قراءة في كتاب

سامح مرقس: نقد كتاب "الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة" للفيلسوف الفرنسي ميشيل هنري

(ترجمه جلال بدله، الناشر دار الساقي، 2022)

مقدمه: إن تقييم أي فكرة يتطلب أولاً معرفة تفاصيل الشخص الذي طرحها وفهم المعنى الحقيقي للمصطلحات المستخدمة. هنا، يهمنا توضيح ماهية العلم ومعنى مصطلح "الثقافة" قبل الخوض في التفاصيل الفكرية والرد عليها وفقًا لقواعد الكتابة العلمية الموضوعية، وتجنب المنهج غير العلمي المستخدم في عرض بعض القضايا الفلسفية والمواضيع المماثلة في مجالات تقع خارج نطاق التقييم العلمي الدقيق.

من هو ميشيل هنري؟

ميشيل هنري (ولدفي فيتنام 10 يناير 1922 - توفي في فرنسا 3 يوليو 2002)، كان فيلسوفًا و وروائيًا فرنسيًا. يستند عمل ميشيل هنري على علم الظواهر phenomenology ، ويعرّف هنري الحياة من وجهة نظر فينومينولوجية بأنها ترتكز على الانفعاليات الكامنة وتجربة الذات.

ماهيه العلم؟

العلم هدفه الاساسي هو اكتشاف طبيعه الوجود والبحث عن الحقيقه ايا كانت تفاصيلها، ويعتمد علي الاثباتات العلميه وليس علي الايمان بها٠

اوضح فيلسوف العلم كارل بوبر ان ما يميز العلم عن اللاعلم انه قابل للاختبار والتكذيب بينما التفسيرات الغير علميه غير قابلة للتكذيب، وان معيار العلم ليس "التحقق" بل "القابلية للتكذيب”.

التقدم العلمي مشروطاً بالاعتراف بإمكان الخطأ، والانفتاح على التصحيح المستمر.

العلم لا يتقبل أي شيء كحقيقة مطلقه، وكل معرفه علميه لها مدى زمني محدود من الصلاحية، وتعبر عن الحقيقة فقط داخل هذا النطاق الزمني٠

منهج الشك ضروري في المعرفه العلميه.

ما معني مصطلح الثقافه؟

إنها مجموعة من الأنماط السلوكية التي يتعلمها الفرد داخل المجتمع. وتشمل مكونات الثقافة: العلوم، والفلسفة، والتاريخ، والأخلاق، والمعتقدات، والمبادئ، واللغة، والفنون، والعادات والتقاليد، والرموز، والطقوس. تعبر الثقافة عن الروح الداخلية للمجتمع (القيم، والإبداع، والمعنى)، بينما تعبر الحضارة عن الجوانب المادية والتنظيمية (المدن، والمؤسسات، والتكنولوجيا). تشمل الثقافة الحضارة، لكنها أوسع وأعمق منها، وهي تُشكّل الهوية الفردية والجماعية.

ملخص لاراء ميشيل هنري في كتاب ”الهمجية؛ زمن علم بلا ثقافة

العلم الحديث، بعدما تحرّر من الثقافة التي أنجبته، صار يمارس شكلاً جديداً من الهمجية جعلته ينسى جذره الثقافي والذاتي والروحي.

التركيز الحصري على الموضوعية التقنية والإجرائية أدى إلى انحدار الثقافة في مستوياتها الروحية والفلسفية والأخلاقية. والنتيجة مواجهة وجودية بين تدفق المعرفة العلمية وانحطاط الإنسان.

العلم الحديث يفصل نفسه عن أي مرجعية ذاتية أو باطنية لصالح الموضوعية والملاحظة الخارجية. هذا الانفصال ينفي تجربة الحياة الداخلية ويعتبرها وهماً. الثقافة بالمقابل هي انبثاق للذات وللمعنى من الداخل٠

حين يقف العلم خارج هذه التجربة الحيّة يتحول إلى قوة عمياء تسعى إلى الهيمنة التقنية المستمرة. وتُميت الحس الأخلاقي لصالح الكفاءة والإنتاجية.

نحن نعيش اليوم تحت هيمنة خطاب علموي يفترض أن المعرفة الموضوعية تغني عن التجربة الذاتيه، ويفقد الإنسان علاقته بفاعليته الروحية، ويتعامل مع ذاته كشيء يمكن قياسه وتكميمه.

وسائل الإعلام والتقنيات الحديثة ليست حياديات كما يدّعي العصر، بل هي أدوات لإعادة تشكيل الإدراك. "ثقافة اللا-ثقافة": حيث تُستبدل الثقافة الأصيلة، التي تنبثق من الحياة، بثقافة استعراض وصور ومؤشرات. وبهذا يزدهر شكل جديد من التحكم.

