قراءات نقدية
عدنان عويّد: دراسة نقديّة في فلسفة الاغتراب.. قصيدة النثر أنموذجاً

قراءة في قصيدة (حضور في سفر التكوين).. للشاعرة "سمية جمعة".
سمية جمعة – أديبة من سوريا – مدينة تدمر – إجازة في اللغة الإنكليزية + دبلوم تربوي. عشقت ومارست الكتابة منذ الصغر – وكانت لها مشاركات مدرسيّة – وهي تكتب في كل الأجناس الأدبيّة - لها مشاركات أدبيّة في القصة القصيرة جداً والشعر – حازت على المركز الثالث في مسابقة القصة لأوسكار المبدعين العرب.
صدر لها:
1- كتاب صادر مع مجموعة من الأدباء السوريين، بعنوان: قلب واحد.
2- كتابان إلكترونيان في شعر الهايكو – وهما فراشة مثلي، وخلف الستار.
3- مجموعة قصصية بعنوان: عند مفترق الدهشة.
4- كتابان في الشعر: لهفات الفؤاد، وعابر في ليل البنفسج.
5- كتاب خواطر نثريّة بعنوان: أرض اليباس، إصدار ديوان العرب.
6- ولها كتاب سيرة ذاتيّة.
7- وأخيراً كتاب (قصة قصيرة جداً) مع مجموعة من الأدباء السورين.
اخترنا لها من بين أعمالها الشعريّة في قصيدة النثر، قصيدة (حضور في سفر التكوين.). وهي قصيدة تحمل في مضمونها آلام الاغتراب ومعاناته عند الشاعر أو الأديب.
قصيدة النثر:
قصيدة النثر أو الشعر المنثور كما عرفناها في أكثر من دراسة، هي قطعة نثر، غير موزونة وتتوزع القافية إن وجدت في القصيدة في مناطق مختلفة من الابيات، وأحياناً تكون غير مقفاه، تحمل صورًا ومعاني شاعريّة وأغلبها تكون ذات موضوع واحد.
وبتعبير آخر، يمكننا القول إنّ قصيدة النثر هي ذلك الشكل الفنيّ الذي يسعى إلى التخلّص من قيود نظام العروض في الشعر العربيّ، والتحرّر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليديّة، بالإضافة إلى ما تقدّم فقد عرفّها بعض الأدباء بأنّها عبارة عن نصّ تهجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد والنثر الفني؛ ويتسم بافتقاره للبنية الصوتيّة الكميّة ذات التنظيم؛ إلا أنّ لها إيقاعاً داخليّاً منفرداً يمتاز بعدم انتظامه.
ومن أهم خصائص قصيدة النثر، 1- خلوّها من الوزن والقافية إلى حد كبير. 2- متحررة من الأنماط التفكيريّة المتسقة، وغالباً ما نجد بعض الغموض وصعوبة الفهم والتفسير في سردها وما يرتبط بها من قوانين وأحكام.3- هذا ويسود السكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع في قصيدة النثر، وبالتالي إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة. وصفت من بعض النقاد بأنها (إسفنجية البناء والتركيب).
الاغتراب في الأدب:
إن الاغتراب في صوره وأشكاله المختلفة ليس إلا نتاجا لعجز الإنسان أمام قوى الطبيعة وقوى المجتمع في تحقيق ذاته، كما يأتي نتيجة طبيعيّة لجهل الإنسان بالقوانين التي تسير هذه القوى. ويعد الاغتراب ظاهرة إنسانيّة متعددة الأبعاد؛ ومن الصعوبة بمكان تحديد معناه في الاصطلاح تحديداً دقيقاً، نظرا لاختلاف استعماله في البحوث الاجتماعيّة والدينيّة والدراسات الفلسفيّة ومجالات النشاطات الثقافيّة والسرديات الأدبيّة وغيرها. بيد أن أهم تجليات الاغتراب، هو الاغتراب الناتج عن الفقد، وخاصة فقد الحبيب أو الحبيبة، وهذا يشكل عند المغترب حالات نفسيّة قلقة مشبعة بالحنين والشوق، وفي أعلى تجلياتها الوجد والهيام. هذا ويمكن استخلاص مفهوم عام للاغتراب يدور حول عناصر متقاربة كشعور الفرد بالعزلة والانفصال عن الذات، والانطواء على النفس، وعدم القدرة على مسايرة الآخرين، والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع، وعدم الشعور بالانتماء لأي مرجعيّة من مرجعيات الانتماء من الأسرة إلى الوطن.
