجلّد الجبل، وبخيط جنون يرقّع به عقله المُنهك.

كانت كائنًا طاهرًا: تنثر القمح للعصافير، تهب الفقراء صحن دعاء، وتخاف من أن تموت العصافير بالشظايا. مرضها وشيبها كانا إعلانًا عن أمومة تخجل الملائكة من وصفها، وعباءتها علم الوطن بلا رايةٍ رسمية.

وحين جاءه طيفها، لم يقل: "تصبحي على خير"، بل قال: "تصبحين على جنّة"، وكأنّ الجنة تبدأ حين تفتح عينيها.

الذروة كانت حين أدرك أنّه جثة تمشي، أن الحياة مقبرة، والوجود اسمٌ قديمٌ لنزيفٍ لا يُشفى. لم يعُد يخاف عليها من الموت، بل هي الآن من تخاف عليه من الحياة. كل من أساء إليهم، يريد أن يعتذر... فقط كي ينام في حضنها.

الناعور يدور، والمطر أصبح جمرًا، وجلدها لا يسيل منه سوى دمٍ عرف الأرصفة والسنابل والظلام. من شُيّعت لا تُفدى، ولو أن تمزيق الثوب يُجدي، لشقّ جلده... لكنه لا يُجدي.

الدارسة النقدية الأدبية:

القصيدة تنتمي إلى الشعر الحر التفعيلي، ولا تلتزم ببحر شعري كلاسيكي. هناك انسياب نغمي يعتمد على الإيقاع الداخلي والانزياح اللغوي. لا تسعى إلى الموسيقى المقفاة، بل إلى خلق موسيقى داخلية مبنية على الانفعال والتكرار الرمزي، مع طابع سردي مكثف يُشبه القصيدة/الرواية.

القصيدة تُجسّد رثاءً وجوديًا لأمٍّ هي الوطن والأصل والطمأنينة. حالة الشاعر تُراوح بين الاعتراف، التوبة، الندم، والاحتجاج على القدر، ثم تنقلب إلى تحولات رمزية تنتقد العالم والموت والاغتراب. الحزن ليس فقط على فقد الأم، بل على فقد الوطن، الذات، وحتى الله كما فُهِم في لحظة الألم.

النحو في القصيدة يخرج عن القواعد التقليدية لكنه يخضع لمنطق القصيدة الحداثية التي تسمح بالانزياحات اللغوية لكسر نمطية التعبير. اللغة عالية الكثافة الرمزية والتصويرية، تُستخدم فيها صور مثل: "كأس دموع بالإيجار"، "رسالة في صندوق عمري"، "عباءة أمي علم الوطن". الأفعال تميل إلى الزمن الماضي والمضارع، وتَكرارُها يخدم البناء الشعوري، لا فقط التتابع السردي.

القصيدة تتبع منهج القصيدة الحديثة غير التقليدية، وتميل إلى تقسيم النص إلى مشاهد منفصلة ومترابطة، مثل لوحات سردية. لا يعتمد النص على وحدة البحر، بل على وحدة الحالة النفسية والانفعال. التفعيلة موجودة ولكنها تتخفّى خلف السرد الشعري شبه الروائي.

القصيدة هي صرخة ألم مكتوبة بلغة التوبة والاحتجاج، فالشاعر لا يصرخ، بل ينزف رموزًا. صيحات الألم مضمّنة وليست مباشرة؛ تظهر في طلب الصورة مع الهواء، وفي مناشدات العصافير، وفي التساؤلات عن العدالة الإلهية.

الأم هي الرمز الأكبر للوطن والقداسة. العباءة تمثل العلم الحقيقي، هوية كاملة. العصافير ترمز للبراءة والحرية والذاكرة الحية. التراب هو حضن الوطن الذي يستقبل الأم. النعش والبخور تمثيل للغياب المقدّس بلا ضجيج. دعاء الأم هو طقس رمزي يُضاهي الخلاص السماوي. الرمز في القصيدة يعمل كأداة فلسفية وفكرية، لا مجرد زينة شعرية. هناك بحث صوفي في العلاقة بين الذات والله، بين الحياة والموت، وبين الذنب والغفران.

