قراءات نقدية

عبد الله الفيفي: حبائل الألعاب السَّرديَّة والشِّعريَّة!

(حكاية الأصمعيِّ مع الخليفة: نموذجًا)

حدَّثنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن حكاية الأبيات المنسوبة إلى (الأصمعي، ـ216هـ= 831م)، التي تتردَّد عادةً على منابر الوُعَّاظ والمتظارفين، بعنوان شطر المنظومة الأوَّل «صوتُ صفير البُلبلِ»!  وأشار إلى أنَّ أوَّل من سوَّقها على الناس ناظمٌ مِصْريٌّ صُوفيٌّ، عاش في عصر المماليك، خلال القرنَين الثامن والتاسع الهجريَّين، وكان مغرمًا بالغرائب والنوادر،  اسمه (شمس الدِّين محمَّد بن حسن بن علي النواجي، ـ859هـ= 1455م. قال: ولا يَبعُد أن تكون حكاية الأصمعي تلك ومنظومة «صفير البُلبل» من صناعة النواجي نفسه، أو صناعة مَن على شاكلته من مروِّجي النوادر والأقاصيص. وأضاف أنَّ تلك هي طبيعة النوادر أصلًا، بوصفها جنسًا أدبيًّا.  فمن المعلوم أنَّ فنَّ النوادر- منذ نوادر الورَّاق الأوَّل (الجاحظ)، على سبيل النموذج الأقدم والأشهر- لم تكن بروايات عن وقائع تاريخيَّة بالضرورة، بل هي أقاصيص متخيَّلة مؤلَّفة، في معظمها إنْ لم يكن برُمَّتها، لأغراض من الفكاهة والإدهاش والقَصِّ وإيصال بعض الرسائل الاجتماعيَّة. والحقُّ أنَّ (النواجي) لم يُسنِد تلك الحكاية، ولم يزعم لها عَزْوًا، وإنَّما صدَّرها بالقول: «(ومن لطائف ما اتَّفق) أنَّ بعض الخلفاء...».  وكأنَّما هذه النادرة على غرار نوادر (الجاحظ) عن «البخلاء»؛ فقد جاءت حول بُخل أحد الخلفاء- لم يُسمِّه، وإنْ تطوَّع لاحقوه بتسميته بـ(المنصور) أو (هارون)- وأنَّه كان بخيلًا في العطاء، لا يكافئ الشُّعراء، متنصِّلًا من ذلك باتهام الشَّاعر في أصالة قصيدته، بحُجَّة أنها نصٌّ معروفٌ محفوظ، لا جديد فيه. وأردفَ:

ـ وقد كان الخليفة خارقًا في حِفظه، كما زعم الحاكي، يحفظ القصيدة لسماعها أوَّل مرَّة، بل لديه مملوكٌ يحفظها لسماعها للمرَّة الثانية، وجارية تحفظها للمرَّة الثالثة! فكان يرفض مكافأة الشَّاعر بدعوَى أنَّ قصيدته معروفةٌ محفوظةٌ وليست من إنشائه. حتى جاءه (الأصمعيُّ) بما لا يستطيع حِفظه؛ لتفاهته أصلًا وعبثيَّته! قالوا: «ورجع [أي الخليفة] عمَّا كان يعامل به الشُّعراء، وأجراهم على عوائد الملوك.»(1) 

ـ وهنا مربط النادرة ومغزاها؛ فلكلِّ داءٍ دواءٌ يُستطبُّ به. 

ـ وإذا كانت سهولة الحِفظ دليل عدم أصالة النصِّ، فثمَّة ما يتعذَّر حِفظه لا لأنَّه أصيل، بل لأنَّه لا يحتكم إلى منطق اللُّغة والعقل ليُحفَظ.  هذا ما يبدو من مغزًى لهذه النادرة.  غير أنَّ من لا يُميِّز النوادر القصصيَّة من الحقائق التوثيقيَّة، ولا يفرِّق بين الأخبار الأدبيَّة والأخبار التاريخيَّة، يذهب إلى تصديق تاريخيَّة ما هو من نسج الخيال، أو في المقابل إلى إنكار ما هو محض مجازٍ أدبيٍّ؛ بتُهمة مخالفته حقائق التاريخ والواقع والقِيَم.  وهذا أمرٌ شائعٌ بين العوامِّ، في تلقِّي فنون السَّرد بخاصَّة، حتى لترَى في عصرنا أنَّ بعض القرَّاء يتلقَّون ما يكتبه الروائي، مثلًا، على أنَّه قِصَّة حياته الحقيقيَّة، أو أنَّه جزء من سيرته الذاتيَّة!  وتنبني على هذا الكثير من الأوهام والأحكام. 

