قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية للنص النثري "كنتَ نائماً تجهلُ ساعةَ يقظتكَ"

للشاعر والناثر خلدون عماد رحمة – ألمانيا

يأتي هذا النص في تخومٍ دقيقة بين النثر الشعري والرؤيا الوجودية، حيث يتقاطع الحلم مع الوعي، واليقظة مع الغياب، والذات مع الفراغ. لا يقدّم الكاتب حكاية بالمعنى السردي التقليدي، بل يبني مشهداً كينونياً تتشظّى فيه الذات داخل فضاء رمزي كثيف، تتحرك فيه اللغة بوصفها أداة كشف لا وصف، واستنطاق لا تقرير.

النص ينتمي إلى كتابة حداثية واعية بذاتها، تستثمر الانزياح، والتجريد، واللغة الرؤيوية، في مساءلة الوعي الإنساني وحدود الإدراك.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب:

النص مشغول بلغة سليمة نحوياً وصرفياً، خالية من الاضطراب أو الترهل، تقوم على جمل متوسطة الطول تُحافظ على توترٍ إيقاعي دون إنهاك القارئ.

التراكيب تتسم بالمرونة، وتتحرك بين الجملة الخبرية ذات الطابع الوصفي، والجملة الانفعالية المشحونة بالتجريد:

«كلّما أحسستَ بدغدغة الصحو قذفتكَ أيادٍ لا مرئية نحو ذروات غامضة»

هنا يظهر الانزياح الدلالي في تحويل الصحو إلى كائن ملموس له «دغدغة»، واليد إلى قوة قَدَرية غير مرئية، وهو انزياح منتج للدهشة لا اعتباطي.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير

المفردات منتقاة بعناية، تجمع بين المعجم الحسي (عينان، جسم، ظل، ضباب) والمعجم الميتافيزيقي (فراغ كلي، بصيرة، حكمة، معنى).

ثمة توازن واضح بين اللفظ والمعنى؛ فلا إسراف في الزخرفة، ولا فقر في التعبير. اللغة ملائمة تماماً لموضوع النص: التيه الوجودي وحافة الوعي.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي

النص يخلو من الوزن الخليلي، لكنه يبني موسيقى داخلية عبر:

التكرار: «رأيت، رأيتَ شيئاً ما»

التوازي التركيبي: «لا حدّ لهذا الفضاء، لا شكل ولا زمن»

الجرس الصوتي الناتج عن حروف المد والهمس (الضاد، الظاء، السين)

الإيقاع هنا نفَسيّ تأملي، يتباطأ مع الضباب، ويتكثف مع لحظة الرؤية.

ثانياً: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص:

النص يقوم على بنية رؤيوية غير خطيّة، بلا سرد حدثي ولا شخصيات متعدّدة. الشخصية الوحيدة هي الذات المخاطَبة (أنت)، وهي في الحقيقة انعكاس للأنا الكاتبة.

الزمن معطَّل، والمكان متحوّل، ما يضع النص ضمن الكتابة التأملية الوصفية ذات البعد الفلسفي.

المنهج الوصفي حاضر، لكنه ليس وصفاً سطحياً، بل وصفاً معرفياً، فيما يشتغل المنهج التحليلي ضمنياً عبر تفكيك حالات الوعي.

2. الرؤية الفنية:

رؤية الكاتب للعالم تقوم على أن:

الوعي ليس لحظة مكتملة

اليقظة ليست خلاصاً نهائياً

المعرفة تولد من الغموض لا من الوضوح

ثمة انسجام عميق بين الشكل والمضمون؛ فاللغة الملبّدة تعكس مضمون التيه، والضباب اللغوي يقابل الضباب الوجودي.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

الدهشة لا تنتج من حدث، بل من التحول الرمزي:

«كان أسوداً مائلاً إلى الكحليّ… لأنك شعرتَ ببياضٍ يسكن باطنه»

هذا الانقلاب اللوني يفتح أفقاً تأويلياً عميقاً، ويؤكد قدرة النص على تجاوز المألوف.

ثالثاً: الأسس الفكرية والفلسفية

1. الموقف الفكري للنص

النص يطرح أسئلة وجودية كبرى:

متى نفيق؟

هل الوعي ممكن دون ألم؟

هل النسيان نهاية أم ضرورة؟

إنه نص عن الوعي المعلّق بين النوم واليقظة، بين الجهل والمعرفة.

2. الأفق المعرفي

يتقاطع النص مع:

الفلسفة الوجودية (الكينونة والقلق)

التصوف (الحجاب، الباطن، الكشف)

الحداثة الأدبية (الرؤيا بدل الحكاية)

لكن دون إحالات مباشرة، بل عبر تشربٍ معرفي غير تصريحي.

