دراسات وبحوث
عبد الأمير كاظم زاهد: هل أسس الفكر الشيعي نزعة أصولية؟

لا يختلف الباحثون على مختلف مدارسهم أن المحور الجوهري للتشيع هو المطالبة بحكم رشيد ومشروعية للسلطة، سواء من ذهب منهم إلى النص، أو إلى ضرورة اختيار الأفضل، أو اختيار الشخص الذي ينهض مدافعاً عن العدل والنهوض (1)، وعلى الرغم من إصرار كثير من العلماء أن أصل النشأة أصل ديني إلا أن الراجح أن الهدف السياسي والاجتماعي كان المنطلق والمبدأ ثم تحول إلى نظرية سياسية وبعد ذلك صاغه الشيعة منظومة عقائدية وفكرية، ولعل النشأة التاريخية تتراكم من (مسلسل الأحداث المؤسسة للممارسة الشيعية التي كانت ضمن هذا الأفق (2)، واعني الأفق القانوني وليس أفق القوة
ومن الممارسات التاريخية أن أصحاب الأمام علي (ع) قد مارسوا قدراً كبيراً من ضبط النفس إزاء الخلفاء الثلاثة الأوائل، وتعاونوا مع خصومهم السياسيين وتولوا لهم، ونصحوهم مع إصرارهم على أحقية وجهة نظرهم (3) وحين تتحول هذه الممارسة التاريخية الى أصول تأسيسية لها قيمة الأصول المرجعية، فأن معارضة الشيعة في أصلها معارضة سلمية وإيجابية طالما لم تمارس السلطة العدوان المفرط ضدهم (4) فهم يتعاملون مع سياسات الاقصاء والتهميش وحجب الفرص ولكنهم يقفون ضد سياسات عنف السلطة موقفا حازما تهون ازاءه التضحيات الجسام
ولعل من مسار الشيعة في ممارسة المعارضة الإيجابية ما يمكن اعتباره موضع فخر للأمة عندما يتنازل مثلا الأمام الحسن (ع) عن حقه السياسي والدستوري حفاظاً على القيمة الإنسانية، وحق الناس في بيئة تخلو من النزاعات الدموية، وهذا ما نلحظه في سيرة الأمام علي بين الحسين زين العابدين التي امتدت (61 – 95 هـ) وفي ذروة القسوة المتناهية للسلطة الأموية وهو يعالج المشكلات المتصلة بالشان العام للمجتمع بأعلى درجات الحكمة والصبر والايجابية والتدبر والنصح وإعادة بناء الذهن الإسلامي .
وقد وثقت بعض تلك السيرة الايجابية في الصحيفة السجادية وهي (مجموعة قداسات وأدعية) لها مداليلها الاجتماعية والسياسية، و في رسالة الحقوق التي هدفها تحويل الفكر السياسي إلى مدونة قانونية تقدم بوصفها معايير الحق وقواعد للعدالة (5)
ويلفت النظر أن الأمام الباقر وهو خامس أئمة الشيعة كان يرشد وهو المعارض الأبرز مع عبد الملك ابن مروان في قضية سك العملة النقدية التي كان الروم يحتكرون صناعتها، ولعدم وجود عملة يتداولها المسلمون فقد اضطروا للتعامل بها لكن تنبه الناس إلى أن فيها رسوم شركية فأمر عبد الملك باستبدالها برسوم إسلامية لكنه لم يجد من يكتشف لهم سبل سك العملة، فهدد صاحب الروم إن يكتب فيها شتماً لنبي الإسلام، ولم يجد عبد الملك حلاً للمعضلة عند جهازه الإداري فلجأ للأمام الباقر فخطط له طريق سك الدراهم والدنانير الإسلامية ووضع له النقوش والأوزان و تعطي هذه الواقعة صورة واضحة لمدى إيجابية الشيعة في التعامل الإيجابي حتى مع مخالفيهم عقيدة وفكراً وممارسة ويشير المؤرخون إلى رسائل كثيرة كانت بين الباقر (ع) وبين عمر بن عبد العزيز مة بالنصح والرشد لان ابن عبد العزيز بدأ مشروعا تصحيحيا ومثله في علاقة الإمام الصادق (ع) بالمتغيرات السياسية في فترة انتهاء حكم الأمويين ومجيء العباسيين، فقد آثر أن تعتقد قوى المعارضة الشيعية أن الأولوية للمعارضة الفكرية على المعارضة السياسية وقد رفض ما عرض عليه أبو سلمه الخلال من تولى الخلافة (6) .وهكذا من يتعرف على سيرة ائمة الشيعة وخواصهم يجد أخلاقيات العمل السياسي التي لا تقبل أصلاً التوصل إلى أهدافها بالعنف والتعصب وفرض أنموذج القهر الاجتماعي .
