قراءات نقدية
كوثر بلعابي: تخلّقات الكائن الوميضي في المجموعة الشّعريّة ومضت لأحلام بن حورية

مقدمة: ورد في البيان والتبيين لأبي عثمان الجاحظ ما يلي: (فنون القول في صناعة الشعر طويلة والعمر قصير) وهو يعني بذلك كثرةَ ممُكنات التّعامل مع اللغة في الشّعر واتّساع مجالات توظيفها إلى درجة أنّ العمر بحاله لا يكفي للإمام بها والإيتاء عليها.. بما يفضي إلى لا نهاية التجديد والابتكار فيها على مرّ الزّمن وبالتالي ما يولّد لا محدوديّة عيار التّقييم لمدى جودتها ودرجة مهارة أصحابها في سبك الخطاب الشّعري وحبكه..
بذلك يظلّ الشعر عموما وشعر عصر الحداثة وما بعدها مِن تجريب يقصر العمر عن خوض بحره وشقّ غمره كما يقصر عن الإلمام بجزئياته وكلّياته خاصّة في واقع عربيّ مأزوم شهد انفجارا في كلّ شيء بما في ذلك الكتابة على اختلاف اجناسها وخاصة الشّعريّة منها وبشكل خاصّ تلك المنسوبة إلى المرأة.. ورغم هذا السّيل غير المسبوق من الشعر النّسائي في تونس تحديدا استطاعت أحلام بن حورية ابنة حمام الغزاز وجارة البحر ان تحوز لنفسها مكانا لا بأس به في هذا الوسط الزّاخر بالأصوات النّسائيّة في تونس وفي البلاد العربيّة رغم أنّها تُعتَبر مُقِلّة من النّاحية الكمّية مقارنة بغيرها.. وذلك من خلال إصداريها: * مجادل * (2020) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة تضاهي المجدليّة قدرا والمجدل سموقا.. و* ومضت * (2024) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة النّورانيّة خاصّة وهي تضع له عنوانا هذه الجملة الفعليّة المبنيّة بلاغيّا على " جدليّة تجويع اللفظ وإشباع المعنى" فإذا بها حمّالة تأويلات في إسناد الفعل: " ومض" إلى المؤنّث مطلقا.. "ومض" هذا الفعل الذي يعني في العربيّة (لمع لمعانا سريعا ومبهرا يخطف البصر فيُدهِش المُبصِر.. وهو فعل البرق عنوان الخصب والخير والماء قوام الحياة.. وكذلك فعل السّيف عنوان حفظ الكرامة وشرف الحياة..)
(أ صاحِ ترى برقا أريك وميضه
كلمع اليدين في حَبيّ مكلّل - معلقة امرئ القيس)
فمن تكون أو ماذا تكون هذه الأنثى التي أسنِد إليها فعل الوميض؟؟ وهل ومضت في سياق الحقيقة ام في سياق المجاز الذي يحقق جماليّة العدول في العبارة الشّعرية؟؟
وماهي تجلّيات فعلها في قصائد المجموعة الأربع والخمسين؟؟
العنوان وأصداؤه في المتن ومنزلة ذلك في تكوين الرّؤيا الشعرية:
إذا افترضنا بداية انّ التي ومضت هي القصائد المؤسِّسة لرؤيا الشّاعرة في الكتابة عموما وفي هذه المرحلة من تجربتها خصوصا نتبيّنها اساسا في مستويات ثلاثة: الإهداء - قصائد البدء والعَود - خصوصيّة اللّغة اختياراتها وتوظيفاتها..
1 - وميض الإهداء بطابعه الصّوفي في الارتقاء بالفعل الإنساني الخلّاق تثمينا وإجلالا الي مراتب النّورانيّة من خلال رمزيّة اليد / الكفّ النّيّرة وما تعنيه من دلالات خاصّة في علاقتها بالإنجاز والإنبات تأصيلا وتجذيرا وخلقا (إليك وإلى كلّ مَن يسكب ضوءا في كفّه لِيُنبِت ذاته) ولعلّ الكتابة بهذا المعنى شكل من أشكال الإنبات النّيّر في مواجهة ظلمات القعود والخمول وتصحّر المعنى...