3. البنية العميقة (الهيرمينوطيقا)

الضباب، العتمة، البياض، الهمس… كلها علامات تشير إلى:

المعرفة المؤجلة

الحقيقة التي تتكشف من الداخل

النسيان كمرحلة تطهير لا فقدان

رابعاً: الأسس التاريخية والثقافية

1. سياق النص

يُكتب النص من فضاء الاغتراب (ألمانيا)، ما يمنحه حسّ الانفصال الوجودي عن المكان، دون أن يتحول إلى نص شَكوى.

2. تطوّر النوع الأدبي

النص ينتمي إلى النثر الشعري العربي الحديث، متجاوزاً الخطابية، ومتماهياً مع نصوص الرؤيا عند العديد من الشعراء، دون استنساخ.

3. الارتباط بالتراث

الحجاب، العتمة، الباطن، الكشف: مفردات ذات جذور صوفية، أعيد توظيفها ضمن سياق حداثي.

خامساً: الأسس النفسية

1. البنية الشعورية

النص مشبع بـ:

١- القلق الوجودي

٢- اللذة المعرفية

٣- التوتر بين الخوف والاطمئنان

2. تحليل الشخصية:

الشخصية تعاني من انقسام داخلي: تريد المعرفة، لكنها تخشى اكتمالها.

3. النبرة النفسية

النبرة هادئة، تأملية، غير صاخبة، يغلب عليها القلق النبيل لا الصراخ.

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع:

النص لا يعالج المجتمع مباشرة، لكنه يعكس أزمة الإنسان المعاصر: فقدان المعنى وسط فرط الإدراك.

2. الخطاب الاجتماعي

ثمة نقد ضمني لعالم لا يتيح يقظة حقيقية، بل يكرّس النوم الواعي.

3. الكاتب كفاعل اجتماعي

يمارس دور المثقف التأملي لا الواعظ، ويفتح الأسئلة بدل تقديم الأجوبة.

سابعاً: الأسس السيميائية

1. الرموز

النوم: الغفلة الوجودية.

الضباب: حجاب المعرفة.

البياض في السواد: الأمل الكامن.

2. الثنائيات

١- نوم / يقظة

٢- عتمة / نور

٣- نسيان / معنى

3. النظام الرمزي

النص عالم مغلق رمزياً، لكنه مفتوح تأويلياً.

ثامناً: الأسس المنهجية

المنهج: أسلوبي – تأويلي – نفسي

الصرامة: عالية، بلا استطراد

الموضوعية: التركيز على النص لا على سيرة الكاتب.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا

1. قيم الحرية والجمال:

النص يحتفي بحرية السؤال، لا براحة الجواب.

2. الانفتاح التأويلي:

النص قابل لقراءات فلسفية، نفسية، صوفية.

3. البعد الإنساني:

يمسّ تجربة الإنسان في كل زمان: التيه، البحث، النسيان.

- خاتمة:

يُعدّ نص «كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ»  للشاعر والناثر خلدون عماد رحمة عملاً نثرياً رفيعاً، يجمع بين الوعي اللغوي، العمق الفلسفي، والاقتصاد الجمالي. إنه نص لا يُقرأ مرة واحدة، بل يُستعاد، لأن قيمته لا تكمن في ما يقول، بل في ما يفتحه من أسئلة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ

خلدون عماد رحمة - ألمانيا.

كنتَ نائماً، تجهلُ ساعةَ يقظتكَ، عيناكَ مُجهَدَتان وجسمكَ خفيف كالظلّ، لا تستطيع احتواﺀ ذاتك وأنت تعوم على محيطات فراغ كلّيّ، كلّما أحسستَ بدغدغةِ الصحو قذفتكَ أيادٍ لا مرئية نحو ذروات غامضة.

لا حدّ لهذا الفضاﺀ، لا شكل ولا زمن، كم كنتَ تحاولُ التحديق بكلّ ما أوتيتَ من كهرباﺀ الحواس والبصيرة لاكتشاف شيﺀ ما، لكنّ ضباباً كثيفاً تسلل إلى نومكَ وغطى المشاهد بحجابٍ سميك.

*

تكاثفَ الضبابُ أكثرَ، لكنكَ رأيت، رأيتَ شيئاً ما يحاول البزوغ من الخفاﺀ، لم تكُ قادراً على إدراكِ ماهيّته ومراميه، كان أسوداً مائلاً إلى الكحليّ، لمْ تخفْ منه، لأنك شعرتَ ببياضٍ يسكنُ باطنه، وسمعْتهُ يهمس من داخله مُتململًا : حجاب العتمة يتآكل من حولي.

*

متعِبةٌ هذه الرؤى التي لا تُفصحُ عن مُبتغاها، لكنها عميقة على أيّ حال، تدخِلكَ في لذّةٍ لا حدود لطاقة نشوتها، إنها لوعة جديرة باكتشافِ الحكمةِ والمعنى...

والنسيان.

 

في المثقف اليوم