وبعد زمن الأئمة كما يقول فرانسو توال في كتابه الجغرافية السياسية للشيعة (أن التشيع مذهب الأقلية المضطهدة والمحاصرة اجتماعياً ومع ذلك بلور التشيع رؤية مبدئية للتاريخ ولمستقبل البشرية بانتظار المصلح العادل الآمر الذي جعل هذا المذهب حركة سلمية مستمرة .(7) ويرى أن المهدوية فكرة دينية تتطلع الى مصير ممتاز للعالم وتتحدث عن العدالة التي ينشدها جميع البشر وعن الحق الذي يجب أن يسود العالم وعن فلسفة علمية للتاريخ ولم ترتبط قضية المهدي عند الشيعة بمفهوم الخطيئة أنما ارتبطت بالتطلع لإقامة الحكم العادل الرشيد دون ممارسة متعصبة أو فرض الرؤية المذهبية بالعنف ولو على سبيل التمهيد لدولة المهدي، وهكذا ظلت عقيدة المهدي عند الشيعة مانعة لهم من اعتماد العنف والتوسع بالنفوذ والهيمنة على (المتاحات الجيوسياسية الضعيفة) ولعل تاريخ دول الشيعة وسلوكهم السياسي والمذهبي (البويهيون، الحمدانيون، الفاطميون) يعد تاريخاً نظيفاً من النزعة التطهيرية للأخر (8) رغم أن هذه الدول ليست بالضرورة ملتزمة تماما بفكر الشيعة الأمامية، فالادارسة زيديون مثلا، وطبرستان زيديون، والبويهيون بدأوا زييدين ثم صاروا أمامية، والدولة الفاطمية مذهبها أسماعيلي لقد صار من المتفق عليه أن السلوك السياسي في هذه الممارسات الشيعية (كدول) لم يكن سلوكاً أقصائياً إلا في استثناءات قليلة يمكن معرفة أسبابها وظروفها .
أن نشأة التشيع لم تشبه نشأة اتجاهات أخرى اعتمدت على مبدأ القوة، وفرض الأمر الواقع، فلم تكن نشأة الشيعة كنشأة الخوارج، ولم تكن نشأتهم نشاة إقصائية كما هو حال تيار الحنابلة، إنما كانت حركة سياسية عقائدية تهدف الى (دولة عادلة وحاكم ملهم هو الأعدل والأعلم) وتتبنى سلوك إيجابي مع الخصوم و المخالفين ما لم يصل التنافس إلى صدّام دموي استئصالي كالذي حصل في كربلاء (61هـ) اومع زيد الشهيد في (123) وقبله مع التوابين (65هـ) .
التراث الشيعي المبكر وصلته بالأصولية الدينية
من ينشغل بمتابعة ومسح التراث الفكري الشيعي المبكر يجد مصادر هذه الدراسة مضطربة غاية الاضطراب فهناك المصادر (الرسمية التي دونتها الدولة التاريخية للمسلمين وهم يقاومون وجود التشيع ويجد المتتبع اهتمام كبير لدى مدوني الشيعة ولجوئهم إلى لغة التبجيل والتعظيم والغلو أحياناً كما يجد عند المستشرقين في الغالب اعتمادهم على النوع الأول من المصادر كما يلاحظ أن مؤلفي الشيعة لم يكتبوا تاريخ الشيعة والتشيع كتابة كافية وربما يعزى ذلك لانشغالهم بإثباتات (مرتكزهم الأساس: هو مبحث الإمامة ) فمن عصور (أصحاب الأئمة) كما ينقل النجاشي نجد أن أهم موضوع أنشغلو به أثبات الإمامة، وتابعهم على ذلك كتاّب عصر الغيبة المبكر كالمفيد والمرتضى في كتابه الشافي (9)وهكذا نجد هذا الأمر عند الطبري الشيعي (10) والطبرسي بالاحتجاج (11) ليصل الأمر للعلامة الحلي في كتابه الإلفين (12) وشرح التجريد ولعل هذا الهم مستمرا حتى الوقت الحاضر إذ نجد دلائل الصدق للمظفر (13) يتناول مبحث الإمامة بشيء بالغ من الاهتمام وإذا تقصينا هذا التراث المدون (فيما لم يتعرض بشكل مركّز إلى الإمامة )، فنجد كتاب المحاسن للبرقي يتناول فقه الوفاق ويعلل الأحكام ويركّز على الآداب الاجتماعية ويتوسع في توصيف السلوك السلمي للأئمة . (14)
ويمارس مؤلفو الشيعة الكتابة عن الفرق والمقالات ولكنهم لا يكتبون ما تطفح من سطوره الكراهية فأي مقارنة بين كتب الملطي أو أبن حزم مع كتاب النوبختي تظهر لك الفروق جليه، أو أية مقارنة بين كتاب الشهرستاني (الملل والنحل) وبين كتاب سعد بن عبد الله الأشعري (ت130) (المقالات والفرق) لاسيما وقد ذكر الباحثون أنه أقرب مدون إلى عصر الأئمة . (15)
