دراسات وبحوث
خليل الحمداني: فخ التوافقية الجميل

كيف حوّل الاقتصاد الريعي وصفة السلام الأوروبية إلى هندسة للكارثة في العراق.
المقدمة
1. تمهيد: مفارقة الوصفة والسم
- في تاريخ الأفكار السياسية، ثمة وصفات تُصمم لتكون ترياقًا شافيًا، لكنها في تربة مختلفة، تتحول إلى سمّ زعاف. ولعل "الديمقراطية التوافقية" (C-ns-ciati-nalism) هي التجسيد الأكثر دراماتيكية لهذه المفارقة. لقد كانت هذه الهندسة السياسية هي الوصفة التي شُفيت بها جراح أوروبا المجتمعية العميقة؛ ففي سويسرا وبلجيكا وهولندا، نجحت في لجم الصراعات اللغوية والدينية، وصاغت عقدًا اجتماعيًا ضمن التعايش وحفظ الاستقرار لعقود طويلة (ليبهارت، 1996، ص 45). كانت تبدو وكأنها الحل السحري للمجتمعات المنقسمة، وعدًا بإمكانية بناء ديمقراطية مستقرة حتى في أشد الظروف انقسامًا.
- ولكن، عندما استُعيرت هذه الوصفة وزُرعت في تربة الشرق الأوسط، وتحديدًا في العراق بعد عام 2003، انقلب الوعد إلى نقيضه. فبدلاً من أن تكون أداة لإدارة التنوع، تحولت إلى آلية لترسيخ الانقسام؛ وبدلاً من أن تبني السلام، أصبحت محركًا للجمود السياسي ومصنعًا للزبائنية ومنصة للفساد المنهجي الذي يصعب اقتلاعه. لقد أصبحت التوافقية في العراق مرادفًا لنظام "المحاصصة"، تلك الكلمة التي تختزل قصة دولة تتقاسمها النخب الطائفية والإثنية كغنيمة حرب، بينما يقف مواطنوها على هامش العملية السياسية والاقتصادية (جبار، 2009، ص 112). فما الذي حدث؟ كيف يمكن للحل أن يصبح هو المشكلة؟
2. إشكالية البحث: فك شيفرة التحول السام
- لا تكمن إشكالية هذه الدراسة في مجرد المقارنة السطحية بين نجاح هنا وفشل هناك، بل في فك شيفرة هذا التحول السام. إنها تسعى إلى الغوص أعمق من التحليلات السياسية التقليدية التي تتوقف عند سلوك النخب أو التدخلات الخارجية. السؤال المحوري الذي يحرك هذا البحث هو: كيف ولماذا تتحول الديمقراطية التوافقية، كنظام سياسي وهيكل قانوني (بنية فوقية)، من آلية لإدارة التنوع إلى أداة لترسيخ الانقسامات وتغذية الزبائنية والفساد، عندما يتم تطبيقها في سياق دولة ريعية يعتمد اقتصادها بشكل شبه كلي على تصدير الموارد الطبيعية (بنية تحتية)؟
3. أسئلة البحث الفرعية:
- للإجابة على هذه الإشكالية المحورية، تطرح الدراسة الأسئلة التالية:
أ) ما هي الشروط المادية التاريخية والبنى الاقتصادية-الاجتماعية التي شكلت الحاضنة لنجاح النموذج التوافقي في نماذجه الأوروبية الكلاسيكية؟
ب) كيف أعاد الاقتصاد الريعي العراقي، القائم على هيمنة النفط، تعريف وتوجيه وظيفة ومخرجات النظام التوافقي بعيدًا عن أهدافه المعلنة؟
ج) ما هي طبيعة العلاقة العضوية والديناميكية بين نظام المحاصصة (كتطبيق للتوافقية) وشبكات الزبائنية والفساد البنيوي في العراق ما بعد 2003؟
د) إلى أي مدى يقدم منهج المادية التاريخية، بإطاره التحليلي القائم على جدلية البنية التحتية والفوقية، تفسيرًا أكثر جذرية وعمقًا لهذا الاختلاف الصارخ في النتائج بين النموذج الأوروبي والعراقي؟
4. فرضية الدراسة: صراع البُنى لا الأفكار
- تنطلق هذه الدراسة من فرضية مركزية مفادها أن الانهيار الوظيفي للنموذج التوافقي في العراق ليس كامنًا في جينات النظرية ذاتها، ولا هو نتاج مؤامرة سياسية أو خصوصية ثقافية، بل هو النتيجة الحتمية لتصادم بنية سياسية فوقية (التوافقية) مع بنية اقتصادية تحتية (الريعية) متناقضة معها جذريًا. تفترض الدراسة أن الدولة الريعية، بطبيعتها كموزع للثروة لا كجامع للضرائب، تحوّل منطق "تقاسم السلطة" إلى منطق "تقاسم الريع". وفي هذا السياق، تصبح المحاصصة هي الآلية المثلى لتنظيم الصراع بين النخب على الموارد، وتتحول الزبائنية الطائفية من ممارسة شاذة إلى آلية العمل الأساسية والمنطقية للنظام بأكمله (البيبلاوي، 1990، ص 78).
5. منهجية البحث: المقارنة التاريخية والتحليل المادي
- لإثبات هذه الفرضية، تعتمد الدراسة على منهجية مزدوجة:
أ) المنهج المقارن: من خلال إجراء مقارنة منهجية بين الحالات الأوروبية الناجحة (سويسرا/بلجيكا)، التي قامت على اقتصادات إنتاجية، والحالة العراقية كنموذج للدولة الريعية المنقسمة.
ب) المنهج التحليلي-التاريخي (المادية التاريخية): باستخدام الإطار المفاهيمي للمادية التاريخية لتحليل كيف أن "أسلوب الإنتاج" أو الطبيعة الاقتصادية للدولة (البنية التحتية) لا تحدد شكل النظام السياسي (البنية الفوقية) فحسب، بل تحدد وظيفته الحقيقية ومخرجاته العملية، بغض النظر عن نوايا مصمميه.
6. أهمية الدراسة: نحو فهم بنيوي للأزمة
- تستمد هذه الدراسة أهميتها من محاولتها تجاوز التفسيرات الشائعة لأزمة الحكم في العراق، والتي غالبًا ما تركز على عوامل طائفية أو ثقافية أو سياسية معزولة. إنها تقدم تفسيرًا بنيويًا يربط أزمة السياسة بجذورها في بنية الاقتصاد. ففهم كيف أن الفساد والزبائنية والمحاصصة ليست مجرد "أعراض" لمرض يمكن علاجها بإصلاحات جزئية، بل هي "مكونات أساسية" لمنطق عمل النظام الريعي-التوافقي، هو المدخل الوحيد لأي تفكير جدي في إمكانية الخروج من الأزمة، وهو ما تؤكده تقارير دولية عديدة حذرت من أن الفساد في العراق أصبح "بنيوياً" (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2021، ص 34).
7. هيكل الدراسة:
- للإجابة على أسئلة البحث والتحقق من فرضيته، تم تقسيم الدراسة إلى أربعة فصول. يبدأ الفصل الأول بوضع الإطار النظري عبر استعراض مفاهيم الديمقراطية التوافقية، والدولة الريعية، والزبائنية، والمادية التاريخية. ثم ينتقل الفصل الثاني لتحليل النموذج الأوروبي، مبرزًا العلاقة بين اقتصاده الإنتاجي ونجاحه التوافقي. أما الفصل الثالث، فيقوم بتشريح الحالة العراقية، موضحًا كيف أدت البنية الريعية إلى اختطاف النظام التوافقي وتحويله إلى نظام محاصصة زبائني. وأخيرًا، يقدم الفصل الرابع تحليلاً مقارنًا شاملاً ويناقش النتائج، قبل أن تختتم الدراسة بخلاصة شاملة وتوصيات وآفاق مستقبلية.