2 - وميض قصيدتي البدء والعود على بدء:
فالقصيدة الأولى (ص 13) تردّدت عبارة " الشمس" خمس مرات مع " القمر" و" الشعاع "... في مقاربة بين الذّات الشاعرة المؤنّثة وبين النّورانيّة (أنا امرأة... تنقش شامات على وجنات قصائدها... تقف في قلب الأعاصير لهبا كالشّمس...)
والقصيدة ما قبل الأخيرة (ص 96) حملت عنوان المجموعة وقامت أيضا على اتّسام الذّات بهذه السّمة النّورانيّة (ومضت... مثل شمس فركت وجنتيها) لتعلن قرار المُضيّ في عرك الحياة الانثويّة بنور الشّعر توّاقة نحو الأمثل (مضت... تناجي ربَّها ساجِدة.. تُعِدّ بروقا تُشِعّ على جانبَيها...) وهذا الأمثل الذي يمثّل نصّا (لم يُكتَب بعدُ) هو الذي استشرفته القصيدة الأخيرة (ص 98): " رصاصٌ" والتي وضعت للكتابة " النورانيّة " او بمعنى آخر ذات الوميض وظيفة المقاومة (ما لم تفعله الممحاة... بقلم الرّصاص... وما بقى من طلقات بقلم الرّصاص)
بذلك سيّجت الشّاعرة تجربتها في هذه المجموعة الشّعريّة بوميض أناها المرأة التي يطغى انسانها وشاعريتها على أنوثتها فتشرق بالوميض وبه تنجز وتبدع وتقاوم وتلاحق ظلمات آنفة بممكنات آتية وهي تدسّ خبايا المحاولة في تفاصيل القصائد التي توسّطت مجموعتها الشّعريّة متوسّلة بخطاب شعريّ خاصّ بها قوامه توظيفات للّغة خاصّة بها..
3 - وميض الاختيارات اللّغوية وطرق توظيف تيماتها ومرجعيّاتها وتَجويد صُوَرها دلالاتِها وذاك نجلوه في هذه النّزعة الاستعراضيّة في عودة الشّاعرة إلى أعلاق العربيّة المعتّقة في أشعار القُدامى والنّصّ القرآني تستميح منها معجمها المتين وتراكيبها ذات البلاغة الفائقة شأنها في ذلك شأن مجموعتها الأولى (مجادل). فنادرا ما نجد في الشّعر الحديث استعمالا للمعجم الحوشيّ من قبيل ما ورد مثلا في (قصيدة تونس ص 39:
تاؤها تفتّحت في قُرَيعائها
وأغلقت أثباجها.. ثمّ نادت في الدُّجَن
ابتسمي.. ستندمل الجراحُ
وتَينَع الغَيناء ثانية....)
(القريعاء: الأرض الخالية من النباتات الأثباج: وسط الشّى حين يتكتّل ويبرز الدّجن: الغَيم الكثيف الغَيناء: الشّجرة كثيفة الأغصان والأوراق). وعبارات أخرى كثيرة من هذا القبيل (النّيطل - غضاريف - حَوجلت - الخطوات الرّاقلة....)
ونادرا أيضا ما نجد في الشّعر الحديث إحياء لمثل هذه الاشتقاقات والصّيغ المستنبطة أو المستلهمة من لغة القدامى التي حفلت بها قصائد شاعرتنا بشكل استثنائيّ في مجموعتيها الشّعريتين كلتَيهما (ص 21: مُرَكمِجًا آماله / ص 22: مِرصافة الوقت / ص 25: شجّرتها واشتجرتها / ص67: الهذّاءة / ص 38: تلك ال " لماذا" التي " تُلملذ " فقاقيعها التّائهة / ص 95: أنا الشّامس...)
