قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية لنص أيمن معروف "أحز رقبة الوقت"

يمثل النص السردي بعنوان " أحز رقبة الوقت" نموذجًا بارزًا للكتابة الشعرية-السردية المعاصرة، حيث يلتقي الشعر بالقصّ، والخيال بالانفعال، في فضاء مفتوح من الرمزية والوجودية والتأمل النفسي. ينحو النص نحو الاستكشاف الدقيق لذوات متعددة متشابكة، سواء في المقام النفسي أو الروحي، مستفيدًا من تقنيات اللعب بالزمن والفضاء والرموز. تكمن أهمية التحليل في كشف ما وراء النص من دفقات انفعالية، وأنساق معرفية، وأدوار فاعلية تهيمن على أحداثه.

1. التحليل الهيرمينوطيقي التأويلي:

أ. التفسير العام:

النص يطرح صورة الذات في مواجهة الزمن والفراغ والوجود. الرمز المركزي هو "البالون والخيط"، كدلالة على رغبة الإنسان في الإمساك بالزمن أو بتجربة الانفعال، لكنه يظل متفلتًا، ما يكرس حالة من السعي اللا متناهية والحيرة الوجودية.

ب. التوتر النفسي:

"أزعلُ وأركضُ وراء الخيط": انفعال متكرر، يدل على الصراع بين الرغبة والقدرة، الرمز هنا يشي بالتحكم والتلاعب بالواقع.

- القطّ الصامت: رمز للوعي العميق أو الذات المستترة، يمثل المرشد أو الشاهد على الفوضى الداخلية للمتكلمة.

ج. الرموز البارزة:

١-:الإبرة: رمز دقيق للحدث الصغير المؤثر، أو لمعاناة النفس الدقيقة.

٢- الظلّهيرة/النهار/الليل: تمثل التغيرات المزاجية والانفعالية، مع دلالة على مرور الزمن.

٣- العصفور الأزرق والريشة: رموز الحرية، الانتقال الروحي، وأحيانًا المكيدة أو الخديعة في إطار المخيلة.

2. التحليل الأسلوبي:

أ. السرد والصياغة:

النص يتميز بأسلوب متقطع، متسارع أحيانًا وبطيء أحيانًا أخرى، مما يعكس الحالة الانفعالية للذات. التكرار مثل "أضحك.. وأضحك" يوحي بمحاولة استقرار نفسي، والتكرار أداة إيقاعية تعكس حالة الانسداد أو التأمل العميق.

ب. اللغة والتعبير:

١- اللغة غنية بالصور المبتكرة: "رأسي المرفوع إلى فوق محطة رصد"، "القطّ كلّه كتلة مخفية الملامح".

٢- استخدام الاستعارات: "النهار كله.. والليل كله.. فرصة كأداء تتمطّى في الظّهيرة" يشير إلى تحولات داخلية ومعرفية، واستعمال كلمة "أداء" يعطي بعدًا فلسفيًا يرتبط بالفعل والمعنى.

3. التحليل الرمزي:

١- الخيط/البالون: الرغبة في الإمساك بالحياة، سعي النفس وراء لحظة متقلبة.

٢-:القطّ: الوعي أو النفس اللاواعية، مراقب للصراعات الداخلية.

٣- الإبرة: الخطر أو الألم الخفي.

٤- النهار/الليل/الظّهيرة: تمثيل مراحل الوعي، والتغيير المزاجي، والانفصال عن الواقع.

٥- العصفور الأزرق: رمز التطلع والحرية، لكنه أيضًا عنصر المخاطرة.

4. تحليل السيميائية (تطبيق نموذج غريماس).

المحور الشخصية / الدور الدلالة:

١- الفاعل المتكلمة / الذات الرغبة في السيطرة على الواقع الداخلي والخارجي

٢- المفعول الخيط/البالون، القطّ، الإبرة الأهداف أو الأشياء التي تؤثر في الذات

٣- المرسل النص / الوعي الشعري إيصال التوتر النفسي، الحالة الانفعالية

٤- المتلقي القارئ / الذات الواعية استقبال الرموز، التفكّر في الانفعال

المساعد الفضاء الداخلي (الصالون، الغرفة) تشكيل الحيز الرمزي للصراع الداخلي

٥- المعوق الفوضى، الغياب، الفراغ عناصر تعطل التوازن النفسي

5. قراءة الأنساق المعرفية:

النص يدمج بين: الوعي النفسي: التعبير عن العواطف الداخلية المتقلبة.

١- الوعي الرمزي: استخدام رموز واضحة للتعبير عن مفاهيم الوجود، الزمن، الحرية.

٢- الوعي المعرفي: استحضار العمليات العقلية، مثل التفكير في الأشياء اليومية (المطبخ، القهوة، الكهرباء).