قائمة المصادر الأولية
- البيبلاوي، حازم. الدولة الريعية. الكويت: سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1990.
- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP). تقرير التنمية البشرية في العراق: تحديات الحكم الرشيد في مرحلة ما بعد الصراع. نيويورك: الأمم المتحدة، 2021.
- جبار، فالح عبد. الدولة والمجتمع المدني في العراق: ديالكتيك الانتقال. بيروت: دار الساقي، 2009.
- ليبهارت، آرنت. الديمقراطية في المجتمعات التعددية: دراسة مقارنة. ترجمة حسني زينة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996.
الفصل الأول: الإطار النظري والمفاهيمي
مدخل: تشريح الأدوات وكشف المنطق الخفي
- قبل الغوص في دراسة الحالة العراقية ومقارنتها بنظيرتها الأوروبية، لا بد من تفكيك الأدوات النظرية التي سنستخدمها في عملية التشريح هذه. فهذا الفصل لا يهدف إلى مجرد عرض تعاريف أكاديمية جافة، بل يسعى إلى بناء ترسانة مفاهيمية تكشف عن المنطق الخفي الذي يحكم مسارات الأنظمة السياسية. سنستعرض هنا أربعة مفاهيم رئيسية: الأول هو "الديمقراطية التوافقية"، تلك الهندسة السياسية التي صُممت كحل. والثاني هو "الدولة الريعية"، أي البيئة الاقتصادية التي أعادت تشكيل هذا الحل. والثالث هو "الزبائنية والمحاصصة"، وهما الآليات العملية التي نتجت عن هذا التفاعل. وأخيرًا، "المادية التاريخية"، وهي العدسة التحليلية التي ستسمح لنا برؤية العلاقة السببية بين كل هذه العناصر.
1. الديمقراطية التوافقية (الكونسوتيشنالية): العقد السحري ونقاط ضعفه:لقد وُلدت الديمقراطية التوافقية من رحم الصراعات الأوروبية، كبديل عن ديمقراطية الأغلبية الكلاسيكية التي أثبتت أنها قد تكون وصفة للحرب الأهلية في المجتمعات المنقسمة عموديًا. إنها ليست مجرد نظام حكم، بل هي فلسفة سياسية تقوم على فكرة أن السلام في مجتمع متعدد لا يمكن أن يتحقق عبر انتصار فئة على أخرى، بل عبر إشراك الجميع في السلطة.
أ) الجذور والأصول: عبقرية ليبهارت في تحويل الواقع إلى نظرية: لم يخترع عالم السياسة الهولندي آرنت ليبهارت التوافقية من فراغ، بل استخلصها من تجارب واقعية لدول مثل سويسرا وبلجيكا التي حيرت المنظرين بنجاحها في الحفاظ على ديمقراطيتها واستقرارها رغم انقساماتها اللغوية والدينية الحادة. لقد قام ليبهارت بتشريح هذه "الحالات الشاذة" وحدد أربعة أركان أساسية اعتبرها سر نجاحها، وهي:
- حكومة الائتلاف الكبير (Grand C-aliti-n): حيث تشارك نخب جميع المكونات المجتمعية الرئيسية في السلطة التنفيذية، مما يضمن عدم تهميش أي طرف.
- حق النقض المتبادل (Mutual Vet-): منح الأقليات القدرة على حماية مصالحها الحيوية عبر امتلاك حق الاعتراض على القرارات التي تهدد وجودها.
- التمثيل النسبي (Pr-p-rti-nality): توزيع المناصب في مؤسسات الدولة والوظائف العامة والموارد بشكل يتناسب مع الحجم السكاني لكل مكون.
- الحكم الذاتي القطاعي (Segmental Aut-n-my): إعطاء كل مكون الحق في إدارة شؤونه الخاصة، خاصة في المجالات الثقافية والتعليمية (ليبهارت، 1996، ص 55-60).
ب) الأهداف المعلنة: البحث عن الاستقرار بأي ثمن: كان الهدف الأسمى الذي سعى إليه ليبهارت هو تحقيق الاستقرار السياسي وتجنب العنف. فالديمقراطية التوافقية، في جوهرها، هي مقايضة تاريخية: يتم التنازل عن جزء من الفعالية الديمقراطية التنافسية مقابل ضمان الأمن والتعايش. إنها تهدف إلى تمثيل كل صوت، وحماية كل أقلية، وتحويل الصراع من الشارع إلى طاولة المفاوضات الحكومية المغلقة.
ج) الانتقادات: شياطين التفاصيل: ولكن، خلف هذه الواجهة المثالية الهادفة إلى السلام، كانت تختبئ شياطين التفاصيل التي حذر منها العديد من النقاد. فهذا النموذج، حتى في بيئته الأوروبية، يحمل في طياته بذور مشاكله الخاصة، وأبرزها:
- الجمود السياسي (Gridl-ck): إن حق النقض المتبادل، رغم أهميته لحماية الأقليات، يمكن أن يتحول بسهولة إلى أداة للابتزاز السياسي والشلل الحكومي، حيث يصبح اتخاذ أي قرار مصيري شبه مستحيل.
- تجميد الهويات (Freezing Identities): عبر مأسسة الانقسامات الطائفية والإثنية في صلب الدستور والنظام السياسي، تقوم التوافقية بترسيخ هذه الهويات وتجميدها، مما يعيق تطور هوية وطنية جامعة وعابرة للطوائف (H-r-witz, 1985, p. 570).
- إضعاف الديمقراطية والمساءلة: تخلق حكومات الائتلاف الكبير نظامًا لا توجد فيه معارضة حقيقية، مما يضعف آليات المساءلة الشعبية ويجعل من محاسبة السياسيين أمرًا صعبًا، فالجميع مشارك في السلطة والجميع مسؤول عن الفشل.
2. نظرية الدولة الريعية: حينما تصبح الدولة "أبًا" غنيًا لا شريكًا: إذا كانت التوافقية هي "البرنامج" السياسي، فإن طبيعة اقتصاد الدولة هي "نظام التشغيل" الذي سيحدد كيفية عمل هذا البرنامج. وهنا يكمن جوهر الإشكالية. فالدولة في أوروبا التي طبقت التوافقية هي دولة إنتاجية، أما الدولة في العراق فهي دولة ريعية، والفرق بينهما هو الفرق بين عالمين.
أ) التعريف والخصائص: منطق الموزع لا منطق المنتج: الدولة الريعية، كما عرفها حازم البيبلاوي، هي الدولة التي تعتمد بشكل أساسي على ريع خارجي المصدر (كالنفط أو المساعدات الخارجية) يشكل نسبة كبيرة من دخلها، بدلاً من الاعتماد على الضرائب المفروضة على مجتمع منتج. هذا الريع لا يتولد عن نشاط اقتصادي داخلي متنوع، بل يتدفق مباشرة إلى خزائن الدولة التي تتولى بعد ذلك توزيعه (البيبلاوي، 1990، ص 72). هذا يقلب العلاقة الكلاسيكية بين الدولة والمجتمع رأسًا على عقب؛ فبدلاً من شعار "لا ضرائب بدون تمثيل"، يصبح الشعار غير المعلن هو "الولاء مقابل التوزيع".