انطلاقا من فهمنا للاغتراب في صيغته المشار إليها أعلاه، تأتي دراستنا لقصيدة (حضور في سفر التكوين). للشاعرة "سمية جمعة.
البنية السرديّة للقصيدة:
ها هي ساعات قليلة تمر من عمر الشاعرة" سميّة"، وكأنه دهر عندها، بسبب شوقها المحموم لحبيبها، هذا الشوق الذي يجعلها تحصي كل ساعة أو دقيقة أو حتى الثانية، تمر على فراقه دون أن يهل وجهه عليها بكل عظمته وبذاخة حضوره، إلا أن هذا الحضور قد تلاشى، وهي التي اعتقدت بأن حضوره عندها ليس عابراً، بل هو قديم وقد سجل بسفر التكوين.
إن غياب الحبيب وشوقها له، قد جعل كل تلك القصص التي اخترعاها معاً وكانت كوشم سريّ محفور على جدار قلبيهما، قد تحولت - بسبب غيابه وما شكله هذا الغياب من غربة للروح عند الشاعرة، بلا عنوان وبلا تفسير. تقول "سميّة":
أحصي سويعاتٍ
من العمر مرّت
دون أن يتهلل وجهي لحضورك الباذخ،
ذلك الحضور الذي سُجّل في
سفر التكوين.
كل القصص التي اخترعناها
كانت وشماً سرّيّاً على
جدار القلب....
بلا عنوان،
بلا تفسير.
ها هي تناجي حبيبها، الذي وصفته (بحادي العيس) الذي لا تعرف مكان وجوده، وقد ضاع في بيداء لغتها التي نالها العجز في مناجاته، فراحت تقول في سرها: أما آن لك أن تنشد موالاً، شجياً يليق بجمال حبيبتك وعمق شوقها وحنينها إليك.
يا حادي العيس في
بيداء لغتي،
أما آن لك أن تنشد موالاً
يليق بجمال الغيد؟.
تناجي الشاعرة "سميّة" حبيبها تقول له بلغة أشبه بالسرياليّة: (ها أنا... ألملمُ النعاس عن أهداب القصيدة. وتهزني دهشتي..تفك الحصار عن اللغة.. تُرديني في بئر التردد.. تزغرد أوردتي من وجع ما.).
إن هذا البوح المشبع بالغموض، نجده عند الذي يشعر بحالات عديدة من الغربة التي اجتمعت مع بعضها، جغرافيّة واجتماعيّة وروحيّة.. لتترك المغترب يعاني شكلاً من أشكال العناء الذي يتجلى عنده هذياناً وانكساراً في توازنه، يدل على حالة ضياعه واستلاب تفكيره وتركه يعيش حيرة الكلمات في صمت وحشته كما هي حالة الشاعرة "سمية":
ها أنا...
ألملم النعاس عن أهداب القصيد،
وتهزّني دهشتي،
تفكُ الحصار عن اللغة،
تُرديني في بئر التردّد،
تزغرد أوردتي من وجع
ما،
وأعيش حيرة الكلمات
في صمت وحشتي،
في مثل هذه الحالة من الغربة وما آلت إليه عند الشاعرة، بعد أن أدمنت غياب حبيبها، وأدركت أن غيابه لم يعد حالة عرضيّة في حياتها راحت تناجيه وقلبها مشبع باليأس والحنين وأطياف ذكريات اللقاءات الماضية معاً.. لقد أدمنت على غيابه الجسدي، ورغم طول هذا الغياب، إلا أن رائحة الأمكنة التي كانا يلتقيان بها أصبحت تكفيها لإشعال نيران الشوق والحنين عندها:
لم يعُد يعنيني غيابك...