النص يمزج بين التجربة الواقعية (الموت، الفاتحة، العودة) وبين التحولات الرمزية (عباءة كعلم، العمى كاستغناء). يوجد تناول عرفي للحدث: مجلس عزاء، زيارة القبر، لكنه سرعان ما يتحول إلى خطاب فلسفي رمزي. إذًا: القصيدة تبدأ واقعية، لكنها تنقلب رمزية/فلسفية منذ المقاطع الأولى.

القصيدة هي نصٌ كونيّ يمتد من رثاء شخصي إلى مساءلة وجودية، تفتح أبواب الحزن، لا لتغلقها، بل لتجعلها ممرًا نحو الأسئلة الكبرى: عن العدالة، عن الوطن، عن الله، وعن الإنسان. أصالتها تكمن في صدقها، لا في زخرفها. حداثتها تنبع من عمق الرمز، لا من تكلّف اللغة. تركيبتها السردية جعلت منها رواية شعرية فلسفية ذات بنية فريدة.

***

بقلم: الدكتور محمد صبي الخالدي – الكوفة

.....................

شاهدة القبر

ليَ الان سَــبَـبٌ آخـر

يَمـنعُـني من خـيـانـة ِ وطـنـي:

لـحـافٌ سَـمـيـكٌ مـن تـُرابـه

تـَدَثـَّرَتْ بـه ِ أمـي..

ووسـادة ٌ من حجارتـه

في سـريـر قـبـرهـا!

(2)

وحـدُهُ فـأسُ الـمـوت

يـقـتـَلِـعُ الأشـجـارَ من جـذورهـا

بـضـربـة ٍ واحـدة..

(3)

قـبـلَ فِـراقـهـا:

كـنـتُ حـيّـا ً

مـحـكـومـا ً بالمـوت..

بـعـدَ فـراقـهـا:

صـرتُ مـيـتـا ً

محـكـومـا ً بالـحـيـاة!

(4)

فـي أسـواق " أديـلـيـد "

وجَـدَ أصـدقـائي الـطـيـبـون

كلَّ مـسْـتـَلـزمـات ِ مَـجـلـس الـعـزاء:

قِـمـاشٌ أسـود..

آيـاتٌ قـُرآنـيـة للجدران..

قـهـوة ٌ عـربـيـة..

دِلالٌ وفـَنـاجـيـن..

بـخـورٌ ومـاءُ الـورد..

باسـتِـثـنـاء شيء ٍ واحـد:

كأسٌ مـن الـدمـوع ـ ولو بالإيـجـار

أُعـيـدُ بـه ِ الـرطـوبـة َ

إلى طـيـن ِ عـيـنـيَّ

الـموشِـكـتـيـن

عـلى الـجَـفـاف!

(5)

لمـاذا رَحَـلـت ِ

قـبـل َ أنْ تـَلِـديـني يا أمـي ؟

أدريـك ِ تـُحِـبّـيـن َ الـلـه..

ولـكـنْ:

أمـا مِـنْ سـلالـمَ غـيـرُ الـمـوت ِ

لـلـصـعـود إلى الـمَـلـَكـوت ؟

(6)

لم تـَحـمِـلْ نـَعْـشـَهـا عَـرَبـة ُ مـدفـع..

ولم يُـعـزَفْ لـه مـارش ٌ جَـنـائـزيّ..

الـقـَرَويّــة ُ أمـي

لا تـُحِـبُّ سَـمـاع َ دويِّ الـمَـدافـع

ليس لأنه يُـفـزع ُ

عـصـافـيـرَ نخـلـة ِ بـيـتـنـا..

إنما

لأنه يُذكـِّرُهـا بـ " جـعـجَـعَـة ِ الـقـادة "

الـذين أضـاعـوا الـوطـن..

وشـرّدوني!

تـَكـرَهُ أصـوات الـطـبـول

( بـاسـتِـثـنـاء طـبْـل المُسـَحّـراتي )..

نـَعْـشـُهـا حَـمَـلـَتـْهُ سـيـارة ُ أجـرة..

وشـيَّـعَـتـْهــا:

عـيـونُ الـفـقـراء..

الـعـصـافـيـرُ..

ويـتـامى كـثـيـرون..

يـتـَقـَدَّمُـهـم شـقـيـقـي بـِطـَرَفِـه ِ الإصطـنـاعـيـة..

وشـقـيـقـتـايَ الأرمَـلـَتـان..

وجـدولان ِ من دمـوعي!