6. مقارنة المستويات:

المستوى الملاحظات

الانفعالي الغضب، الحزن، اللعب، الفزع، السعادة العابرة

التخييلي الرموز (القط، العصفور، الخيط)، الصور الخيالية المتغيرة باستمرار

العضوي حركات الجسد، التنفس، التمدد، المشي، الضحك

اللغوي تكرار الجمل، الجمل القصيرة، الاستفهام الداخلي، اللعب بالعلامات الإيقاعية

7. الخلاصة:

النص يمثل تجربة شعورية ومعرفية مركّبة، تجمع بين الواقع الداخلي والخارجي، بين الفعل والرمز، بين الانفعال والحلم. ويتيح القارئ الغوص في مستويات متعددة من الخبرة الإنسانية، إذ يفتح الباب للتأمل في الزمن، الهوية، الحواس، والانفعال. استخدام أيمن معروف للرموز اليومية المرتبطة بالعالم الداخلي يشكل نصًا متعدد الطبقات، يمكن قراءته من مناهج متعددة: النفسية، الفلسفية، والجمالية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

أحزُّ رَقَبَةَ الوقتِ..

بقلم: أيمن معروف

أرمي بالوني في هذا الفراغ.. وأركض.

*

يفلتُ الخيطُ من يدي.

أزعلُ، وأركضُ وراءَ الخيطِ. يضحكُ الخيطُ ويركضُ، وأنا أركضُ وراءَهُ وأبكي. يعلو الخيطُ ويهبطُ.. يهبطُ ويعلو.. وأنا ألهثُ وأنطّ.

رأسي المرفوعُ إلى فوقٍ محطةُ رصدٍ.. ويداي شبكةُ صيد.

*

يتهادى الخيطُ ويهبطُ..

يهبطُ بالوني.. يهبط.. يهبط.. فأثبُ عليه.. أثبُ عليه وأخطفه بين أحضاني مثل نورسٍ ضالّ.

*

على الكنبةِ في الصالونِ، القطُّ طوالَ الليلِ يموء.

ألتفتُ. أُطفئُ الضوءَ الجانبيَّ وأدعُ العتمةَ كلّها للقطِّ، وأنا أدخلُ أحراشي الملبّدة، أفسّرُ سيكولوجيَّتي الخاصَّة، وعيني على القطِّ.

*

القطُّ صامتٌ كالكنبةِ. الكنبةُ سوداء كالليلِ.

أفركُ عيني.. أُشعلُ ضوءًا.. أتمطّى، أتحسَّسُ حنجرتي.. وألعن التدخين. أُجْهِزُ على الخفِّ تحت الطاولة.. أنتعلُه بعصبيةٍ وأتجهُ صوبَ المغسلة. أفتحُ الحنفيةَ وأغلقُها. أتجهُ صوبَ الغاز في المطبخ، أضعُ دلّةَ القهوة على الغاز. لا أريدُ القهوة.. أفكّرُ بالشاي. الشايُ نفدَ البارحةَ.. والقهوة كذلك.. الغازُ انتهى. أذهبُ إلى الصالون.. أفتحُ المذياع. الكهرباءُ مقطوعةٌ أيضًا.

جَهْجَهَةُ الفجرِ تتسرَّبُ من شقوقِ الباب. على الكنبةِ في الصالون، القطُّ صامتٌ.. طوالَ الليلِ يموء. أجلسُ على كنبةٍ مجاورةٍ وأتطلّعُ في القطِّ. رأسُهُ ممدودٌ على شكلِ كرةٍ بيضويةٍ موضوعةٍ إلى جانب الذيل. الذيلُ ملفوفٌ كعشٍّ. القطُّ كلُّهُ كتلةٌ مخفيةُ الملامح. آخُذُ شهيقًا.. تحرجُني حنجرتي، فأسعلُ. يفزعُ القطُّ.. يفتحُ عينَيْه بنعاسٍ، يموءُ ويتفَرَّسُ في وجهي، يتمطّى. يقفزُ عن الكنبةِ ويتجهُ نحو السرير، وأنا أبقى صامتةً على الكنبة، في الصالون.

*

ذلك الصباحُ كلّه ذهب في التلألؤ والفكرة..

وأنا محاطةٌ بالكوابيس وخيوط الذّهب. أنقرُ على خشبِ الكنبةِ.. وأدندنُ بتفاهةٍ.. وأحيانًا أموءُ كقطّ. أعثرُ دون قصدٍ على إبرةٍ في كومةِ الصمت قرب الباب. أمدُّ يدي وألتقطُها. أضحكُ من لَقِيّةِ الصباحِ.. إبرةٌ في فراغ. أُمرّنُ نفسي على هذا الهُراء المُقَطَّن.. ثم أتعلمُ هذا القليل من الهواءِ الذي يتصادفُ مع تكّة الباب كما أتعلمُ حياكةَ جوربي في الظلام، لإيماني أنّ الضوء لا يقول لنا أشياءً مهمةً عن اللمعان، كما هو التاريخ لا يقول لنا أشياءً مهمة عن التراب.