الجامعة الحديثة فقدت جوهرها الثقافي. فبدلاً من تشكيل الذهن كقوة روحية أصبحت مؤسسة لإنتاج الخبراء والوظائف. التعليم لم يعد بحثاً عن الحقيقة بل عن المهارة. يصبح التعليم نفسه أداة لتجريد الإنسان من ذاته٠

يمكن إنقاذ الثقافة عبر العودة إلى الحياة الداخلية حيث يسكن المعنى. لا تنبع قيم الثقافة من الخارج بل من الفيض الداخلي للذات الحية.

خطر العصر ليس الجهل التقليدي بل الهمجية العلمية التي تنفي الذات الحية وتستبدلها بالموضوعية العلميه والتكنولوجيه٠

إعادة الاعتبار للحياة الداخلية التي تسكن كل إنسان، فهي المصدر الوحيد الذي يمكن أن ينبثق منه معنى جديد.

يدعوا الكتاب إلى ثورة هادئة تعيد التوازن بين العقل والعاطفة، العالم والإنسان، التقنية والحياة. إنه تحذير فلسفي من مستقبل قد ينتصر فيه العلم على حساب الذي أنشأه: الإنسان نفسه.

تحليل نقدي لهذه الاراء

تمثل معظم النقاط السابقه آراء شخصية دون تقديم أدلة قوية، مع استخدام مصطلحات غامضه دون تحديد معناها بدقه مثل؛ انحدار الثقافة في مستوياتها الروحية، إنقاذ الثقافة عبر العودة إلى الحياة الداخلية حيث يسكن المعنى، وغيره من التعبيرات المماثله.

لا يوجد اعتراض على انتقادات هنري ميشيل لوسائل الإعلام وتأكيده على أنها ليست محايدة، بل هي أدوات لإعادة تشكيل المفاهيم. ومع ذلك، فيما يتعلق بموقفه من التعليم، لم يتطرق إلى الأفكار التربوية الحديثة التي تشجع التفكير النقدي، والفضول العلمي، وحب التعلم مدى الحياة، وقبول التنوع، وإعداد الطلاب لخدمة المجتمع ومواجهة تحديات الحياة.

تكمن المشكلة الأساسية في آراء ميشيل هنري الاخري في التفكير الافتراضي المتشابك مع الثقافة الدينية، والاعتقاد الراسخ في صحة التجربة الروحية الذاتية دون أي محاولة للتشكيك فيها أو استكشاف التفسيرات العلمية الحديثة للوعي، وكيفيه اتخاذ القرارات، وأن المخ هو مركز تكوين جميع الافكار، ولا يوجد افكار باطنيه او الهامات من مصادر خارجيه٠

توفي ميشيل هنري قبل ظهور التطورات الحديثه التي كشفت اسرار وظائف المخ وفسرت سلوك الانسان ومعتقداته ومشاعره وتفاعله مع العالم الخارجي٠ وهنري مثل العديدد من الفلاسفة الفرنسيين المنتمين الي فلسفة ما بعد الحداثة التي قدمت رفض صريح للمنهج العلمي والتقليد العقلاني من خلال مطروحات تعتمد علي النسبية المعرفية، ودون تقديم افكار جديده لإعادة البناء الثقافي والمعرفي٠

الخلاصه

يطرح هنري في كتابه أن الحضارة الغربية الحديثة تعيش حالة من “الهمجية” لأنها فصلت العلم عن الثقافة، والمعرفة عن الحياة الداخلية للانسان، ولم يحاول توسيع رؤيته لتشمل نماذج فكريه وثقافية متعددة٠

يُعدّ سوء استخدام العلوم والتكنولوجيا الحديثة قضية تتطلب تعاونًا بنّاءً بين العلماء وخبراء علم الاجتماع وعلم الأخلاق، إلى جانب القانونيين والسياسيين، لوضع مبادئ توجيهية وقوانين تحمي الإنسانية من أي انحرافات في استخدام العلوم الحديثة.

في الختام يجب ادراك ان العلم هو القوة الدافعة لتقدم البشرية والحفاظ على البيئة وحمايتها من اخطاء البشر، ولا توجد طريقة أخرى في تاريخ البشريه تقترب من كفاءه المنهج العلمي٠

يجب ان لا نضع حدودا لاحلامنا، ما هو مستحيل حاليا سيصبح في دائرة الإمكان عاجلا ام اجلا من خلال التمسك بالمنهج العلمي.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

 

في المثقف اليوم