(7)

كـيـفَ أغـفـو ؟

سَـوادُ الـلـيـل ِ

يُذكـِّرُني بعَـبـاءتـهـا..

وبـيـاضُ الـنـهـار

يُـذكـِّرُني

بالـكـَفـَنْ!

يـا لـلحـيـاة مـن تـابـوت ٍ مـفـتـوح..

أشـعـرُ أحـيـانـا ً

أنَّ الحـيَّ

مَـيْـتٌ يَـتـَنـَفـَّس..

والـمَـيْـتَ

حَـيٌّ

لا يَـتـَنـَفـَّس!

(8)

الأحـيـاءُ يَـنـامـون َ فـوقَ الأرض..

الـمـوتى يـَنـامـون َ تـَحْـتـَهـا..

الـفـرقُ بـيـنـهم:

مَـكـانُ الـسَّـريـر

ونـوع ُ الوسـائـد ِ

والأغـطـيـة!

(9)

آخـرُ أمـانـيـهـا:

أنْ أكونَ

مَـنْ يُـغـمِـض ُ أجـفـانَ قـبـرهـا..

آخـرُ أمـنـيـاتي:

أنْ تـُغـمِضَ بـيَـدَيـهـا أجـفـاني..

كـلانـا فـَشِـلَ

في تـحـقـيق ِ أمـنـيـة ٍ

مُـتـَواضِـعـة!

(10)

أيُّـهـا الـعـابـرُ.. لـحـظـة ً من فـضـلِـك..

هـلاَّ الـتـَقـَطـْتَ ليْ

صـورة ً تـذكـاريـة ً مـع الـهـواء؟

وأخـرى مـع نـفـسـي؟

وثالـثـة ً عـائـلـيّـة

مـع الـحـزن والـوجَـع ِ الـوحـشـيِّ

وأمي الـنـائمـة ِ

في قـلـبـي ؟

(11)

سُـبـحانـكَ يا رب!!

أحَقـَّا ً أنَّ عَـذابَ جَـهَـنـّم

أشــدُّ قـسـوة ً مـن عـذابي

حين تـَعَـذرَ عـليَّ

تـوديـع ُ أمي؟

آه.. لـو أنَّ سـاعي بـريـد ِ الآخـرة

وضـَعَ الـرسـالـة َ في صـندوق عـمـري

لا عـلى وسـادة أمي..!

(12)

أيتها الحَـمـاقـات ُ..

الـلـذائـذ ُ..

الـنـَّزَق ُ..

الـطـَّيْـشُ..

الـبَـطـَرُ..

الخـطـيـئـة ُ..

الجـنـوح ُ..

المـعـصـيـة ُ :

ها أنا أخـلـَعُـكـنَّ من حيـاتي

كما أخـلعُ قـمـيـصـا ً وسِـخـا..

عليَّ منذ الان

التوضـّـؤ بالكوثـر

كي يسـمَـحَ لي الـلـه

بـدخـول فـردوسـه

لـرؤيـة أمي!

(13)

الـفـصـلُ ليس شـتـاء ً

فلـمـاذا غـَطـّاها أشـقـائي

بكلِّ هذه الأغـطـيـة من الـتـراب ؟

ربما

كي لا تـسـمـعَ نحـيـبـي

وأنا أصـرخُ في بـراري الـغـربـة

مثـل َ طـفـل ٍ خـطـفـوا دُمْـيَـتـَه:

أريـدُ أمي..

فـتـبـكـي!

(14)

لسـتُ سـكـرانـا ً..

فلمـاذا نـظـرتـم إليَّ بازدراء

حـيـن سَــقـَطـْـتُ عـلى الـرصـيـف ؟

مَـنْ مـنـكم لا ينزلِـق ُ مُـتـَدَحْـرجا ً

حين تـتعـثـَّرُ قـدَمـاه بـورقـة ٍ

أو بقـطـرة ِ ماء

إذا كان

يـحـمـلُ الـوطـن َ عـلى ظـهـره..

وعـلى رأسـه

تابـوتُ أمـِّـه ؟

(15)

يـا كلَّ الـذين أغضـَبْـتـُهـم يومـا ً

من أصـدقـاء طـيـبـيـن..

ومجـانـيـن..

وبـاعـة ِ خـضـروات..

وزملاء طـبـاشـير..