فكان في هذا الاستخدام لمعاجم وعبارات نادرة الاستعمال إخراج لها من مجاهل النّسيان لتظهر إلى النّور فتتجلّى وتومض في القصائد بما تُكسبه للّغة من ألق يتكامل مع ما زخرت به من بلاغة المحسّنات البديعيّة التى سجّلت ظاهرة مُلفتة في قصائد المجموعة (وأيضا في قصائد مَجادل). فنجد المفارقات تشغل حيّزا كبيرا من استخدامات اللّغة تجسّد جدليّة الظّلام والضّياء في العديد من التّمظهرات الأبعاد التفصيليّة المتعلّقة خاصّة بمواضيع الشّكوى والتذمّر من واقع الذاتّ والمرأة والشّعر والمجتمع والوطن وحتى الوجود... من جهة وبما تطمح إليه رؤاها المتمرّة أبدا والباحثة عن شعاع الشمس يمرّ على الكون فيزيح عنه الكدر وعلى الوطن فيضيء زواياه المعتّمة وعلى الشّعر والكتابة فيحلّق بهما إلى مشارف ذاك (النّصّ الذي لم يُكتب بعدُ...) بل إنّ بعض القصائد قد بُنِيت كاملة على المفارقات المتنوّعة من مقابلة وطباق مثل قصيدة: (بعين الغيم ص 22 من بين ما جاء فيها:
أطلّ من جفوة وسني
وشمسي بجوف اللّيل سارحة
تغنّي بأنواري..
ينفلت حرفي الذي كان محصورا بأروقتي
وتزغرد على مَجادل الأحلام
قصائدي وأشعاري...)
Kawther
وتتكامل المفارقات في الارتقاء بلغة الخطاب الشعري مع ضروب المجانسات اللفظيّة والتّركيبيّة لتُحقّق ما تكتمل به مقتضيات الشّاعريّة فيها من تنغيم إيقاعيّ وما تستوجبه مضامين التّغنّي بالذّات (ص 13: أنا امرأة.. / تضفر شَعرها شِعرا وفلسفة ) والقصيدة (ص 71: فقصائدي حين أسرجها / أقطع عنها أوصالها / وأنزع عنها أوحالها / وأُشرِبها من كؤوس النّخوة...) والحبّ (ص 93: المكسور.. يريد أن يُثبت لها / أنّه الأضحية وأنّها السّكّين / المسجور.. مازال يحبو نحوها / وخزعبلات في صدره تنزَع وِشاح صمتِها) والوطن (ص92:
تواعدنا على حُبّ على عشق أُراضيها
تَوادعنا هنا اليوم ولن أنسى أَراضيها)
من طابع احتفاليّ صاخب. هكذا مثّلت الاختيارات اللّغوية في المجموعة عاملا ساعد على إكساب القصائد تألّقا فنّيّا إضافيّا في إطار تلك الاختيارات التركيبيّة الخاصّة بشعر أحلام بن حورية بشكل عامّ والمتمثّلة في تلك الجمل ذات التّركيب اللّولبي القائم على تناسل مكونات الجملة من بعضها البعض حتى تسع طول النّفس الشّعريّ وتستوعب تشابك الأفكار والرّؤى بل إنها أحيانا تسع قصيدة بأسرها مثل قصيدة (أرشاق ص 80) التي تمتدّ على جملة إسميّة واحدة مُركّبة.. وهذا خاصّة في القصائد ذات النّزعة الاحتجاجيّة بمضامينها السّوداوية القاتمة في تصوير واقع تونس وفلسطين والعرب عموما (ص 65:
قالت غزّة
بلا رويّ ولا قافية.. أمشي
وذي الأصفاد تثقل خطوتي
يشدّني الوجع..
كأنّه الحجر.. كأنّه الوتد...)
وفي تصوير أحوال الفئات المسحرقة من المجتمع التي لا غرابة ان تغضب لها الكتابة بمداد شاعرة لها رصيد من النّضال النّقابي ومثل ذلك قصيدة: (وكان حلما... ص 74) التي أفردتها للحديث عن هجرة الشّباب المهمّش نحو أوروبا بحثا عن الحياة في قوارب الموت
وكذلك في تصوير واقع المرأة المعقّد في مجتمعنا ومن ذلك ما جاء في قصيدة (المدخنة ص: 32
بلا وجه.. بلا ومض.. بلا أرض.. بلا وطن
تتمدّد كالموت في الكلمات
كالسّوس الذي يسري في الحصاد
تنصب مشانق لبسماتي
تُطارد أحلامي وأنّاتي.. فيستفيق......) فتلك جملة واحدة قدّمت مسيرة حياة كاملة من معاناة سببها الأنتَ المذكّر الطّاغي في المجتمع والطّامس لكلّ ما هو جميل في الذّات المؤنّثة..