فرائحة المكان وحدها
تكفيني
لتشعل الحنين في تنور
غربتي،
ارحلي...
فذاكرتي ملأى بأطياف
اللقاءات،
ومرآة الروح تعكس ما اختبأ من وله.
البنية الفكريّة للقصيدة:
تشكل حالة لاغتراب الجسدي والروحي والفكري والنفسي، جوهر بنية القصيدة، ففي الاغتراب، نجد حالات من الفقد الذي يأتي نتاجا لعجز الإنسان أمام قوى الطبيعة وقوى المجتمع في تحقيق ذاته كما بينا قبل قليل، وبالتالي هذا ما يؤلم الجسد والروح معا عند المغترب أو من مسه الاغتراب.
من هذا المنطلق جاءت قصيدة "سميّة جمعة" (حضور في سفر التكوين)، لتعبر عن مضمون الاغتراب وقسوته على الروح والجسد معاً وقد أجادت التعبير عنه في بنية القصيدة.
البنية الفنيّة في القصيدة:
نظراً لافتقاد قصيدة النثر كثيراً إلى فنيات الشعر العمودي والتفعيلة، إن كان في أسلوب سردها، أو موسيقاها، أو بلاغتها، أو محسناتها البديعية والبيانية، أو في تراكيب عباراتها.. وغير ذلك إلا أنها تحاول أن تعوض كل ذلك من خلال اعتمادها على الصورة الشعريّة كثيرا، الحسيّة منها والمتخيلة. وبناءً على ذلك جاءت قصيدة (حضور في سفر التكوين)، معتمدة كثيراً على الصورة الشعريّة بشكل يمنح بنية القصيدة طاقاتٍ جماليّةً تساهم في نقل التجربة الشعريّة من الوصف السردي المجرد، إلى بناء علاقات مجازيّة مبتكرة عبر اللغة والتخييل.
نعم... إن الصورة الشعريّة في قصيدة (حضور في سفر التكوين) لعبت دورًاً أساسيّاً في تكوين المعنى والبعد الجمالي في القصيدة، حيث اعتمدت الشاعرة على الصور الشعريّة المتخيلة كثيراً. مما أتاح للشاعرة استخدام مجموعة متنوعة من الصور البلاغيّة لخلق جو شعري خاص. عبر عن تجربة الشاعرة الداخليّة وعواطفها وأفكارها، وهذا ما أتاح للمتلقي فهمًا أعمق لموضوع القصيدة، رغم وجود بعض الغموض فيها كما بينا عند حديثنا عن البنية السرديّة لقصيدة النثر. إلا أن ذلك لم يمنع المتلقي من مشاركة الشاعرة تجربتها الشعريّة بشكل مباشر، وهذا ما خلق رابطا بين الشاعر والقارئ. وهنا نلقي الضوء على بعض الصورة التي أبدعتها مخيلة الشاعرة مثل:
(لم يَعُد يعنيني هذا الوقت.. ذاك الذي تيبّست فيه شراييني). (أحصي سويعاتٍ من العمر مرّت دون أن يتهلل وجهي لحضورك الباذخ،).( كل القصص التي اخترعناها كانت وشماً سرّياً على جدار القلب....). (تزغرد أوردتي من وجع ما).
اللغة في القصيدة:
لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.
الرمز والايحاء والاشارة في القصيدة:
إن توظيف الرمز في (قصيدة النثر) سمة مشتركة بين غالبيّة الشعراء على مستويات متفاوتة، مع تنوع عمق سيطرة الرمز أو بعض مفرداته كالإيحاء والاشارة على لغة القصيدة وتراكيبها وصورها وبنياتها المختلفة، فالرمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة هو تعميق للمعنى الشعري، ومصدر للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري.
إن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص، هو عدم طموحها على إبراز الوجدانيات والعواطف كثيراً في بنيتها، بقدر ما تطمح إلى التعبير عن نوع من فهم الواقع نفسه أو طبيعة الحدث الذي يشتغل عليه الشاعر. بيد أن الشاعرة "سميّة جمعة" استطاعت أن تعلي من شأن الحالات الوجدانيّة أو العاطفيّة. وبذلك عملت الشاعرة في قصيدتها النثريّة (حضور في سفر التكوين)، على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة. تقول الشاعرة:
(وصرتَ فيه أنت، أحجيةً معقّدة، تبحث عن تأويلٍ ضائع.). دلالة على أن الحبيب في غربته ضاعت ملامحه الجسديّة والروحيّة، حتى تحول إلى أحجية عند حبيبته.