ب) تأثيراتها السياسية والاجتماعية: أمراض الثروة السهلة: هذه البنية الاقتصادية الفريدة تنتج سلسلة من "الأمراض" السياسية والاجتماعية المترابطة:
- غياب المساءلة: عندما لا تحتاج الدولة إلى أموال مواطنيها لتمويل نفسها، تضعف حاجتها إلى رضاهم أو مساءلتهم. تصبح الحكومة مسؤولة أمام الأسواق العالمية للنفط أكثر من مسؤوليتها أمام برلمانها وشعبها.
- تضخم الجهاز البيروقراطي: تتحول الدولة إلى الموظِّف الأكبر في البلاد، حيث تستخدم الوظائف العامة كأداة لشراء الولاء السياسي وتوزيع الريع على أكبر عدد ممكن من المواطنين، بغض النظر عن الحاجة الفعلية أو الكفاءة.
- تشجيع الزبائنية: يصبح الولاء الشخصي والوساطة والانتماء (العشائري أو الطائفي) هو المعيار الأساسي للحصول على حصة من الريع (وظيفة، عقد، خدمة)، وليس المواطنة أو الكفاءة. الدولة هنا لا تتعامل مع "مواطنين" بل مع "زبائن" و"أتباع" (الخفاجي، 2004، ص 15).
3. الزبائنية (Clientelism) والمحاصصة: زواج التوافقية بالريعية /ماذا يحدث عندما يتم تركيب "برنامج" الديمقراطية التوافقية على "نظام تشغيل" الدولة الريعية؟ النتيجة هي ولادة مسخ هجين: نظام المحاصصة الطائفية، الذي تعمل الزبائنية كشريان حياة له.
4. تعريف المفاهيم والعلاقة المتبادلة: الزبائنية هي علاقة غير متكافئة بين "راعٍ" (زعيم سياسي) يملك نفاذًا إلى موارد الدولة، و"زبون" (مواطن) يقدم الولاء والدعم السياسي مقابل الحصول على جزء من هذه الموارد. أما المحاصصة، فهي النسخة العراقية المشوهة لمبدأ "التمثيل النسبي" التوافقي. إنها ليست مجرد توزيع للمناصب، بل هي تقسيم منهجي لكامل جهاز الدولة ومواردها بين الكتل السياسية الطائفية والإثنية، حيث تعتبر كل كتلة الوزارات والمؤسسات التي تسيطر عليها إقطاعية خاصة بها.
5. المحاصصة كتعبير عملي عن التوافقية في سياق ريعي: في الدولة الإنتاجية، يعني التمثيل النسبي التوافقي "تقاسم سلطة اتخاذ القرار". أما في الدولة الريعية، فقد تحول معناه ليصبح "تقاسم سلطة توزيع الريع". هنا، لم تعد الوزارة موقعًا لإنتاج السياسات العامة، بل أصبحت مصدرًا للعقود والوظائف التي يوزعها الوزير (الراعي) على أتباعه (الزبائن) لضمان ولائهم. وبهذا، تصبح المحاصصة هي الإطار الرسمي الذي ينظم هذه العملية، والزبائنية هي الممارسة اليومية التي تملأ هذا الإطار بالحياة (جبار، 2009، ص 125).
6. المادية التاريخية كإطار تحليلي: النظر إلى ما تحت السطح: لفهم هذه العلاقة العضوية بين الاقتصاد والسياسة، نحتاج إلى عدسة تحليلية قادرة على كشف الروابط السببية العميقة، وهنا يأتي دور المادية التاريخية كمنهج تحليلي.
أ) شرح مبسط للمفهوم:
تقوم المادية التاريخية، على فكرة بسيطة لكنها قوية: إن البنية الاقتصادية للمجتمع، أو ما يسمى بـ "البنية التحتية" (علاقات الإنتاج وأسلوبه)، هي الأساس الذي تقوم عليه "البنية الفوقية" (الدولة، القانون، السياسة، الأيديولوجيا). هذا لا يعني أن السياسة مجرد انعكاس سلبي للاقتصاد، بل يعني أن طبيعة الاقتصاد تفرض حدودًا وتخلق إمكانيات محددة للشكل الذي يمكن أن تتخذه السياسة ووظيفتها الحقيقية.
ب) تكييف المنهج: من نمط الإنتاج إلى نمط التوزيع
في هذه الدراسة، سنقوم بتكييف هذا المنهج ليتناسب مع حالتنا. فـ "نمط الإنتاج" في الدولة الريعية ليس هو الرأسمالية الصناعية الكلاسيكية، بل هو "نمط استخراج وتوزيع الريع". وبناءً على ذلك، فإن نظام المحاصصة التوافقي في العراق ليس مجرد خيار سياسي سيء، بل هو البنية الفوقية السياسية "المنطقية" والمتوافقة مع بنية تحتية اقتصادية ريعية. إنه الشكل الأمثل الذي يسمح للنخب المتصارعة بتنظيم عملية السيطرة على مصدر الثروة الوحيد (النفط) وتوزيعه. الأيديولوجيا الطائفية هنا ليست سبب الصراع، بل هي الأداة التي تستخدمها هذه النخب في البنية الفوقية لتبرير أحقيتها في حصة أكبر من الريع.
- بهذه العدة المفاهيمية، نكون قد أسسنا الإطار اللازم للانتقال من التنظير إلى التحليل التطبيقي في الفصول القادمة، مسلحين بفهم أعمق للعلاقة الجدلية بين شكل النظام السياسي وطبيعة اقتصاده.
قائمة المصادر الأولية (أسلوب شيكاغو)
- البيبلاوي، حازم. الدولة الريعية. الكويت: سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1990.
- جبار، فالح عبد. الدولة والمجتمع المدني في العراق: ديالكتيك الانتقال. بيروت: دار الساقي، 2009.
- الخفاجي، عصام. دولة الريع والديمقراطية المتعثرة في العراق. في العراق: دولة، مجتمع، واحتلال، تحرير حيدر سعيد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004.
- ليبهارت، آرنت. الديمقراطية في المجتمعات التعددية: دراسة مقارنة. ترجمة حسني زينة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996.
- H-r-witz, D-nald L. Ethnic Gr-ups in C-nflict. Berkeley: University -f Calif-rnia Press, 1985.
الفصل الثاني: النموذج الأوروبي: التوافقية كبنية فوقية لاقتصاد إنتاجي
مدخل: عندما يكون التوافق ضرورة بقاء لا صفقة غنائم
- لفهم السقوط المدوي للنموذج التوافقي في العراق، يجب علينا أولاً أن نفهم قصة صعوده في أوروبا. فهنا، لم تكن التوافقية حلاً هندسياً تم استيراده أو فرضه، ولم تكن صفقة لتقاسم كعكة جاهزة. لقد كانت تسوية مؤلمة وبطيئة، نبتت بشكل عضوي من تربة مزقتها الحروب، وسقتها دماء الصراعات، ونضجت تحت ضغط ضرورة البقاء الاقتصادي. إنها قصة مجتمعات أدركت بعد قرون من العنف أن التعايش ليس خياراً أخلاقياً فحسب، بل هو شرط أساسي للإنتاج والازدهار.