يقابله مثلاً محمد أبن أحمد الملطي (ت377) الذي كتب كتاب (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) وقد صدر مطبوعاً ومحققاً 1950م، وبمتابعته تجده يعول على الآثار الضعيفة ويسلك مسلك التعصب المغالى به فلقد حكم على الفرق الأخرى بالضلالة والكفر (16) ومثله عبد القاهر البغدادي في كتابه (أصول الدين)، بينما لا نجد في التراث الشيعي المبكر نصوصاً باعثه على الإلغاء والإقصاء والكراهية والعنف والتكفير والتفسيق كما نجده في مدونات المدرسة السلجوقية النظامية مثل فضائح الباطنية للغزالي الذي ألفه استجابة للمستظهر العباسي (487هـ) وفيه يكفر الغزالي كل من يراهم باطنين ومثله قواصم الباطنية وحجة الحق وتهافت الفلاسفة وكتاب غياث الأمم للجويني يقول الصلابي أن مضمون الكتاب الرد على المخالفين للسنة وعلى الأخص الشيعة (17)
وبالمقارنة: لا نجد (دار العلم) الذي أنشأها أبو نصر سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة (416هـ) في الكرخ سنة (383هـ) والتي أوقف لها كتباً كثيرة بلغت عشرة ألاف وأربعمائة مجلد وعهد بإدارتها إلى نقيب الطالبيين أنها داراً أقيمت لمكافحة فكر وإقصاء مذهب وتكفير جماعه، وأنها كانت حاضنة لكل الآراء والمذاهب (18) وينقل لنا التاريخ أن مجلس الشيخ المفيد (مرجع الشيعة آنذاك ت 413 هـ) كان مجلساً يضم مختلف أهل العلم (19) ولمجرد أن جاء السلاجقة (447هـ) أحرقوا المكتبات والمدارس ومحو الذاكرة وأهدروا التراث وشردوا العلماء إلى أقاصي البلاد (20) ولم يحدثنا التاريخ أن (الأزهر) الذي أسسه الاسماعيليون كان مؤسسة مذهبية أو كان الغرض منه أنتاج معرفة أقصائية وفكر واحدي الرؤية .لقد استمرت المدارس النظامية على منهجها التكفيري حتى 817 هـ أي قرابة أربعة قرون، ولك أن تقدر نوع مخرجاتها من رجال الدين والمؤلفات، والذين أشتغلوا موظفين في البلدان مثل القضاء والحسبة .
يقول الصلابي: لقد تخرج من هذه المدارس جيل تحققت على يديه معظم الأهداف التي رسمها نظام الملك (21) ويكمل: بأن أبرز آثارها تقلص نفوذ الفكر الشيعي (22)، ويذكر أن المدرسة النظامية مهدت بتراثها لنور الدين زنكي والأيوبيين (23) .وعلى الرغم مما حصل في بغداد من إقصاء كان الشيخ الطوسي الشيعي يكتب مجمع البيان بخطابات الاعتدال والوسطية والمهنية العالية، ونجد بعده العلامة الحلي وهو يدخل في الفكر الشيعي ما صح من إنتاج معرفي لدى السنة . وهذا للمنصف عرض موضوعي للايجابية الشيعية المجانبة للعنف واقصاء وشيطنة الاخر المذهبي وهذه دعوة للمراجعة والتامل وإعادة تشكيل المواقف بموضوعية
***
ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد
.........................
(1) النوبختي: فرق الشيعة ص 44، الشهرستاني: الملل والنحل 1/144 .
(2) برنارد لويس: فرقة الحشاسين ص 32 .
(3) أحمد صبحي: نظرية الإمامة .
(4) إبراهيم بيضون: التوابون .
(5) ظ تذكرة الخواص / 291، المفيد: الإرشاد / 231
(6) أبن الطقطقي: الآداب السلطانية / 111 .
(7) فرانسو توال: الجغرافية السياسية ص 79 .
(8) محمد جواد مغنية: دول الشيعة ص 29 .
(9)
(10)
(11)
(12)
(13)
(14)
(15) الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة /25 .
(16) السبكي: طبقات الشافعية 2/58 .
(17) محمد علي الصلابي: دولة السلاجقة 395 .
(18) م . ن: المدارس النظامية في عهد السلاجقة / 17 .
(19) صاحب محمد حسين نصار: الشيخ المفيد ص 112 .
(20) حسن الحكيم: الشيخ الطوسي / 210 .
(21) محمد علي الصلابي: دور المدارس النظامية ص 27 .
(22) م .ن ص /28 .
(23) م . ن ص / 28 .