(دون أن يتهلل وجهي لحضورك الباذخ، ذلك الحضور الذي سُجّل في سفر التكوين.).
إن الشاعرة تريد الاشارة إلى أن وجه حبيبها الذي رُسِمَ أمامها منذ فجر التكوين، قد غابت ملامحه اليوم بسبب غربته.
(وأعيش حيرة الكلمات. في صمت وحشتي، لم يعُد يعنيني غيابك... فرائحة المكان وحدها تكفيني).
إن الشاعرة ترمز هنا إلى أن طول غيبا حبيبها قد أو صلها إلى حالة من اليأس في عودة اللقاء، لذلك وصلت لمرحلة أصبحت فيه رائحة المكان الذي كان يلتقيان به يكفيها لبل شوقها وحنينها له.
الغموض في القصيدة:
إن ما يميز القصيدة النثريّة عند حديثنا عن سماتها وخصائصها هو الغموض، والسبب في ذلك برأيي، هو أن الشاعر يلجأ كثيراً إلى الصورة التخيليّة في التعبير، وأن التوجه نحو الصورة المتخيلة، يُفقد إلى حد ما ارتباط القصيدة بالواقع. من هنا جاء الغموض واضحا في بعض مفاصل قصيدة (حضور في سفر التكوين)، بالرغم من أنها تشير إلى هدف عام، ولكن يظل المتلقي من خلال ثقافته واهتماماته هو المعني بمعرفة هذا الهدف، تقول الشاعرة:
(ها أنا...ألملم النعاس عن أهداب القصيد، وتهزّني دهشتي، تفكُ الحصار عن اللغة، تُرديني في بئر التردّد،).
(يا حادي العيس في بيداء لغتي، أما آن لك أن تنشد موالاً
يليق بجمال الغيد؟.).
هنا يكمن الغموض من تداخل المعاني ولصقها ببعض ولا أقول ترابطها.
ملاك القول:
يظل لقصيدة النثر عالمها المدهش حقاً، فالحريّة في التعبير التي تمنحها للشاعر المتمكن من حرفته، تجعله يبحر في عالم من الإبداع في الشكل والمضمون.. فالحريّة القاعدة التي يرتكز عليها الإبداع.. الحرية وعي الضرورة وهذا الوعي لا تحققه في صيغته الإبداعية إلا قصيدة النثر، وإلى حد ما قصيدة التفعيلة.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث وناقد من سوريا.
........................
حضور في سفر التكوين
لقلم: سمية جمعة
لم يَعُد يعنيني هذا الوقت
ذاك الذي تيبّست فيه
شراييني،
وصرتَ فيه أنت،
أحجيةً معقّدة،
تبحث عن تأويلٍ ضائع.
أحصي سويعاتٍ
من العمر مرّت
دون أن يتهلل وجهي لحضورك الباذخ،
ذلك الحضور الذي سُجّل في
سفر التكوين.
كل القصص التي اخترعناها
كانت وشماً سرّياً على
جدار القلب....
بلا عنوان،
بلا تفسير،
يا حادي العيس في
بيداء لغتي،
أما آن لك أن تنشد موالاً
يليق بجمال الغيد؟.
ها أنا...
ألملم النعاس عن أهداب القصيد،
وتهزّني دهشتي،
تفكُ الحصار عن اللغة،
تُرديني في بئر التردّد،
تزغرد أوردتي من وجع
ما،
وأعيش حيرة الكلمات
في صمت وحشتي،
لم يعُد يعنيني غيابك...
فرائحة المكان وحدها
تكفيني
لتشعل الحنين في تنور
غربتي،
ارحلي...
فذاكرتي ملأى بأطياف
اللقاءات،
ومرآة الروح تعكس ما اختبأ من وله.