قراءات نقدية
عبد النبي بزاز: إرهاصات ومقدرات التطور والارتقاء الشعري في مجموعة "ورْد الروح"
تضم مجموعة " ِورْد الروح " الشعرية للشاعرة جيهان بن رابحي أهم مكونات وعناصر الشعر من إيقاع متنوع، وعناصر بلاغية ومجازية، وموضوعات مختلفة تؤثث متنها الشعري، وتضفي عليه جمالية في التعبير، وعمق في المعاني والدلالات مما يرهص بأواليات بداية شعرية تمتلك عناصر وأدوات إبداعية قمينة بتأسيس أفق شعري موسوم بالرقي والتطور.
ولعل ما يميز نصوص المجموعة نسجها على منوال إيقاعي يطبع جل أساليبها وتعابيرها وهو مل نلحظه من أول نص " مزامير الزهد " في روي الراء المشبعة: " ضاقت به الِفكَرُ/ أستتر / يعتكر / َصَدرُ/ ُيخْتصرُ/ تعتصر.../ أتزر إلى آخر نص في المجموعة " أسطورة الرغد " حيث يتحول الروي إلى دال مشبعة: " الرَّغَدِ / َيدِ.../ ِشدَدِ ". وآخر داخلي كما في: " أكمامها تفيأت / وطلعها تفلقت " ص 32، من قصيدة " حفنة رسائل " حيث تتجانس وتتجاوب التاء والفاء لخلق جرس داخلي يثري نمط الإيقاع وينوعه، وفي حرف الراء و القاف والتاء: " إن الزفرة خارقة / حارقة " ص 81، وما تشكله من لون موسيقي بإيقاع متجاوب. وآخر بلاغي جمالي كالجناس المتمثل في قول الشاعرة: " عذرا عذرا / يا مُقْلا" ص 81، وهو جناس تام تكرر أيضا في: " والآن الآن... " ص 87، وفي قولها: " تربو سنابل ملأى َحبّا، حُبّا... " ص 86، في حركة الفتحة في حَبّا الأولى وحُبّا الثانية التي توزعت بين النصب والضم، وما يسبغه ذلك على المعنى من سمات الاختلاف والتنوع. والتشبيه كمكون بلاغي: " كالقشة حيرى شاردة " ص 19، مقترن بالأداة ( الكاف )، ومجرد عنها في قولها: " هي النجوم ذئاب ناعمة " ص 41، بفتحه لآفاق متعددة المعاني والأبعاد جماليا ودلاليا. إلا إن ما يميز شعر المجموعة بشكل لافت هو طابعها المجازي، وما يرسمه من صور، وما يصوره من لوحات دالة ومعبرة تطالعنا منذ النص الأول " مزامير الزهد " التي ورد فيها: " أنا دم الصمت في الأسحار غازلة / أسرار بوحي، وحزني ملؤه عبر " ص 15، فصورة منادمة الصمت، وغزل الأسرار بخيوط الوحي تفتح وتنفتح على أفق يستدعي الغوص في امتداداته، والضرب في مجاهله عدة معرفية وجمالية شاملة، وقولها: " تلهث في عري " ص57، حيث تختزل شدة الجهد والتعب في إهاب العري والانكشاف، وما يحملانه من أبعاد ومعاني، وما يزخران به من رموز وإشارات تحتاج إلى مقدرات جمة، وأدوات قراءة واستقراء ِعدّة لتفكيك ترابطاتها، وتحديد طبيعة علاقاتها الإبداعية، وقولها أيضا: " من كبة دهشتنا / ينسل سؤال... " ص 80، مع طرح نوع ما يجمع بين الدهشة والسؤال من تجاذب وتنابذ يحيط بكليهما و يجلل كنههما وامتداداتهما ؛ وكيف تقود الدهشة المفعمة بهالات الإبهار إلى اجتراح سؤال منسل ومتسلل من زحمة الارتباك والقلق والحيرة. وكيف يقدم المنديل كهدية فوق بساط حنين: " منديل مهدى / فوق بساط حنين " ص82، فيغدو للحنين بساط تقدم فوق جنباته الهدية، وينزاح به عن فراش تطأه الأقدام إلى مسرح لمنح الهدايا، ويتم رسم صورة للفراغ الذي تصير له سقوف تملأ فراغاتها: " وملأت سقوف فراغك... " ص 85، وما تزخر به السقوف من دلالات رمزية كتوفير الحماية ودرء ما يمكن أن ينجم من انكشاف وانفضاح. إلى غيرها من صور تروم اختراق نمطية الوصف المعهودة بإرساء إواليات تعبير وتصوير ترهص باجتراح أشكال مختلفة ومنزاحة والتي لا تسمح حدود هذه القراءة بمتابعة جلها.