1. السياق التاريخي للنشأة: تطور عضوي من رحم الصراع
- على عكس العراق، حيث وُلد النظام السياسي من رحم الاحتلال وفي خضم فراغ السلطة بعد 2003، فإن التوافقية الأوروبية هي ابنة شرعية لتاريخ طويل من التفاوض والتسويات التاريخية. لقد تعلمت النخب الأوروبية فن التسوية بالطريقة الصعبة، عبر مسارين رئيسيين من الصراع كادا أن يمزقا مجتمعاتها:
أ) صدمة الحروب الدينية: تركت حروب الإصلاح الديني في أوروبا ندوبًا عميقة في الذاكرة الجماعية، وأثبتت أن محاولة فرض هوية دينية واحدة بالقوة هو مشروع انتحاري يدمر الجميع. وكانت "صلح وستفاليا" (1648) اللحظة التاريخية التي أقرت فيها أوروبا مبدأ التعايش كضرورة عملية لبقاء الدولة ذاتها (Gr-ss, 1948, p. 28). هذا الدرس التاريخي شكل اللاوعي السياسي الذي سهّل قبول فكرة تقاسم السلطة لاحقًا.
ب) تحدي الصراعات اللغوية والثقافية: مع صعود الدولة القومية في القرن التاسع عشر، برز تحدي إدارة الأقليات اللغوية. ففي دول مثل سويسرا وبلجيكا، أدركت النخب أن فرض لغة أو ثقافة واحدة سيؤدي حتمًا إلى تفكك الدولة. فكان الحل هو الاعتراف بالتعددية وتحويلها من مصدر ضعف إلى عنصر في بنية الدولة، عبر الفيدرالية والحكم الذاتي.
- هذا التطور التدريجي يعني أن التوافقية لم تكن "هدية" من الخارج، بل كانت "عقدًا اجتماعيًا" داخليًا، صاغته نخب تملك شرعية تاريخية وتفهم تمامًا أن بديل التوافق هو الفوضى والخراب الاقتصادي.
2. دراسات الحالة: التوافقية كحارس للاقتصادات المنتجة
- لإظهار كيف تفرض البنية التحتية الاقتصادية منطقها على البنية الفوقية السياسية، سنستعرض نموذجين: سويسرا، كالمختبر المثالي للتوافقية الهادئة، وبلجيكا، كالمثال الصاخب على "التوافقية تحت الضغط".
أ) تعتبر سويسرا النموذج الأنقى، حيث نجاحها لا يكمن في سحر صيغتها السياسية، بل في توافق هذه الصيغة مع بنيتها التحتية الاقتصادية الصلبة.
- البنية التحتية الاقتصادية: دولة "فقيرة" أُجبرت على الإبداع:
مفتاح فهم سويسرا هو أنها دولة لا تملك موارد طبيعية تذكر. هذا "الفقر" كان المحفز لبناء اقتصاد إنتاجي متنوع وعالي التنافسية (صناعات دوائية، خدمات مصرفية). هذا الاقتصاد القائم على الضرائب يخلق رابط مساءلة عضويًا: دافعو الضرائب يطالبون بخدمات فعالة وحكم رشيد مقابل أموالهم، والدولة مجبرة على توفير بيئة مستقرة ومشجعة للاقتصاد لضمان تدفق الإيرادات (Steinberg, 2017, p. 115).
- البنية الفوقية السياسية: التوافقية كأداة لحماية "المصنع السويسري":
هذه البنية الاقتصادية فرضت شكل ووظيفة النظام السياسي. لم يكن تقاسم السلطة ترفًا، بل ضرورة اقتصادية. أدركت النخب أن أي صراع داخلي سيؤدي إلى هروب رؤوس الأموال وتدمير "العلامة التجارية السويسرية". لذلك، كان الحافز للتفاوض والتسوية قويًا للغاية، لأن الجميع سيخسر من انهيار النظام. ورغم التمثيل النسبي، تظل الكفاءة معيارًا مهمًا، فلا يمكن لاقتصاد معقد أن يُدار بمنطق المحاصصة المطلقة. كل هذا عزز هوية وطنية جامعة قائمة على المصالح المادية المشتركة.
ب) إذا كانت سويسرا تمثل التوافق الهادئ، فبلجيكا تمثل التوافق الصاخب والمضطرب، وهي بذلك تقدم دليلاً أقوى على فرضيتنا. فهنا، لم تمنع الانقسامات الحادة والأزمات الحكومية الطويلة النظام من البقاء، والسبب يكمن مرة أخرى في طبيعة بنيته الاقتصادية.
- البنية التحتية الاقتصادية: اقتصاد متنافس لكنه منتج:
تاريخيًا، كانت بلجيكا قوة صناعية كبرى، مع تمركز الفحم والصلب في منطقة والونيا الناطقة بالفرنسية. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، انقلبت الآية: تدهورت الصناعات التقليدية في والونيا، بينما شهدت منطقة فلاندرز الناطقة بالهولندية ازدهارًا اقتصاديًا هائلاً، معتمدة على التكنولوجيا المتقدمة وميناء أنتويرب الضخم. هذا التباين الاقتصادي الحاد بين المنطقتين لم يؤدِ إلى السلام، بل أجج الصراع السياسي واللغوي (Desch-uwer, 2012, p. 88).
ولكن، وعلى الرغم من هذا الصراع الداخلي، يظل الاقتصاد البلجيكي في مجمله اقتصادًا إنتاجيًا وتصديريًا ومعقدًا، يعتمد بشكل كلي على الضرائب من الشركات والأفراد. الدولة هنا، مثل سويسرا، مجبرة على خدمة هذا الاقتصاد لضمان بقائها.
- البنية الفوقية السياسية: الفيدرالية كحل اضطراري لحماية المصالح الاقتصادية:
لم تولد بلجيكا توافقية، بل تحولت إليها قسرًا. لقد انتقلت عبر إصلاحات دستورية متتالية ومؤلمة من دولة مركزية إلى دولة فيدرالية شديدة التعقيد، في محاولة يائسة لمنع تفكك البلاد. وهذا التحول كان محكومًا بالمنطق الاقتصادي:
1. استحالة الطلاق الاقتصادي: أدركت نخب المنطقتين أنه على الرغم من الخلافات، فإن "الطلاق" سيكون كارثة اقتصادية للجميع. فمدينة بروكسل، العاصمة ثنائية اللغة التي تضم مقرات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، تمثل ثروة اقتصادية هائلة لا يمكن تقسيمها. كما أن الدين العام الضخم للدولة يجعل من عملية الانفصال كابوسًا ماليًا (Fitzmaurice, 1996, p. 205).
2. التسوية كآلية لتجنب الانهيار: غالبًا ما تمر بلجيكا بفترات طويلة دون حكومة بسبب الخلافات بين الأحزاب الفلمنكية والوالونية. ولكن في النهاية، يتم التوصل إلى تسوية. لماذا؟ لأن استمرار الشلل يهدد بتخفيض التصنيف الائتماني للبلاد، ويهدد بيئة الأعمال، ويعرض المصالح الاقتصادية الحيوية للخطر. الضغط من عالم الأعمال والاتحاد الأوروبي يجبر السياسيين على العودة إلى طاولة المفاوضات.
3. الحكم الذاتي كصمام أمان: سمح النظام الفيدرالي لكل منطقة بإدارة اقتصادها وتعليمها وثقافتها بشكل مستقل، مما خفف من حدة الصراع. لكن هذا الحكم الذاتي يظل في إطار دولة واحدة تضمن حرية حركة السلع ورؤوس الأموال، وتحافظ على السوق المشتركة التي يستفيد منها الجميع.