وطلبـة ٍ رائـعـيـن أبـعَـدَتـني الـحـكومـة ُ عـنـهـم..

ورفاق ِ مـعـتـَقـلات ٍ ومـعـسْـكـرات ِلـجوء

وأرصـفة ِ مـنـافي:

إبـعـثـوا إليَّ بعـنـاويـنـكم

وأرقـام هـواتـفِـكـم..

فأنا أريـدُ أنْ أعـتـذرَ منكم

قـبـل ذهـابـي لـلـنـوم

في حُـضـن أمي!

(16)

وأنـتم أيـهـا الـهَـمَجـيّـون

من مُـتـَحَـزِّمـيـن بالـديـنـامـيـت

وسـائقـي سـيّـارات ٍ مُـفـَخـَّخـة

وحَـمـَـلـَة ِ سـواطـيـر وخـنـاجـر:

كفى دويَّ انـفِـجـارات وصَـخـَـبـا

ألطـيِّـبـة ُ أمي لا تـُطـيـق ُ الـضـجـيـج

فـدَعـوهـا تـنـام ُ رجاء..

(17)

الـطـيِّـبـة ُ أمي

ما عـادتْ تـَخـافُ الـمـوت..

لـكـنـَّـهـا

تخـافُ عـلى الـعـصـافـير

من الشـظـايـا..

وعـلى بـخـور المـحـراب

من دخـان ِ الحـرائـق..

والأمّـهـات ِ اللائي

أنـضـبَ الرعـبُ أثـداءَهـن!

(18)

حـيـنَ أزورُ أمـي

سـأنـثـرُ عـلى قـبـرهـا

قـمـحـا ً كـثـيـرا..

أمي تـُحِـبُّ الـعـصـافـيـر..

كلَّ فـجـر:

تـسْـتـَيْـقِـظ ُ عـلى سـقـسـقـاتـهـا..

ومن ماء وضوئـهـا:

كانت أمي

تـمـلأ الإنـاءَ ا لفـخـار قرب نـخـلـة الـبـيـت

تـنـثـرُ قـمـحـا ً وذرة ً صـفـراء..

وحين تـطـبخُ رُزّا ً

فـلـلـعـصـافـيـر ِ حِـصَّـتـُهـا

مـن مائـدة أمي!

(19)

في صَـغـري

تـأخـذني مـعـهـا إلى السـوق

وبـيـوت ِ جـيـرانـنـا..

حتى وأنـا فـي مُـقـتـَبَـل الـحـزن

لا تـُسـافـرُ أمي إلى كربلاء

إلآ وتأخـذني مـعـهـا..

أنـا عُـكـّازُهـا..

وفـانـوسُـهـا..

وحـامِـلُ صُـرّتـِهـا المـلـيـئـة

بـ " خـبـز الـعـبّـاس "..

والبيض الـمـسـلـوق..

و إبـريـق " شـاي الـزهـرة "..

فكيف سـافـرتْ وحـدهـا لـلـقـاء الـلـه ؟

ربـمـا

تـَسْـتـَحـي من ذنـوبـي!

آه..

من أين ليْ بأمّ ٍ مـثـلـهـا

تـَغـسـلـني من وحْـل ِ ذنـوبي

بـكـوثر دُعـائـهـا

حـين تـفـتـرشُ سـجّـادة َ الـصّـلاة ؟

(20)

يـا أحِـبـائي الـطـيـبـيـن

أرجوكم

لا تسـألـوا الـلـه أنْ يـملأ:

صَـحـني خـبـزا ً..

وكـوزي كـوثـرا ً..

وجسـدي عـافـيـة ً..

وروحـي حـبـورا..

فأنـا بحـاجـة ٍ الان إلى:

صَـبـر رمـال الصحراء على العـطـش..

وتـَجَـلـُّد ِ بـغـل ٍ جَـبَـلـيّ..

وبَـلادة ِ خـروف..

ولا مُبالاة حـمـار..

وإلى خـيْـط ٍ من جـنـون

أرتـقُ بـه ِ

جُـرحَ عـقـلـي!

(21)

لم تـكـن أنـانـيَّـة ً يـومـا..

فلمـاذا ذهـَبَـتْ إلى الـجـَنـَّـة ِ وحـدهـا

وتـَرَكـتـني

في جـحـيـم الـحـيـاة ؟

(22)

مُـذ ماتت الطـيـبـة ُ أمي

لم أعُـدْ أخـافُ عـلـيـهـا

من الـمـوت..