وقد واجهت الشاعرة قتامة صور الواقع في هذه النّزعة الاحتجاجيّة بنَورانيّة اللّغة التي غلب عليها الاستعراض والنّخبويّة بتلك الصّور البلاغيّة القائمة على اعتماد انواع التشبيه والاستعارة في تحقيق جمالية العدول أو ما يسميه الدكتور "محمد الخبو " في كتاب (مدخل إلى الشّعر العربي الحديث) ب" الغموض الشّفّاف ". وقد استلهمت الشّاعرة هذه الصّور البلاغيّة خاصّة من منظومات الكتابة والقِيَم والوجود والطّبيعة خاصّة السّماويّة المنيرة ممّا شفّ عن عالمها الشّعريّ المنطلق من الذات والممتدّ نحو ما يحيط بهذه الذّات عبر ما تؤدّيه اللغة من تفاعلات مع محيطها تفاعلا ينفّر من كلّ ما هو مظلم وينحاز إلى كلّ ما هو مُشرق وضيء مِن ذلك ما ورد في قصائد كثيرة منها قصيدة (في مهوى الرّياح ص 67:
ما اسودّت البهجة يوما
وما تسيّع ماؤها
إلّا إذا تكدّر في صحوها المطر
وذا مطرك ومقٌ مِن حرير
يتلألأ على خدّ القصيدة ولا يأبى الهطول...)
خاتمة:
تبقى دلالات فعل ومضت وحوافِّه ذات صلة بالنّور محورا واسما للخطاب الشعري في التّجربة التي قدّمت لها الأديبة فتحية دبّش وقد نوّهت ب: (حرصها الدائم على جعل مواضيعها متنوّعة تنوّع انشغالات الفرد والجماعة فهي التي تكتب للنساء كما للرّجال للحبّ كما للحرب وللذات كما للآخر في حالتي الثّبات والتّحول) تكتب ضمن تجربة مسيرتها محكومة بجدلية المسايرة والمغايرة قصيدا هادفا في غير انسياق وراء الشّعارات والايديولوجيا ورومنسيا في غير انحباس داخل صوت المشاعر الفرديّة ومتمرّدا في غير تطرّف ولا حدّة في الخطاب.. وتكتب ضمن تجربة سياقها التّاريخيّ محكوم بجدليّة العتمة والضّياء (الوميض) تارة تحتجّ على مكامن الحيف والرّداءة في الواقع التّونسي والعربي والإنساني وطورا تجنّح نحو الأفضل والأوجه والأكثر عدلا وجمالا أو لنقل الأكثر وميضا لمستقبل الشّعر والإنسان والأوطان..ثمّ هو وميض الكِتابة التي تَدين لذاكرة الشعر العربي القديم والحديث في مختلف مراحله وتحوّلاته ممّا أكسب قصائدها منسوبا مرتفعا من الإنشائية / الشّاعريّة ونزعة استعراضيّة حققت تَميُّزَ الخطاب وهَيبة النّصّ على أساس متين التّركيب ضارب في الأصالة وهو يُجايِل عصرَه خاصّة في هذه التّنويعة التي لا تزال تجرّب وتختبر وتُسائل مختلف طرائق الكتابة الشعرية (النّثرية والموزونة) في متلازمة بين فنون القول ومبدعتها وما انعكس في ذاتها من أصداء حياتها وثقافتها وأحلامها..
تلك أبرز ملامح الكائن الوميضي الذي تخلّق في قصائد شاعرتنا أحلام بن حورية وهو يحاول أن يخرج بنا من ظلمات راهن المجتمع وحيفه والأدب المثقَل بمزالق تردّيه والوطن المكلوم بخيباته والإنسان المُنساق نحو انحرافاته... أن يخرج بنا إلى أنوار القصيدة الرّسالة الوضيئة ضمن مسار اختارته الشاعرة لتجربتها سلكته فومضت في مطبّاته المعتّمة و... مضت بين شعابه وفيافيه نحو الآتي من الرّؤى المتعلّقة بالكتابة خاصّة وبالإنسان والوجود عامّة شعارها (ص 16:
حوريّة بلا واو
تصعد على ربوة الزّبد القديم
تعانق نسرا لا يستكين...)
***
قراءة أعدّتها: كوثر بلعابي