خلاصة: توافقية الحماية لا توافقية التقاسم
- في ختام هذا التحليل، سواء نظرنا إلى النموذج السويسري الهادئ أو البلجيكي الصاخب، نصل إلى نتيجة حاسمة: لقد نجح النموذج الأوروبي التوافقي لأنه كان حلاً سياسيًا (بنية فوقية) نشأ عضويًا، أو تم التوصل إليه قسرًا، لخدمة وحماية وتطوير اقتصاد منتج ومجتمع قائم على الضرائب (بنية تحتية). لقد كانت "توافقية حماية"، هدفها حماية الكيان المنتج من صدمات الانقسام الداخلي، حتى لو كان ذلك عبر تسويات معقدة ومستمرة. لم تكن أبدًا "توافقية تقاسم غنائم"، وهو ما سنراه بوضوح مأساوي عند انتقالنا لتحليل الحالة العراقية، حيث تم استيراد الشكل السياسي دون قاعدته الاقتصادية، ليتحول إلى أداة لتقسيم ثروة لم يشارك المجتمع في إنتاجها.
قائمة المصادر الأولية (أسلوب شيكاغو)
- Desch-uwer, Kris. The P-litics -f Belgium: A Unique Federalism. Basingst-ke: Palgrave Macmillan, 2012.
- Fitzmaurice, J-hn. The P-litics -f Belgium: A Federal State in the Making. L-nd-n: C. Hurst & C-. Publishers, 1996.
- Gr-ss, Le-. "The Peace -f Westphalia, 1648–1948." The American J-urnal -f Internati-nal Law 42, n-. 1 (January 1948): 20–41.
- Steinberg, J-nathan. Why Switzerland? 4th ed. Cambridge: Cambridge University Press, 2017.
الفصل الثالث: النموذج العراقي: التوافقية كبنية فوقية لاقتصاد ريعي
مدخل: وصفة النجاح الأوروبي تتحول إلى هندسة للكارثة
- إذا كان الفصل السابق قد استعرض النموذج التوافقي في بيئته الأوروبية الأصلية كتحفة سياسية نتجت عن تطور تاريخي بطيء، فإننا هنا أمام مسرح مختلف تمامًا. في العراق، لم تكن التوافقية نتاج تسوية داخلية أو تطور عضوي، بل كانت أشبه بعملية زرع عضو غريب في جسد منهك، تمت على عجل في غرفة عمليات ميدانية وتحت إشراف جراحين أجانب. لقد تم استيراد "شكل" النظام الأوروبي، لكن في غياب روحه وشروطه الموضوعية، ليتحول من وصفة للتعايش إلى هندسة لتقنين الانقسام وتوزيع الغنائم. هنا، سندرس كيف وُلد هذا "المسخ" السياسي وكيف يتغذى على ريع النفط ليبقى حيًا.
1. السياق التاريخي للنشأة: ولادة قيصرية في ظل الاحتلال
لا يمكن فهم النظام العراقي ما بعد 2003 دون فهم ظروف ولادته القيصرية والمشوهة. لقد نشأ هذا النظام تحت ثلاثة ظلال قاتمة حددت ملامحه إلى الأبد:
- فراغ الدولة وانهيارها: أدى الغزو الأمريكي إلى حل الدولة العراقية ومؤسساتها (الجيش، الأجهزة الأمنية، الحزب الحاكم)، مما خلق فراغًا هائلاً لم يملأه بناء مؤسساتي وطني، بل هرعت لملئه قوى سياسية معارضة عادت من المنفى، وأحزاب دينية، وميليشيات، وزعامات محلية، لكل منها أجندته الخاصة وارتباطاته الخارجية.
- الهندسة السياسية من الخارج: لم يُترك العراقيون ليصوغوا عقدهم الاجتماعي بأنفسهم. لقد تمت هندسة العملية السياسية الأولية من قبل سلطة الاحتلال، وتحديدًا عبر الحاكم المدني بول بريمر ومجلس الحكم الذي أسسه. هذا المجلس، الذي تم تشكيله على أساس المحاصصة الطائفية والإثنية (13 شيعيًا، 5 سنة، 5 أكراد، 1 تركماني، 1 مسيحي)، كان هو النواة التي كرست منطق المحاصصة كقاعدة عرفية للنظام الجديد قبل حتى أن يُكتب الدستور (Dawisha, 2009, p. 245).
- صعود "أمراء الطوائف": في غياب مؤسسات الدولة الوطنية، برزت طبقة سياسية جديدة من "أمراء الطوائف". هؤلاء الزعماء لم يستمدوا شرعيتهم من برنامج وطني عابر للهويات، بل من قدرتهم على تمثيل وحماية طائفتهم أو قوميتهم في خضم صراع الهويات والفوضى الأمنية. لقد أصبحوا وكلاء لمكوناتهم، ومهمتهم الأساسية هي انتزاع أكبر حصة ممكنة من السلطة والثروة لصالح هذه المكونات.
2. تحليل البنية التحتية: العراق كدولة ريعية نموذجية
- لفهم لماذا تحولت التوافقية إلى محاصصة، يجب أن ننظر تحت السجادة السياسية مباشرةً إلى الأساس الذي بُني عليه كل شيء: الاقتصاد الريعي. فالعراق ليس مجرد دولة نفطية، بل هو النموذج الأكثر تطرفًا للدولة الريعية.
أ) هيمنة النفط المطلقة: يشكل النفط ما يقرب من 99% من صادرات العراق وأكثر من 90% من إيرادات الموازنة العامة للدولة (البنك الدولي، 2022، ص 4). هذه الحقيقة ليست مجرد رقم اقتصادي، بل هي المحدد الرئيسي لطبيعة السلطة والسياسة في البلاد. فالدولة هنا لا تعيش على ضرائب مواطنيها، بل تعيش على تدفقات مالية خارجية هائلة، مما يجعلها كيانًا شبه مستقل عن مجتمعها المنتج.
ب) علاقة الدولة بالمجتمع: منطق "الأب الموزع"
هذه البنية الريعية تخلق علاقة أبوية مشوهة بين الدولة والمجتمع. الدولة ليست شريكًا للمواطن في عقد اجتماعي قائم على الحقوق والواجبات، بل هي "الأب" أو "الراعي" الذي يملك مصدر الرزق الوحيد ويتفضل بتوزيعه. والمواطن، في المقابل، يتحول من صاحب حق إلى متلقٍ للعطايا، ومصيره يرتبط بقدرته على الوصول إلى "صنبور" الريع. وفي نظام المحاصصة، فإن "أمير الطائفة" هو من يمسك بهذا الصنبور، مما يجبر المواطن على إعلان الولاء له لضمان حصته (الخفاجي، 2004، ص 21).
3. تحليل البنية الفوقية: نظام المحاصصة كتحوير سرطاني للتوافقية
- على هذه الأرضية الريعية، تم زرع مبادئ ليبهارت التوافقية الأربعة، فماذا كانت النتيجة؟ لم تكن نموًا سليمًا، بل كانت تحورًا سرطانيًا شوّه كل مبدأ وحوّله إلى نقيضه.
أ) من حكومة الائتلاف الكبير إلى حكومة تقاسم "الغنائم":
الهدف من الائتلاف الكبير في أوروبا هو صنع السياسات بتوافق وطني. أما في العراق، فقد أصبح الهدف هو تقاسم الوزارات كـ"غنائم" (Sp-ils). كل حزب يعتبر الوزارة التي يحصل عليها إقطاعية خاصة، يستخدمها لتوظيف أتباعه وتمرير العقود لشبكاته، مع اهتمام ضئيل بالخدمة العامة أو السياسة الوطنية.
