قراءات نقدية

عبد الستار نورعلي: الشاعر أحمد مالية وفنّ الغزل

أحمد مالية، الإعلامي والشاعر والناثر، حريصٌ أنْ تكونَ نصوصُه الشعرية رقيقةَ الحاشية، رهيفةَ الأحاسيس، شفيفةَ المشاعر، أنيقةَ اللغة، ورشيقةَ الأسلوب، وعفيفةَ التعبير والتصوير، وهو ما نقرأه ونلمسه في قصائدِه. يقول في قصيدة (ذبول):

ها قد عادَ أيلولُ،

يجرُّ خلفه حقائبَ الشتاء،

ويجرُّ الحنينَ كظلٍّ يتعثّر في ظلال الغياب.

كيفَ سيولدُ الصباحُ

حين تغيبُ أنفاسُكِ عن النوافذ؟

من أين يشربُ الوردُ إذا جفّت شفتاكِ؟

ومن يوقدُ الشموعَ إن غابتْ أصابعُكِ؟

من يمشطُ للغيمِ جدائلها

بفراشاتِ أصابعها؟

كلُّ الخصائص الفنية التي ذكرناها في مبتدئنا هي منْ سمات شخصيته التي نلمسها، ونشعر بها من خلال متابعتنا لمسيرته الإعلامية، والشعرية، والنثرية، والشخصية التي تتسم بالدفء، ورفعة الخُلُق. وكذلك هي منْ سمات كتاباته الشعرية والنثرية، وصفاتِة التي نحسُّ بها ونحن نتوغل في عالمه الإبداعي، المعبِّر الأساس عن شخصية الكاتب.

حين قال الفرنسيون بأنّ الأسلوب هو الرجلُ نفسُه، لم يبتعدوا كثيراً عن الصواب؛ فمنْ خلال متابعتنا للشعر العربيّ، منذ بداياته الموغلة في التاريخ، حتى اليوم، ومنْ خلال الدراسة، والرصد القرائيّ، والبحث النقدي التحليلي، وجدنا المقولة صائبةً في الشعراء الأصلاء الموهوبين والصادقين في أحاسيسهم وعواطفهم، وما يكنزه وجدانهم النقيّ، وقلوبهم العامرة بالحبّ، وفي التعبير عن وجدانهم، وما تضمّه سرائرُهم ونفوسهم، والتعبير عنْ أفكارهم، ومواقفهم، ومعتقداتهم، وأيديولوجياتهم، ومن مكامن شخصياتهم الذاتية في حركتهم الحياتية اليومية الدؤوبة معيشةً وواقعاً، وفكراً وأحاسيسَ وعلاقاتٍ، وما تحمل في طيّاتها من صفاتٍ، وسيماءٍ، وخصائص. فلكلِّ هذا أثره البيِّن في نتاجهم الشعريّ، والأدبي عموماً، مستندين كذلك في رأينا هذا على تجربتنا الشخصية في ممارسة فنّ نظم الشعر، والكتابة عامةً. وهناك استثناءاتٌ - لا جدالَ - حين يتوجه شاعرٌ ما، لسبب شخصيّ أو دافعٍ آخر مما يعيشه وسط بيئته، ليكتب فيما لا يحياه، ولا يؤمن به، ولا يصدُق فيه، ولم يعايشه. وتاريخ الشعر العربي حافل بهذا الاتجاه والكتابة. كما أنَّ هناك نظَّامين يكتبون خارج أسس واشتراطات فنّ الشعر الحقيقي، لتخرج قصائدهم صنعةً ميكانيكية وجفافاً فنيًّا، خاليةً من الصدق والحرارة والتأثير.

شعراء الغزل، منذ بدايات تاريخ الشعر العربي، اعتادوا التغني بجمال الحبيبة جسداً ماديّاً محسوساً ملموساً بكلّ تفاصيله، وبعذريةٍ، وغير عذرية، منذ أنْ قال امرؤ القيس في معلقته:

ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ

فَقَالَتْ:لَكَ الوَيْلاَتُ!،إنَّكَ مُرْجِلِي

*

تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعاً:

عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ

*

فَقُلْتُ لَهَا:سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَه

ولاَ تُبْعدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّلِ

*

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ

فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ

وحين غنّى كعب بن زهير بن أبي سُلمى في حضرة النبي (ص):