لـكـنـهـا بـالـتـأكـيـد

تـخـافُ الان عليَّ

من الـحـيـاة!

(23)

أغـيـثـوني..

أريـدُ أوراقـا ً من مـاء

لأكـتـُبَ

كـلـمات ٍ

مـن جـمـر!

(24)

حين مات أبي

ترَك لي " فاتورةَ كـهـرباء "..

حين مات ولدي

ترك لي

بدلة َ العـيـد الذي لم يعِـشـه..

أمي ؟

تركت لي عباءتها..

سـأتخذ مـنـهـا سـجّادة لـلصـلاة..

أمّـا أنا

فسـأترك لأطـفـالي

قـائمـة ًطويلـة

بأمنياتي التي لم تـتحـقـق..

منها مثلا

أن يكون لي وطـنٌ آمنٌ.. و

قـبـر!

(25)

الـطـيِّـبـة ُ أمي لم تـمُـتْ..

لا زالت

على قـيـد دموعي

(26)

دفءُ أمـومـتِـهـا

وليسَ حَـطـَبُ مـوقِـدِنا الطيني:

أذابَ جَـلـيـدَ الـوحشـة

في شـتاءات عـمـري..

رائحـة ُ يَـدَيـهـا

وليس نـوعُ الحـنطـة ِ:

جـعـل خـُبـزَهـا

ألذ َّ خبـز ٍ

في الـدنـيـا..!

دعـاؤهـا

ولـيـسَ الـحـظ ّ

أبْـعَـدَ الـحـبـلَ عـن رقـبـتي!

(27)

يومَ صَـفـَعَـتـني

بكـيـتُ كـثيـرا..

ليس لأن الدمَ

أفـْزَعَ الـطـفـل َ الـنائم في قـلبي

ولكن:

خـشـيَة َ أنْ يكون وجهي الفـتِيّ

آلـَمَ كفّ أمي..

(28)

مذ غـادر أبي بيتنا

وهي تجلس عـلى حـافـة الدنـيـا

بانتظار " هدهد الآخرة "..

(29)

مـرَّة ً

لـَسَـعَـتْ نـحـلـة ٌجـيـدَ أمي..

ربما

ظـنـَّتْ نـقـوش جيـدِهـا ورودا زرقاء

لـتـَصْـنـعَ من رحـيـقـها عَـسَـلا..

خـُضـرَة ُ عـيـنـيـهـا

أغـوت الـفـراشـات ِ للإقامـة

في بـيـتـنـا الطينيّ!

(30)

ألـيـوم َ

سَـقـَطـَتْ حـفـنـة ُ أوراق

من شـجـرة مـخـاوفـي:

أمي لن تمرَض َ بـعـد الان..

لن تـُشـقـيـهـا غـُربـتي..

لـن تـُرعِـبـَهـا أسـئـلـة ُالشـرطـة عـني..

وأنـا ؟ منذ الـيـوم:

لن أخـافَ عـلـيـهـا من الـمـوت ِ

أبـدا..!

(31)

آه..

مـَنْ لملايين الـفـقـراء..

المرضى..

المُـشـَرَّدين..

وكلِّ مـَنْ كانت الطـيِّـبـة ُ أمي

تـُطـعِـمُـهـم كلَّ يـوم

خـبـزا ً دافـئـا ً من تـنـّورِ دُعـائـهـا

بـعـد كلّ ِ صـلاة ؟

(32)

أيـهـا الـعِـمى

لـن أخـافـَكَ بـعـد اليـوم..

عـيـنـاي أصـبَحَـتـا

فائـضـتـيـن عن الـحـاجـة..

تمـامـا ً كـالـزائـدة الـدوديـة ِ

ما دمتُ لـن أطـبـق َ بـهـمـا

عـلى وجـه ِ أمي!

(33)

لـو أنَّ مـنْ شـيَّـعْـتُ

يُـفـدى

أبْـدَلـتُ بالـدارَيْـن ِ

لـَحْـدا

أو أنَّ شـَقَّ الـثـوب ِ يُجدي

قـد شـَقـَقـْتُ عـلـي

***

يحيى السماوي

في المثقف اليوم