ب) من التمثيل النسبي إلى "المحاصصة" الحسابية:
تحول مبدأ التمثيل النسبي النبيل إلى عملية حسابية بشعة لتقسيم كل شيء: الوظائف (من درجة وكيل وزير إلى أبسط موظف)، المناصب، العقود، وحتى البعثات الدراسية. لم يعد الأمر يتعلق بتمثيل الأصوات، بل بتقسيم الكعكة الريعية. هذا المنطق، كما يصفه فالح عبد الجبار، هو "جوهر نظام المحاصصة الذي يفتت الدولة ويحولها إلى مجموعة من الإقطاعيات الحزبية-الطائفية" (جبار، 2009، ص 130).
ج) من حق النقض المتبادل إلى أداة للابتزاز والتعطيل:
لم يُستخدم الفيتو في العراق لحماية مصالح حيوية للأقليات، بل كسلاح تستخدمه الكتل الكبيرة لتعطيل تشكيل الحكومات أو إقرار القوانين والموازنات، بهدف ابتزاز الشركاء للحصول على حصة أكبر من المناصب والموارد. لقد تحول من صمام أمان إلى قنبلة موقوتة داخل النظام.
د) من الحكم الذاتي إلى بوابات الانعزال والصراع:
بدلاً من أن يكون الحكم الذاتي (كما في إقليم كردستان) نموذجًا للتعايش ضمن دولة اتحادية، أصبح مصدرًا دائمًا للصراع حول تقاسم الموارد الفيدرالية، خاصة النفط والميزانية. لقد عزز الانعزال بدلاً من التكامل، وحوّل العلاقة بين المركز والإقليم من شراكة إلى صراع دائم على الريع.
4. آليات العمل: الزبائنية والفساد كوقود للنظام
- إذا كان الهيكل هو المحاصصة، فإن الزبائنية والفساد هما الوقود والزيت الذي يجعله يعمل.
أ) شبكات الزبائنية: الدورة الدموية للنظام:
النظام لا يعمل عبر مؤسسات الدولة الرسمية، بل عبر شبكات زبائنية غير مرئية. النائب أو الوزير هو "الراعي" الذي يقدم الوظائف والعقود والخدمات لأبناء طائفته أو منطقته أو حزبه. هؤلاء "الزبائن" يردون الجميل بالولاء السياسي والتصويت في الانتخابات. هذه هي الدورة الدموية التي تبقي النخبة السياسية في السلطة وتضمن إعادة إنتاج النظام نفسه.
ب) الفساد ليس خللاً بل منطق عمل:
في هذا السياق، يصبح الفساد ليس مجرد انحراف أو خلل يمكن إصلاحه، بل هو جزء لا يتجزأ من منطق عمل النظام. إنه الآلية التي يتم من خلالها تحويل الريع العام إلى موارد خاصة لتمويل الأحزاب السياسية، وشراء الولاءات، وإثراء النخب. وبدون الفساد، ينهار نظام الزبائنية بأكمله، وتفقد الأحزاب قدرتها على حشد الأتباع. لقد أصبح الفساد، كما تشير تقارير الأمم المتحدة، "بنيويًا ומمنهجًا" في العراق، فهو ليس مجرد أفراد فاسدين، بل نظام بأكمله مصمم لتسهيل الفساد (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2021، ص 45).
- وهكذا، نرى أن ما تم بناؤه في العراق ليس ديمقراطية توافقية، بل هو "ريعوقراطية المحاصصة" (Rentier-Muhasasa-cracy)، نظام هجين ومشوه يرتدي قناع التوافقية ليخفي وظيفته الحقيقية: إدارة الصراع بين النخب على الثروة النفطية، على حساب بناء الدولة وتلبية احتياجات المواطنين.
قائمة المصادر الأولية (أسلوب شيكاغو)
- البنك الدولي. المرصد الاقتصادي للعراق: استغلال الرياح المواتية لتعزيز التحول الأخضر. واشنطن العاصمة: مجموعة البنك الدولي، 2022.
- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP). تقرير التنمية البشرية في العراق: تحديات الحكم الرشيد في مرحلة ما بعد الصراع. نيويورك: الأمم المتحدة، 2021.
- جبار، فالح عبد. الدولة والمجتمع المدني في العراق: ديالكتيك الانتقال. بيروت: دار الساقي، 2009.
- الخفاجي، عصام. دولة الريع والديمقراطية المتعثرة في العراق. في العراق: دولة، مجتمع، واحتلال، تحرير حيدر سعيد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004.
- Dawisha, Adeed. Iraq: A P-litical Hist-ry fr-m Independence t- -ccupati-n. Princet-n, NJ: Princet-n University Press, 2009.
الفصل الرابع: تحليل مقارن ومناقشة النتائج
مدخل: مرآة الحقيقة المرة
- بعد أن قمنا بتشريح كل نموذج على حدة، حان الوقت الآن لوضعهما وجهًا لوجه أمام مرآة الحقيقة المقارنة. في هذا الفصل، سنقوم بتجميع خيوط التحليل السابقة لننسج منها حجة متماسكة تثبت فرضيتنا المركزية. سنرى بالأبيض والأسود كيف أن نفس "الهيكل" السياسي يمكن أن ينتج مخرجات متناقضة تمامًا عندما يوضع على أسس اقتصادية مختلفة. لن تكون هذه المقارنة مجرد تمرين أكاديمي، بل هي عملية كشف للسبب الجذري الذي حوّل "وصفة السلام" الأوروبية إلى "هندسة الكارثة" العراقية.
1. جدول المقارنة: عالمان في نظام واحد
- لتوضيح الفجوة الهائلة بين التجربتين، يمكن تلخيص أوجه الاختلاف الرئيسية في الجدول التالي الذي يكثف الفوارق البنيوية بين النموذجين:
المتغير النموذج الأوروبي (سويسرا/بلجيكا) النموذج العراقي
سياق النشأة تطور عضوي وتدريجي من رحم تسويات تاريخية داخلية طويلة. فرض قيصري وسريع في سياق احتلال وانهيار الدولة.
البنية التحتية الاقتصادية اقتصاد إنتاجي متنوع (صناعة، خدمات)، قائم على الضرائب. اقتصاد ريعي أحادي، يعتمد بشكل شبه كلي على النفط.
طبيعة النخب السياسية نخب مفاوضة، تسعى للتسوية للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي العام. نخب متنافسة على الريع (أمراء طوائف)، شرعيتها من توزيع الغنائم.
علاقة الدولة بالمجتمع عقد اجتماعي: المواطن دافع ضرائب يطالب بالتمثيل والمساءلة. علاقة أبوية/زبائنية: المواطن متلقٍ للريع يقدم الولاء مقابل الحصة.
وظيفة التوافقية حماية الاقتصاد المنتج من صدمات الانقسام (توافقية الحماية). تقسيم كعكة الريع بين النخب (توافقية التقاسم/المحاصصة).
مخرجات النظام استقرار سياسي (نسبي)، كفاءة (نسبية)، هوية وطنية جامعة. جمود سياسي، فساد بنيوي، زبائنية، تفتيت الهوية الوطنية.
- هذا الجدول ليس مجرد قائمة بالفروقات، بل هو شهادة دامغة على أن "الاسم" (الديمقراطية التوافقية) قد يكون واحدًا، لكن "المضمون" و"الوظيفة" يختلفان كليًا باختلاف الأساس الذي يقومان عليه.
