قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسّعة لقصيدة "الجزائر.. سؤال الصمود"

للشاعرة ناديا نواصر «وراقة الجزائر»

تندرج قصيدة «الجزائر.. سؤال الصمود» ضمن الشعر الوطني الذي يتجاوز المباشرة الخطابية إلى بناء رؤية شعرية كثيفة، تمزج بين الذاتي والجماعي، بين الجرح والتاريخ، وبين الوطن بوصفه مكانًا والوطن بوصفه كينونة وجودية. لا تقف الشاعرة عند حدود الإنشاد الوطني التقليدي، بل تعيد صياغة العلاقة مع الجزائر باعتبارها سؤالًا مفتوحًا لا إجابة جاهزة له إلا في صلابة الشعب واستمرارية المعنى.

أولًا: الأسس اللغوية والبلاغية

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب:

تتسم لغة القصيدة بسلامة نحوية واضحة، مع اعتماد التركيب الحر القريب من قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر المموسقة. الجمل قصيرة غالبًا، مشحونة بالدلالة، تعتمد الفعل المضارع (غنِّ، تقوم، تمشي، نتنفس) بما يعزز الإحساس بالاستمرارية والحضور.

الانزياح اللغوي يظهر في نقل المفردات من مجالها التداولي إلى مجالها الرمزي، مثل:

«في رئةٍ شربت من غبار المعارك»

«وطني طالعٌ من مجرّات روحي»

وهي صور تخلخل العلاقة المألوفة بين الجسد والوطن، لتصنع اندماجًا أنطولوجيًا بينهما.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:

يتحقق التوازن بين اللفظ والمعنى بوضوح؛ فالمفردة منتقاة بعناية، لا زخرف لغوي فائض، ولا جفاف تقريري. اللغة ملائمة تمامًا للموضوع الوطني، لكنها تتجنب الشعاراتية، وتعتمد الكثافة بدل الإطناب.

تُوظَّف مفردات مثل: الصخر، الجرح، الثورة، الخبز، العلم بوصفها علامات ثقافية راسخة في المخيال الجزائري.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي

القصيدة حرة الوزن، لكنها مشبعة بموسيقى داخلية قائمة على:

التكرار: غنِّ لي – وطني – الجزائر

الجرس الصوتي: التناوب بين الحروف الصلبة (ق، ط، ص) والحروف الرخوة (ن، م، ل)

التوازي التركيبي:

نرفع الخبز بيد

والعلم بالأخرى.

هذا التوازي يولد إيقاعًا دلاليًا يوازي الإيقاع الصوتي.

ثانيًا: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص:

القصيدة مبنية على حركة تصاعدية:

من النداء الفردي (غنِّ لي يا وطني)

إلى استحضار الذاكرة الجماعية

إلى مساءلة الشعب

ثم إلى خلاصة فلسفية: الوطن سؤال والشعب جواب

لا شخصيات سردية تقليدية، بل أصوات رمزية: الشوارع، الأمهات، العمال، وهي تمثل طبقات المجتمع.

2. الرؤية الفنية:

رؤية الشاعرة للعالم قائمة على أن الوطن فعل صمود لا معطى جاهز، وأن الانتماء ممارسة يومية، لا شعارًا. ينسجم الشكل الشعري المفتوح مع مضمون الحرية والمقاومة.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي.

الدهشة لا تنبع من الصورة المفردة فقط، بل من التركيب الكلي، مثل:

«الجزائر تُنزف نشيدًا وتقوم»

وهو انزياح يزاوج بين الألم والنهضة في صورة واحدة.

ثالثًا: الأسس الفكرية والفلسفية

1. الموقف الفكري.

تطرح القصيدة أسئلة وجودية وأخلاقية:

كيف يستمر الوطن رغم الخيانة والخذلان؟

ما معنى الصمود؟

هل الوطن جغرافيا أم ذاكرة؟

2. الأفق المعرفي:

يتقاطع النص مع:

١- الفكر التحرري العربي

٢- فلسفة المقاومة

٣- تراث الشعر الوطني (مفدي زكرياء، محمود درويش)

لكن دون محاكاة مباشرة.

3. البنية العميقة (الهيرمينوطيقا)

الوطن في النص ليس موضوعًا خارجيًا، بل ذاتًا داخل الذات:

«وطني أتعبته اللغة»

هنا تُدان اللغة نفسها لعجزها عن احتواء التجربة الوطنية.

رابعًا: الأسس التاريخية والثقافية

1. سياق النص:

القصيدة مكتوبة في سياق جزائري وعربي مأزوم، حيث تتجدد أسئلة الهوية والسيادة، وتُستعاد الذاكرة الثورية بوصفها معيارًا أخلاقيًا.