ـ وماذا عمَّا ضمَّنه (النواجي) من نَظْمٍ نسبه إلى (الأصمعي)؟

ـ أغلب الظنِّ أنه من نَظْم عصره، العصر المملوكي، إنْ لم يكن مِن نَظْمه هو. وهذا ماثل في الطابع المعهود من التلاعب بالألفاظ، والعزف على الأصوات لإقامة الوزن.

ـ مع أن الأبيات أرجوزة، جاءت على (حمار الشُّعراء) في سهولة النَّظْم.

ـ حتى إنَّ «بستان» تتحول إلى «بسستتان»: «في بسستتانٍ حسنٍ/ بالزَّهر والسروللي»!  وربما عدَّل النصَّ ورثةُ هذه الملهاة، لتبدو أقل ركاكة، إلى: «في وسط بستانٍ حلي/ بالزَّهر والسرور لي»!  وهكذا من هذا الهذيان، الذي قد يُعجِب الأطفال والأغرار وأشباههما، ممن يظنُّون الشِّعر صفيرًا، والعبقريَّة الأدبيَّة هذرًا صوتيًّا، وضربًا من المخرقة اللفظيَّة وألعاب الحُواة من النظَّامين.

ـ ومن هؤلاء بطل هذه النادرة المزعوم، (الخليفة) نفسه؛ الذي أعجبته الأبيات، وأعجزته، وأرغمته على دفع المكافأة، بوزن الرقعة التي كُتب عليها النص!

ـ مع زعمهم أنَّ القصيدة كانت مكتوبة على عمودٍ رخامي؛ «فلم يَسَع الخليفة إلَّا أن أعطاه زِنتَها ذهبًا، فنفد ما في خزانة الملك من المال.»  وتلك عاقبة البخل وخاتمة البخلاء! 

ـ تلك، إذن، محض نادرة!

ـ نعم، بما يعنيه هذا المصطلح من معنى، لا يحتمل أكثر من مدلوله الأجناسي الأدبي.  تحكي عن بخيلٍ ذي سُلطان، يُحِبُّ أن يُحمَد بما لا يفعل، وأن يُمدَح، بلا مقابل. وهو يعشق المديح، وإنْ بكلامٍ بارد، بلا معنى، كصوت صفير البُلبل.  ولذا فإن ناظم الأبيات قد تعمَّد، كما ترى، العبث بالكلمات والأصوات، ليُظهِر سطحيَّة الخليفة؛ الذي يُعجِبه المديح مهما كان صفيرًا، صِفرًا من القِيَم اللفظيَّة والمعنويَّة. ليقع في النهاية في شَرِّ أعماله، من البُخل، وحُبِّ المديح المجَّاني، مع الجهل بطبيعة الشِّعر. 

ـ وهذه المنقصة الأخيرة (الجهل بطبيعة الشِّعر) قد أوقعت- عبر العصور، إلى جانب الخليفة - ما لا يُحصَى من الجهلة، ممَّن يروون أرجوزة «صوت صفير البُلبل»، ويتبارون في حِفظها، وإنشادها، على أنها آيةٌ من آيات المهارات الشِّعريَّة واللُّغويَّة الأصمعيَّة! 

ـ وبذا فربما وجدَ أنصار الشِّعر المتنصِّل اليوم من أصول القصيدة العَرَبيَّة في تلك الأبيات حُجَّةً على مقدار ما يمكن أن تزيِّفه الأوزان والقوافي من معرفةٍ بحقيقة الشِّعر، سواءً لدَى مَن يَنشد التقليديَّ المحفوظَ أو مَن يَنشد الأصالة والابتكار؛ فكلاهما يقع، والحالة هذه، في اللفظيَّة والشكلانيَّة.(2)

ـ والشاهد هاهنا؟

ـ هي شواهد: أولها، أنَّ في تراثنا من الأعلام من أصبحوا نماذج رمزيَّة، وشخصيَّات سرديَّة، توضع على ألسنتها الأقاويل، بجهل، أو بنحل، أو لأسباب فنِّـيَّة. 

وثانيها، أنَّ جمهرة التلقِّي كثيرًا ما تقع في حبائل الألعاب السَّرديَّة؛ فلا تميز الخطاب الأدبيَّ من الخطاب التاريخي، ولا الأقنعة، وأساليب التوظيف الحكائي، من الرواية بهدف النقل والتوثيق.  وتزداد المعضلة التباسًا عامًّا من حيث ظلَّ تراثنا العَرَبي- في كثير منه، بما في ذلك ما يُلبَس لَبُوْس النقل التاريخي- سرديَّات شفويَّة، وإنْ دُوِّنت، وأحاديث مجالس، لا سبيل إلى تفكيكها، لمعرفة صحيحها من سقيمها، أو منحولها، أو متخيَّلها، بغير آلةٍ نقديَّة، تمتلك زمام الوعي اللُّغوي، والذوق الأدبي، مع العِلم الدقيق بالسياقات من التاريخ والثقافة.