*

تسقطُ الإبرةُ من يدي على البلاط.. فأسمعُ رنينَها الغامق الذي مازال يلسع جسمي كوخز الإبر. ينفرطُ المكانُ القليل ويتعدّد.. فأتهدّم في انفراط المكان.. وأصفن.

*

الجداريّةُ المائلة على الحائطِ مائلةٌ بشكلٍ صحيح.

أخمنُ البرتقالةَ التي في يد المرأة كناريًّا يُعشِّشُ في فضاء الكف، بينما تتوزع باقي اللوحة مساحات من ألوان مركّبةٍ تتخلّلها دروبٌ ملبّدةٌ بالحصى.

*

كلّ ذلك الصباح ذهب في التلألؤ والفكرة، وأنا مقرفصةٌ وسط الغرفة مكتظّة وكظيمة، بينما الظّهيرة تلوحُ، وهي تسيلُ أسيانةً مثل نمر.

*

ما الذي جاء بي إلى هنا كي أشعلَ سيجارةً في فم الوجود وألعبَ النّرد مع هذه الكائنات؟

*

البيتُ عشُّ ضباع، والبابُ مؤامرة.

أرمي العلبَ الفارغة في نهار الناس ولا أغلق باب المصادفة على الليل. لي الظّهيرة كلها تتعقّبني أسيانةً. ذبابةٌ زرقاء تطنُّ في هذا الفراغ مثل بارجةٍ حربيةٍ في البحر الميت. أعلقُ خرزةً زرقاء على باب الوقت، ثم أقلب الحصى تحت بيارق الظّهيرة، التي تسيل.

*

أدْعَكُ جسدي مثل قطة.. وأضحك.

أقبضُ على مزلاج الباب.. وأضحك. لا بدَّ من الضحك في الليل أو النهار.. لا بدَّ من الضحك.

*

الضحك.. فنجانُ قهوةٍ في الصباح الملبّد كأحجية.

أضحك.. وإذا كان ثمّة حمّى أصفع النافذة وأركن، لطلّة النسيم.

*

ما شأني بالمؤامرة والباب.. أنسى.

ما شأني بالبيت وعش الضباع.. أتخلّى. لا أدخل.. ولا أخرج.. وإذا كان ثمّة دخول، أسمّي البيت – الظّهيرة – عش دبابير.. وأضحك. وإذا كان ثمّة خروج، أسمّي الباب – المؤامرة – فرصة.. وأخرج.

أبدأ يومي هكذا، من الإفاقة حتى النوم. أجعل صباحي طريًّا وناعماً وأملس، ثم أنزلق فيه كحلزونة.. وأضحك.

لا بدَّ من الضحك..

الضحك.. فنجان قهوة.

*

غريبٌ، هو الضحك.

إيه.. إيه.. غريبٌ هذا الفراغ الذي هو رأس أفعى.

*

غريب، أعطيه ولا يأخذ. أنام قاتمة.. وأفيق قاتمةً في الفراغ.

ترنّ بوالين غريبة في الهواء. تصفرُ ريح.. ولا صوت. أسوّي مزاجي بضحكة، ولا أتعمّد قراءة العزلة. معرضةٌ نجوم الظّهيرة لشيء.. ومتروك بابي هكذا، في المشاع.

*

غريب.. تشرق شمس ولا لزوم لي. تغرب شمس ولا لزوم لي.

النهار كله.. والليل كله.. فرصةٌ كأداء تتمطّى في الظّهيرة. سأضع قبعةً على رأسي وأغيم..، قلت. لن أنتظر السماء حتى تهطل.. ولا الغيمة حتى تنزل إلى النهر. لا سماء.. ولا غيمة.. ولا نهر.. أو هطول.

*

الجحيم، التي في يدي، والجحيم الذي في الكلام سأهبُه المغفرة حتى يستقيم.

أرمي حجراً وأرسم دوائر كابية، ثم أركن للعصفور الأزرق وهو يتخبّط بين مسام الهواء ويخبط النافذة على الحافة. أضع ريشةً كالهنود الحمر وأكمن في دغْل اللحظة وفي السكون العميق، لا أخرّبش. أتنقل بخفّة طائر من كمين إلى كمين، وأنتظر. كم هو عمق الليل.. وكم هو قاعي. بين ركام الغبار المترسّب على الباب والمكدّس في غرفتي.. لا أقدر على التخمّن. أجلس على عشب الخرافة ويداي فوق رأسي كوسادة وأحدّق في مغاور الفضاء. يعبر شلح أزرق.. أظنّه الطائر في انتظار المكيدة. هكذا في الظّهيرة. الظّهيرة، الأسيانة، مثل نمر.

 

في المثقف اليوم