2. مناقشة الفرضية: البنية التحتية هي التي تهم
- الآن، وبناءً على هذه المقارنة الصارخة، يمكننا العودة إلى فرضيتنا المركزية وإثباتها. لقد افترضنا أن فشل النموذج التوافقي في العراق ليس نابعًا من عيوب في النظرية ذاتها، بل هو النتيجة الحتمية لتطبيقه فوق بنية تحتية اقتصادية ريعية. والأدلة التي سقناها تدعم هذه الفرضية بشكل قاطع:
- لقد رأينا أن الشروط التي سمحت بنجاح التوافقية في أوروبا غائبة تمامًا في العراق. ففي أوروبا، كان الاقتصاد الإنتاجي هو "البنية التحتية" التي فرضت على النخب السياسية (البنية الفوقية) ضرورة التعاون والتسوية. كان الحفاظ على الاستقرار شرطًا لاستمرار تدفق الضرائب ونمو الاقتصاد الذي يستفيد منه الجميع. كان هناك "شيء ما" يستحق الحماية، وهو النظام الاقتصادي المنتج.
- أما في العراق، فإن البنية التحتية الريعية فعلت العكس تمامًا. لقد خلقت "غنيمة" هائلة (عائدات النفط) تسيطر عليها الدولة، مما حوّل السياسة من فن إدارة المجتمع إلى صراع وحشي للسيطرة على جهاز الدولة بهدف نهب هذه الغنيمة. في هذا السياق، لم تعد التوافقية أداة للحماية، بل أصبحت أفضل آلية ممكنة لتنظيم عملية النهب هذه بشكل "سلمي" بين اللصوص. لقد تحولت من آلية لتقاسم "السلطة" إلى آلية لتقاسم "الثروة المنهوبة".
- إذًا، المتغير الحاسم الذي يفسر كل شيء هو طبيعة البنية التحتية الاقتصادية. إنها "المتغير المستقل" الذي يحدد مصير "المتغير التابع" (النظام السياسي). فالدولة الريعية، بحكم طبيعتها، تنتج بالضرورة سياسة زبائنية وفسادًا بنيويًا، وأي هيكل سياسي يوضع فوقها، سواء كان ديمقراطيًا توافقيًا أو غيره، سيتم "اختطافه" وتكييفه ليخدم هذه الوظيفة الأساسية: توزيع الريع وشراء الولاءات.
3. التوافقية والأيديولوجيا: الطائفية كستار دخان للصراع على الموارد
- وهنا نصل إلى النقطة الأكثر حساسية في تحليلنا، وهي دور الأيديولوجيا. من منظور المادية التاريخية، الأيديولوجيا (كجزء من البنية الفوقية) ليست هي المحرك الأول للتاريخ، بل هي غالبًا الأداة التي تستخدمها الطبقات أو النخب الحاكمة لتبرير مصالحها المادية وحشد الدعم لها. وهذا بالضبط ما يحدث في العراق.
- إن الخطاب الطائفي والإثني ليس هو "السبب" الحقيقي للصراع، على الرغم من جذوره التاريخية. بل هو "ستار الدخان" الأيديولوجي الذي يستخدمه "أمراء الطوائف" لإخفاء الطبيعة الحقيقية للصراع، وهو صراع مادي بحت على موارد الدولة الريعية.
- كيف تعمل الآلية؟
أ) بناء العدو: يقوم الزعيم السياسي بحشد أبناء طائفته عبر إقناعهم بأن الطوائف الأخرى تشكل تهديدًا وجوديًا لهم، وأنها تسعى للاستحواذ على حقوقهم وثرواتهم.
ب) تقديم النفس كحامٍ: يقدم الزعيم نفسه على أنه "الحامي" الوحيد لمصالح الطائفة والمدافع عنها في وجه "الأعداء".
ج) تبرير المحاصصة: بناءً على ذلك، يتم تبرير المطالبة بالوزارات والمناصب (المحاصصة) بأنها ليست سعيًا وراء السلطة أو المال، بل هي ضرورة لـ"حماية الطائفة" وضمان "حقوقها" و"تمثيلها العادل".
1. توزيع الريع كدليل على "الإنجاز": عندما ينجح الزعيم في الحصول على وزارة، يقوم بتوزيع الوظائف والعقود على أتباعه. هذا التوزيع الزبائني لا يُقدَّم كهدر للمال العام، بل كـ"إنجاز" ودليل ملموس على أن الزعيم "يخدم طائفته" ويأتي لها بحقوقها.
- بهذه الطريقة، يتم تحويل الصراع الاقتصادي النخبوي على الموارد إلى صراع هوياتي جماهيري. ويصبح المواطن البسيط وقودًا في هذه المعركة، يدافع بحماس عن "لصوص طائفته" معتقدًا أنه يدافع عن وجوده وهويته، بينما المستفيد الحقيقي هم النخب السياسية التي تزداد ثراءً ونفوذًا من استمرار هذا النظام. إنها العبقرية الشيطانية للبنية الفوقية الأيديولوجية في خدمة البنية التحتية الريعية.
الخاتمة
1. خلاصة النتائج: تشريح الفشل
- في نهاية هذا المسار التحليلي المقارن، توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج المترابطة التي تشكل في مجملها تشريحًا لأسباب فشل نموذج الديمقراطية التوافقية في العراق. ويمكن إيجاز هذه النتائج في النقاط التالية:
- أولاً: إن الديمقراطية التوافقية ليست وصفة سياسية سحرية صالحة لكل زمان ومكان. لقد أثبت نجاحها في سياقاتها الأوروبية (سويسرا، بلجيكا) أنها كانت بنية فوقية سياسية متوافقة مع بنية تحتية اقتصادية إنتاجية قائمة على الضرائب. لقد كانت "توافقية حماية" هدفها ضمان الاستقرار الضروري لاستمرار عجلة الإنتاج التي يستفيد منها الجميع.
- ثانياً: عند زرع هذا النموذج في تربة الدولة الريعية العراقية، حدث تحور سرطاني. فالبنية التحتية الاقتصادية القائمة بشكل شبه كلي على ريع النفط، فرضت منطقها الخاص على النظام السياسي. لقد تحولت "توافقية الحماية" إلى "توافقية تقاسم الغنائم"، وتحولت أركانها النبيلة (الائتلاف، التمثيل النسبي، الفيتو، الحكم الذاتي) إلى مجرد قواعد لتنظيم الصراع بين النخب الطائفية على الثروة النفطية، فيما يعرف بنظام "المحاصصة".
- ثالثاً: في ظل هذا النظام الهجين (الريعي-التوافقي)، لم يعد الفساد والزبائنية مجرد انحرافات أو أعراض جانبية، بل أصبحا جزءًا لا يتجزأ من منطق عمل النظام وآليات بقائه. فالفساد هو الوسيلة لتمويل شبكات الزبائنية، والزبائنية هي الأداة لشراء الولاءات وضمان إعادة انتخاب النخب الحاكمة.
- رابعاً: إن الخطاب الطائفي والإثني، رغم جذوره التاريخية، يُستخدم اليوم كأداة أيديولوجية (بنية فوقية) لتبرير هذا الصراع المادي على الموارد وحشد الدعم الشعبي له. إنه ستار الدخان الذي يخفي حقيقة أن ما يجري ليس صراع هويات بقدر ما هو صراع "أمراء الطوائف" على حصصهم من الريع.