2. تطور النوع الأدبي

تنتمي القصيدة إلى الشعر الوطني الحديث الذي تجاوز الإنشاد الخطابي إلى الشعر الرؤيوي.

3. الارتباط بالتراث:

يحضر التراث:

في صورة الأرض

في الرغيف

في الدعاء

وهي رموز متجذرة في الثقافة العربية.

خامسًا: الأسس النفسية

1. البنية الشعورية

النص مشبع بانفعالات:

١- الفخر

٢- القلق

٣- الحنين

٤- الاحتجاج الصامت

2. النبرة النفسية:

نبرة القصيدة تجمع بين:

١- الوجع المكبوت

٢- الإصرار

٣- الأمل الحذر

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع:

القصيدة تُعيد تعريف المجتمع بوصفه فاعلًا تاريخيًا لا مجرد ضحية.

2. الخطاب الاجتماعي:

يحضر نقد ضمني للركود والخيانة عبر تمجيد الفعل والعمل.

3. الشاعرة كفاعل اجتماعي.

تتخذ الشاعرة موقع الضمير الجمعي لا الواعظ.

سابعاً: الأسس السيميائية

1. الرموز

١- الصخر: الصلابة

٢- الجرح: الذاكرة

٣- القمر: الأمل

٤- الرغيف: الكرامة

2. الثنائيات:

١- الجرح / الثورة

٢- الليل / الفجر

٣- الخضوع / الصمود

ثامناً: الأسس المنهجية.

النص صالح للقراءة:

١- الأسلوبية

٢- السيميائية

٣- التأويلية

ويمتلك انسجامًا داخليًا يسمح بتعدد القراءات.

تاسعًا: الأسس الإنسانية والجمالية العليا

1. القيم الإنسانية:

تحتفي القصيدة بالحرية، الكرامة، العمل، الذاكرة.

2. الانفتاح التأويلي

النص لا يُغلق دلالته، بل يتركها مفتوحة أمام القارئ.

3. البعد الإنساني الشامل

رغم جزائريته الواضحة، يتجاوز النص المحلي إلى الإنساني الكوني.

خاتمة:

تنجح قصيدة «الجزائر… سؤال الصمود» في تقديم نموذج للشعر الوطني المعاصر الذي لا يكتفي بالتمجيد، بل يُفكّر الوطن، ويضعه في قلب السؤال الأخلاقي والوجودي. إنها قصيدة تُقرأ بوصفها نشيدًا، وتُحلَّل بوصفها رؤية، وتُحفظ بوصفها ذاكرة حية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..............................

الجزائر.. سؤال الصمود

إلى الجزائر،

إلى الشعب الذي تعلّم من الصخر معنى الوقوف،

وإلى عروبتنا حين تتكئ على الجراح ولا تنحني.

*

غنِّ لي يا وطني

في هضاب الصدر،

في رئةٍ شربت من غبار المعارك

وظلّت تتنفّس حرية.

*

غنِّ لي

فالجزائر لا تُقال،

الجزائر تُنزف نشيدًا

وتقوم.

*

زارني اسمك

في آخر الليل،

كان في شفتيه ملح البحر

وفي عينيه صبر الجبال.

هزّ لغتي

فخرجت الكلمات من معاجمها

عاريةً

إلا من الانتماء.

*

وطني طالعٌ من مجرّات روحي،

لا تحدّه الجهات

ولا تُطوّقه الخرائط.

وطني…

وطني أتعبته اللغة،

لأن الحروف أضيق

من اتساع دمه.

*

نابضٌ طوبه في يديي

الرغيف،

من جنى من دمي وردة،

ومن صبري سنبلة،

ومن جوعي

صلاةً للغد.

*

صادف وطني قمرًا

في عتمة الأزمنة،

فأضاء الدروب

ومشى.

*

سألتُ الشعب:

كيف لا تنكسرون؟

فقالت الشوارع:

نحن أبناء الذاكرة،

كلُّ حجرٍ هنا

مرّ على كتفه شهيد.

*

قالت الأمهات:

نخبّئ الوطن في الصدر

كما يُخبَّأ الدعاء،

ونُرضعه مع الحليب

كي لا يتيه.

*

قال العمال في الصباح:

نرفع الخبز بيد

والعلم بالأخرى،

ونمشي…

لأن الوقوف

خيانة للوقت.

*

الجزائر

ليست خارطةً تُعلّق على الجدار،

هي جرحٌ

إذا لُمِس

أنجب ثورة.

*

هي وطنٌ

كلما أثقلته السنين

استقام،

وكلما خانته الريح

صار أصلب.

*

أيها الوطن المتشامخ

لا… لا تنكسر،

أيها الشعب

لا تندثر.

*

نحن سؤالك المفتوح،

وجوابك الوحيد:

أن الشعب

إذا أراد الحياة

فلا التاريخ يخذله

ولا الجراح.

 

في المثقف اليوم