هيفاءُ مُقبِلَةً عجزاءُ مُدبِرَةً

لا يشتكي قِصَرٌ منها ولا طولُ

*

ولمّا قال عليُ بنُ الجَهْم:

عيونُ المها بينَ الرُّصافةِ  والجسرِ

جلبْنَ الهوى منْ حيثُ أدري ولا أدري

والآخر يردّدُ بأجمل غزلٍ وأبلغ وأرقِّ وصفٍ:

فأمطرَتْ لؤلؤاً مِنْ نرجسٍ وسقَتْ

ورداً وعضَّتْ على العُنَّابِ بالبَرَد

شبّه الشاعر عينَي المحبوبة بالنرجس، ودموعَها باللؤلؤ المتساقط منهما، وخدَّها بالورد. وشفتيها بالعُنّاب، وأسنانَها بالبَرَد (الحالوب) لبياضِها وتراصُفِها.

هكذا كانت تشبيهات واستعارات ومجازات، وصور شعراء الغزل قديماً، ومعاصراً كذلك من الشعراء الذين ظلُّوا يسيرون على منوالها، كما حدث تجديد عبر التاريخ في طريقة وأسلوب ولغة فنّ الغزل، بتأثير من التطوُّر الزمني الحضاري والاجتماعي، يقول أحمد شوقي:

خَدَعوها بِقَولِهِم حَسناءُ

وَالغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَّناءُ

*

أَتُراها تَناسَت اِسمِيَ لَمّا

كَثُرَت في غَرامِها الأَسماءُ

*

إِن رَأَتني تَميلُ عَنّي كَأَن لَم

تَكُ بَيني  وَبَينَها أَشياءُ

*

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ

فكلامٌ، فموعدٌ، فلقاءُ

ولِنقرأْ معاصرَنا نزار قباني وهو يقول:

لو كنْتِ في مدريدَ في رأسِ السَّنةْ

كُنّا سهرْنا وحدَنا

في حانةٍ صغيرةْ

ليس بها سوانا

تبحثُ في ظلامِها عنْ بعضِها يدانا

كُنّا شربْنا الخمرَ في أوعيةٍ منَ الخشبْ

كُنّا اخترعْنا ربَّما جزيرةْ

أشجارُها منَ الذَّهبْ

أثمارُها منَ الذَّهبْ

تتوَّجينَ فوقها أميرةْ

الشاعر أحمد مالية ذهبَ في غزلياته مذهبَ التجديد، والإبتداع والخَلْق؛ حيثُ الأسلوب المُستحدَث الخلّاق، والصور النابضة بالأحاسيس، والحركة الديناميكية الغزلية، والمرسومة بدقة الصياغة والحذاقة الفنية، وجمالية الألوان الشعرية، سواء أكانت معبِّرةً عن الوصال والقُرْب في العلاقة بين الحبيبين، أم التي تتسربلُ برداء الجفاء، والبُعد، والدلال، والتغنُّج، والهجر، والانكسار:

اخطئي مرةً واحدة.

وصوّبي نحو الجناح.

كلُّ سهامك للقلب.

كوني قاتلةً رحيمة.

تريثي. فكّري.

اغمسي سهمكِ بالسم.

احرقي ذلك الركن الموبوء بكِ.

وارحلي بهدوء.

واتركيني مندثراً،

كظلٍّ ضائع،

كدمعةٍ غريبة،

كشاعرٍ نفدت كلماته قبل أن ينتهي حزنه.

(من قصيدته سهمك الأخير)

الشاعر أحمد مالية هو امتداد لشعراء الغزل العذري، الموشَّح أسلوبُه بالرقة، والرهافةِ، والتصوير الإيقاعي الوجداني، والرشاقة البلاغية، المُعطَّرة بالإحساس الشفيف، والوجدان النقيّ، والعاطفة المتأجّجة من غير ظلِّ من الخضوع والتوسُّل، بل التحدّي الإيجابي للمُحبِّ، والذي ينبع من احترام الذات، وقدسية الحبِّ، والعلاقة الإنسانية الجميلة فيه. كما يمتاز أسلوبه أيضاً بالأناقة اللفظية، مثلما الأناقة الشكلية، وبالبلاغة المُستحدَثة غير الخشبيةِ المنحوتةِ بإزميل الجمود.

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الأول 2025

في المثقف اليوم