2. الإسهام النظري: ربط ما تم فصله
- تكمن الأصالة النظرية لهذه الدراسة في مساهمتها في ثلاثة حقول معرفية مترابطة:
أ) بالنسبة لنظرية الديمقراطية التوافقية: تقدم الدراسة تحذيرًا وتعديلاً جوهريًا على نظرية ليبهارت. فهي تثبت أن نجاح التوافقية ليس مرهونًا فقط بسلوك النخب أو التصميم المؤسسي، بل هو مرهون بشكل حاسم بطبيعة البنية الاقتصادية للدولة. إنها تدعو إلى إضافة "شرط اقتصادي" أساسي لنجاح التوافقية، وهو وجود اقتصاد إنتاجي متنوع.
ب) بالنسبة لنظرية الدولة الريعية: بينما ركزت معظم دراسات الدولة الريعية على آثارها العامة (غياب الديمقراطية، تضخم البيروقراطية)، فإن هذه الدراسة تقدم تحليلًا دقيقًا لكيفية تفاعل الريعية مع نموذج سياسي محدد (التوافقية) لإنتاج "مسخ" خاص هو نظام "ريعوقراطية المحاصصة".
ج) بالنسبة للمنهج المادي التاريخي: تُظهر الدراسة مرونة وقوة هذا المنهج في تحليل الظواهر السياسية المعاصرة، عبر تكييف مفاهيمه (البنية التحتية/الفوقية) لتناسب سياق الدولة الريعية، مقدمةً تفسيرًا بنيويًا عميقًا يتجاوز التحليلات السطحية التي تركز على الأفراد أو الثقافة.
3. توصيات ومستقبل الإصلاح: الخروج من الفخ بين المطرقة التكتيكية والسندان الاستراتيجي
- إن كان التشخيص بنيويًا، فلا بد أن يكون العلاج بنيويًا كذلك. لكن الاعتراف بذلك لا يعني الاستسلام وانتظار معجزة اقتصادية بعيدة المنال. إن أي مسار إصلاحي جاد يجب أن يعمل على مسارين متوازيين: مسار استراتيجي طويل الأمد يستهدف تغيير البنية التحتية الاقتصادية، ومسار تكتيكي قصير الأمد يهدف إلى بناء أدوات ضغط ومساءلة شعبية من داخل النظام القائم، مهما كان مشوهًا.
أولاً: السندان الاستراتيجي (الهدف بعيد المدى)
يبقى الهدف النهائي هو كسر الحلقة المفرغة عبر تغيير البنية الاقتصادية الريعية. هذا هو "السندان" الذي يجب أن تُطرق عليه كل الإصلاحات الأخرى. ويشمل ذلك تنويع الاقتصاد، وربط المواطنة بالضرائب تدريجيًا، وتقليص هيمنة الدولة على الحياة الاقتصادية. هذا هو الطريق الوحيد لتغيير منطق عمل النظام من جذوره، لكنه طريق طويل وشاق.
ثانياً: المطرقة التكتيكية (أدوات الضغط والمفاوضة الآنية)
في انتظار أن يؤتي الإصلاح الاقتصادي ثماره، كيف يمكن للمجتمع أن يفاوض سلطة لا تحتاج إلى أمواله؟ هنا يأتي دور بناء أدوات مساءلة بديلة عن "المساءلة الضريبية"، وهي "المطرقة" التي يمكن استخدامها اليوم:
1. تفعيل الصوت الانتخابي وتحويله من أداة زبائنية إلى أداة عقابية:
صحيح أن الانتخابات في ظل المحاصصة غالبًا ما تعيد إنتاج نفس النخب، لكنها ليست عديمة الجدوى تمامًا. يمكن تحويلها إلى أداة ضغط عبر:
- دعم الحركات والتيارات العابرة للطوائف: أثبتت الاحتجاجات وجود تيار شعبي رافض للطائفية. تنظيم هذا التيار سياسيًا يمكن أن يكسر احتكار "أمراء الطوائف" للتمثيل.
- التركيز على الانتخابات المحلية: المساءلة على مستوى المحافظات والمجالس البلدية أسهل وأكثر مباشرة. يمكن لنجاح نماذج محلية نزيهة أن يخلق "جيوب مقاومة" للحكم الرشيد تتوسع تدريجيًا.
- إصلاح القانون الانتخابي: النضال من أجل قانون انتخابي يعزز من فرص المستقلين والأحزاب الصغيرة (مثل الدوائر المتعددة والصغيرة) يمكن أن يخلخل هيمنة الكتل الكبيرة.
2. المجتمع المدني والاحتجاج كبرلمان شعبي دائم:
في غياب معارضة برلمانية حقيقية، أصبحت "الساحات" والاحتجاجات هي المعارضة الفعلية. حركة تشرين، رغم قمعها، أثبتت أن الضغط الشعبي المنظم يمكن أن يجبر الحكومات على الاستقالة ويضع أجندة الإصلاح على الطاولة. دعم وتقوية منظمات المجتمع المدني والإعلام المستقل يخلق "برلمانًا شعبيًا" يراقب السلطة ويحاسبها خارج القنوات الرسمية المعطلة.
3. الخدمة العسكرية الإلزامية: سلاح ذو حدين يتطلب حذرًا شديدًا:
نظريًا، يمكن أن تكون الخدمة الإلزامية أداة قوية لبناء الهوية الوطنية، فهي "بوتقة" تصهر فيها الهويات الفرعية لصالح هوية وطنية جامعة، وتخلق رابط "ضريبة الدم" بين المواطن والدولة. ولكن، وهنا تكمن الخطورة الشديدة في السياق العراقي الحالي، فإن تطبيقها في ظل دولة ضعيفة ومؤسسة عسكرية لم تتطهر بالكامل من المحاصصة قد يأتي بنتائج عكسية كارثية. قد تتحول الخدمة الإلزامية إلى:
- رافد بشري للميليشيات: حيث يتم تدريب الشباب ثم استقطابهم من قبل فصائل مسلحة بعد انتهاء خدمتهم.
- تكريس للانقسام داخل الجيش: بدلاً من أن تكون بوتقة صهر، قد تصبح مصدرًا للاحتكاك الطائفي داخل الوحدات العسكرية.
لذلك، يمكن اعتبار إعادة الخدمة الإلزامية هدفًا مؤجلاً لا يمكن تحقيقه إلا بعد إحراز تقدم كبير في إعادة بناء مؤسسة عسكرية وطنية ومهنية بالكامل، تكون ولاءاتها للدولة العراقية وحدها.
الخلاصة:
إن الخروج من الفخ العراقي ليس مسألة وصفة واحدة، بل هو عملية "حرب خنادق" طويلة ومعقدة. تتطلب استخدام كل الأدوات المتاحة، مهما كانت محدودة. يجب على القوى الإصلاحية أن تطرق بـالمطرقة التكتيكية (الانتخابات، الاحتجاج، الإعلام الحر) على سندان الهدف الاستراتيجي (الإصلاح الاقتصادي). فبدون ضغط شعبي منظم اليوم، لن تبدأ رحلة الإصلاح الاقتصادي الطويلة أبدًا. وبدون رؤية اقتصادية للمستقبل، سيظل الضغط الشعبي مجرد صرخة في وادٍ، سرعان ما تتلاشى.
إن فهم "المصيبة العراقية" ليس شأنًا عراقيًا فحسب، بل هو درس للعالم أجمع حول خطورة الهندسة السياسية التي تتجاهل الحقائق الاقتصادية الصلبة، وحول كيف يمكن لأغنى البلدان بالموارد أن تصبح من أفقرها بالحكم الرشيد.
***
خليل إبراهيم كاظم الجمداني
باحث في مجال حقوق الانسان