ويقودنا الجانب المجازي وما ينتجه من صور إلى الوقوف عند بعض التعابير التي تكرس وتجسد نمط الاختلاف داخل متن المجموعة كما في قول الشاعرة: " أتجرع نفسي ألفظها " ص 19، وما يعكسه ذلك مما تمور به النفس من أهواء ومشاعر مؤلمة وممضة تحتم تجرعها ولَفْظها بَصْقها لعدم استساغتها واستمرائها في استعمال تعبيري يعكس ذلك لكن بأسلوب تصويري ينأى عن الشائع والمألوف. وملْأْ الكأس من نهر الفراغ: " أتحسس الكأس أملأها / من نهر فراغ " ص 20، فكيف للكأس أن ُتملأ من نهر فراغ ؟! وخرق واختراق الصمت الذي يخنق البوح: " أخرق صمتا / يخنق بوحي " ص56، وللصمت أن يخنق البوح ؟! والقدرة على صنع حُبّ يُغْزَل من صوف: " وصنعتك حبا / أغزله من صوف..." ص 89، وكلها تعابير صيغت بأساليب تختلف عن الشائع والمُتّبَع. وتضمنت النصوص كذلك استيحاءات متنوعة المرجعيات ؛ من الموروث الشعري القديم كما ورد في: " دعك، ودعك من اللوم " ص 52، على نهج ما ورد في قول الشعر العباسي أبي نواس: " دع عنك لومي فإن اللوم إغراء / وداوني بالتي كانت هي الداء " في موقفه عمن يلومه ويعاتبه على شرب الخمر مؤكدا بأن ذلك يضاعف من رغبته في الإقبال على معاقرتها والعَبِّ من كؤوسها لأنها تعالجه من وصب كل هم وكدر، وقولها أيضا: " لو صدقت/ من عرقوب " ص88، في إشارة إلى عرقوب كشخص يضرب به المثل، في التراث العربي، في إخلاف المواعيد، والإخلال بالوعود كما ورد في قصيدة " البردة " الشهيرة لكعب بن زهير: " كانت مواعيد عرقوب لها مثلا / وما مواعيدها إلا الأباطيل ". ومن النص القرآني في مثل قولها: " ما مت ما قتلت / شبهت لي منيتي " ص 32، حيث ورد في سورة "النساء" عن عيسى عليه السلام من قوله تعالى: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، وعن قصة حواء التي أكلت من الشجرة المحرمة كما ورد في سورة " طه ": " فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما... " والتي كانت سببا في خروج آدم وحواء من الجنة، وهو ما حورته الشاعرة بإيحاء وترميز: " وأنا في حلقك حواء / أنهش تفاحة حتفي " ص 56، وذكر مدى صبر أيوب، وتحمله لآلام المرض ومضاعفاته: " في حرقة من صبر أيوب " ص85، كما ورد ذكر العديد من الموضوعات،توزعت بين ما هو ذاتي كالحيرة الداخلية، حيث تعبر عن ذلك: " لا حيلة لي ولا مأوى ألوذ به / ضاقت بي الأرض، زاد اليأس يعتكر " ص 13، فلا تجد غير الله ملاذا آمنا يمنحها الرأفة والرحمة والطمأنينة: " حتى اهتديت إلى نجواك سابحة / أنت الملاذ، وفيك الخير يختصر " ص13، وينقيها من الذنوب،ويشفيها من المعاصي: " يا رب داو فإن الداء أثقلني / في الذنب أرسف والرمضاء تعتصر " ص 14، فهو مصدر الغوث والرحمة: " أنت المغيث إذا حلت بنا غِيَر / أنت الرحيم بنا بالعفو تقتدر " ص16، وما هو موضوعي قومي كالقضية الفلسطينية، وما تعيشه من مآسي يقترفها العدو الصهيوني الغاشم، حيث تقول: " فالأَقصى... مُقصى / والحائط فيه حزين... بدلتم بمقابر كل حدائقها / فأرى الشعب مهين " ص 79، الذي يمعن في التنكيل بالمواطنين الفلسطينيين بلا رأفة ولا هوادة متنكرا لكل المواثيق الحقوقية والإنسانية: " وفلسطين / تجر جنائزها " ص80، ووطني في تصوير ما يعج به المجتمع من اختلالات من قبيل أساليب القمع التي تغتال الأحلام، وتجهز على الطموحات: " بالبطش تعلو أيادي القمع في فزع / تَبَّتْ أيادي تُميت الحلم في بلدي " ص94، وتعليق كل المرامي المشروعة، والأهداف المرجوة على حبال التسويف والمماطلة مع استخدام كل أنواع الترهيب، وأساليب القمع والتضييق: " راهنت في المجد بالأحرار من وطني / ملوا من القهر والتسويف في كبد " ص 95. مما يحول دون تحقيق الأماني المنشودة، والأماني المأمولة.
لنخلص أخيرا إلى أن مجموعة " ِورْد الروح " الشعرية تتكون من عناصر وأدوات إيقاعية وبلاغية تمنحها ميزات تستجيب لشروط الإبداع الأساسية انسجاما مع روحه الخالية من أية شوائب تمس أصل جوهره، وعمق كنهه، وهو ما يستشعره ويلمسه القارئ للمجموعة الموسومة نصوصها بجمالية التعبير، وتنوع الموضوعات، وانسيابية الإيقاع، وبعد المعاني والدلالات مما يحمل ويثبت أكثر من دليل على امتلاك الشاعرة لمقدرات بارزة على الخلق والابتكار جديرة بالرقي بشعرها إلى مراتب أفضل، وتبويئها مقامات أسمى وأرفع.
***
عبد النبي بزاز
................
وِرْد الروح (شعر) جيهان بن رابحي، مطبعة بلال، فاس 2025.