وثالثها، أنه كثيرًا ما ينخدع الناس عن حقيقة الشِّعر بالنَّظْم، وزنًا أو لُغة. صحيح أنَّ هاتين أداتان شِعريَّتان، بل هما من مكوِّنات الشِّعر العَرَبي، لكن وجودهما في ذاته ليس هو الشِّعر.(3) ولذلك فإنَّ قول (عبدالقاهر الجرجاني)(4): إنِّ النَّظْم ليس «إلَّا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه (عِلم النحو)»، قولٌ كثيرًا ما يُؤخَذ على ظاهره، في الشِّعر خاصَّة. من حيث كان النَّظْم في تراثنا العَرَبي من خصائص النصِّ الأدبي عمومًا، من شِعر ونثر. فأنت حين تقرأ نصًّا نثريًّا لـ(أبي حيَّان التوحيدي)، على سبيل المثال، تُدرِك أنَّ الرَّجُل كان يَنْظِم نثرًا، كما يَنْظِم الشاعر شِعرًا. ذلك أنه لم يكن من نصٍّ أدبيٍّ عَرَبيٍّ، يستأهل هذا الوصف، يخلو من النَّظْم، وإلَّا لم يعُد نصًّا أدبيًّا، بل كلامًا استهلاكيًّا يوميًّا. وهذا ما انحلَّ زمامه في العصر الحديث، في النثر بدءًا، فبات بلا نَظْم، ثمَّ استفحل الاستخفاف بموروث الأساليب العَرَبيَّة، لدَى أجيالٍ أوطأَ من أنْ يحملوا عِبْءَ ذلك الرصيد من الموروث، حتى أراد من أراد- من غير العَرَب، ثقافةً أو انتماءً- أن يشملوا بتنازلاتهم النَّظْم في الشِّعر أيضًا؛ استسهالًا، أوَّلًا، وتبعيَّة، ثانيًا، لما في آداب أخرى، ظنًّا ساذجًا أنَّ نصوص تلك الآداب بلا نَظْمٍ البتَّة، يوائم لُغاتها وثقافاتها. فإذا الأدب العربي المعاصر يقع في ثلاث آفات: سلوك الطريق الأسهل، نهجًا طُفوليًّا، غير ناضج تربويًّا،  وثانيها، التقليد الأعمى للآخَر. وهو نزوعٌ غريزيٌّ لدَى الإنسان، إنْ لم يكافحه، طغَى عليه. وذلك ما لا يُعهَد في مخلوقات الله الأخرى، سِوَى في بعضها، كالقرود والببغاوات. فأنت لا تجد طائرًا يقلِّد في غنائه طائرًا آخَر، من غير جنسه، وإنْ استطاع ذلك. وثالثة الأثافي من تلك الآفات: توقُّف نمو الأدب العَرَبي عندما أُنجِز في العصر العباسيِّ مَشرقًا أو الأندلسي مَغربًا. لأنَّ العَرَبيَّ لم يعُد يعي ضرورة تطوير ذلك النصِّ الأدبيِّ العَرَبيِّ وتجديده من خلال مادَّته الخاصَّة، بل استسهل أن يقفز عليه، ليتحوَّل إلى ببغاء، مقلِّدًا هديل الآخَرين، أحسنَ التقليدَ أو أساء.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.............................

(1)  النواجي، (1938)، كتاب حَلَبة الكُمَيت في الأدب والنوادر المتعلِّقة بالخمريَّات، (القاهرة: المكتبة العلامية)، 90.

(2) إذا كان هناك من يَعُدُّ كلَّ قديمٍ تقليديٍّ صوابًا وأصيلًا جميلًا، فهناك مغالطةٌ على العكس، تُطلِقه نَبْزًا بالتخلُّف والاجترار.

(3)  وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنَّ من أغرب الغرائب في السنوات الأخيرة أن تجد بعض الصحف تنشر نصوصًا لمن كانوا يكتبون قصيدة التفعيلة منذ سنين طويلة، وقد جعلوا يدَّعون كتابة القصيدة التناظريَّة، فيكتبون هذرهم على عمودَين، كأنه قصيدة موزونة مقفَّاة، وبعض أسطرها بلا وزن. وإذا كان في هذا جهلٌ عجيبٌ من الكاتب بعَروض الشِّعر، فإنَّ فيه استخفافًا من ناشر مثل ذلك الهراء بالقارئ والشِّعر معًا. والأدهى أن يتواتر ذلك في مناسبات وطنيَّة؛ ليضاف إلى الاستخفاف بقواعد الشِّعر الاستخفاف بالوطن، وما يعنيه أصلًا من القِيَم اللُّغويَّة والأدبيَّة والتراثيَّة.

(4)  (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 55، 81.

في المثقف اليوم