دراسات وبحوث

خليل الحمداني: ظاهرة التطرف في العراق.. قراءة في الجذور البنيوية والتاريخية

أهمية دراسة التطرف في العراق مقارنة ببقية المنطقة

يُعدّ العراق حالة فريدة في مشهد التطرف العالمي، إذ تحوّل منذ بداية القرن الحادي والعشرين إلى أكثر البيئات خصوبة لنشوء وتكاثر الجماعات المسلحة ذات المرجعية الدينية. فبينما ظهرت تنظيمات كـ«القاعدة» و«داعش» في دول مختلفة، فإن العراق شكّل الحاضنة الأوسع لها، ووفّر مسرحًا لتجاربها التنظيمية والعسكرية، حتى صار يُنظر إليه في الدراسات الأمنية والسياسية باعتباره «مختبرًا» لتطور أنماط العنف الديني والسياسي (فالح عبد الجبار، العمامة والأفندي، ص. 215، بغداد: الجمل، 2010).

وللمقارنة، فإن بلدانًا مثل الأردن أو المغرب واجهت مظاهر تطرف لكنها لم تصل إلى مستوى التجذر والانتشار الذي شهده العراق، وهو ما يجعل التجربة العراقية ذات قيمة خاصة لفهم الظاهرة في أبعادها البنيوية.

الإشكالية: لماذا يتكرس التطرف في العراق تحديدًا؟

رغم أن التطرف ليس ظاهرة عراقية خالصة، فإن السؤال المركزي يظل قائمًا: لماذا تكرّس في العراق بهذه الكثافة، في حين بقي محدودًا أو محتوى في دول أخرى؟

يتجاوز الجواب التفسيرات المبسطة التي تُرجع الظاهرة إلى «الدين» أو «الغلو العقائدي»، فالتاريخ المادي للعراق يكشف عن تضافر عوامل عدّة:

* الحروب المتكررة التي أنهكت المجتمع والدولة (من الحرب العراقية–الإيرانية حتى غزو 2003).

* الحصار الاقتصادي في التسعينيات الذي ولّد اقتصاد ظل قائمًا على الرشوة والتهريب والزبائنية (فالح عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني في العراق، ص. 332، بيروت: المركز العربي للأبحاث، 2012).

* انهيار الدولة بعد الاحتلال الأميركي، وما تبعه من فراغ أمني ومؤسساتي استغلته الجماعات المسلحة.

* التنافس الإقليمي والدولي الذي جعل من العراق ساحة لتصفية الحسابات.

أهداف ومنهجية البحث

يهدف هذا البحث إلى تفكيك البنية المنتجة للتطرف في العراق من خلال:

1. إعادة الظاهرة إلى جذورها البنيوية والتاريخية، بعيدًا عن اختزالها في بُعد ديني محض.

2. إبراز كيف ساهمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتفكك الدولة في توفير الأرضية الخصبة للجماعات المتطرفة.

3. تقديم قراءة مقارنة بين العراق ودول أخرى لم تُنتج الظاهرة بنفس المستوى، من أجل توضيح خصوصية الحالة العراقية.

منهجية البحث تستند إلى المقاربة البنيوية–التاريخية، أي الربط بين التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من جهة، وصعود الحركات المتطرفة من جهة أخرى. وستتم الاستعانة بمصادر أكاديمية عربية ومترجمة، مع الحرص على التوثيق الدقيق.

الفصل الأول: الإطار المفاهيمي والنظري

تعريف "التطرف" و"الجماعات المسلحة ذات المرجعية الدينية"

يُستعمل مصطلح "التطرف" في الأدبيات السياسية والاجتماعية لوصف أنماط من السلوك أو الفكر التي تنحرف عن الإجماع المجتمعي وتلجأ إلى العنف وسيلةً لتحقيق أهدافها. وقد عرّفه الباحث خليل العناني بأنه "نزعة فكرية وسلوكية تسعى إلى فرض رؤيتها الخاصة على المجتمع، حتى لو استدعى ذلك استخدام القوة المسلحة" (العناني، الإسلام السياسي في زمن القاعدة، ص. 47، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009).

أما "الجماعات المسلحة ذات المرجعية الدينية" فهي تنظيمات تتبنى مرجعية دينية في شرعنة فعلها السياسي–العسكري، وتضع نفسها في موقع بديل أو موازٍ لسلطة الدولة. هذه الجماعات ليست متجانسة؛ إذ منها ما هو عابر للحدود مثل تنظيم القاعدة، ومنها ما هو محلي متجذر في بنية المجتمع العراقي، لكنه يتصل بقوى إقليمية أو دولية.

مقاربات تحليل الظاهرة

1. المقاربة الاجتماعية–الاقتصادية

تركّز هذه المقاربة على أثر الفقر والبطالة والتهميش في إنتاج التطرف. إذ يرى حنا بطاطو أن "الشرائح الدنيا من المجتمع العراقي، المتروكة بلا تمثيل سياسي أو حماية اقتصادية، غالبًا ما وجدت في الخطابات المتشددة ملاذًا أو وسيلة للتعبير عن غضبها" (بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ج3، ص. 112، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1992).

هذه الرؤية توضح كيف أن انهيار سوق العمل بعد 2003 وغياب الأفق التنموي ولّد أرضية خصبة لتجنيد آلاف الشباب العاطلين ضمن جماعات مسلحة.

2. المقاربة التاريخية–المؤسساتية

تذهب هذه المقاربة إلى أن التطرف هو نتاج لضعف الدولة وانهيار مؤسساتها، أكثر من كونه مجرد رد فعل اجتماعي. فالعراق عرف تاريخيًا دورات من انهيار السلطة المركزية وصعود الفاعلين غير الدولتيين (العشائر، الميليشيات، الحركات الدينية). ويشير تشارلز تريب إلى أن "العنف السياسي في العراق ليس ظاهرة عابرة، بل جزء من البنية التاريخية للعلاقة بين الدولة والمجتمع" (تريب، تاريخ العراق الحديث، ص. 321، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007).

3. المقاربة السياسية–الأمنية

تركّز هذه المقاربة على العوامل الجيوسياسية والتدخلات الخارجية. فالغزو الأميركي 2003 لم يسقط النظام فقط، بل فتح فراغًا أمنيًا غذّى التنظيمات الجهادية. كما أن التنافس الإقليمي (السعودي–الإيراني، التركي–الإيراني) حوّل العراق إلى ساحة صراع بالوكالة، وهو ما جعل من الجماعات المسلحة أدوات لإدارة التوازنات الإقليمية. بيير–جان لويزار يصف ذلك بقوله: "العراق بعد 2003 أصبح مختبرًا لإعادة إنتاج العنف الطائفي تحت رعاية دولية وإقليمية متشابكة" (لويزار، تكوين العراق المعاصر، ص. 289، بيروت: دار الساقي، 2008).

4. المقاربة البنائية–التاريخية (النهج المعتمد في هذه الدراسة)

رغم أهمية كل مقاربة من المقاربات السابقة، فإن هذه الدراسة ستعتمد ما يمكن تسميته المقاربة البنائية–التاريخية، التي تجمع بين التحليل المادي–الاقتصادي من جهة، وتفكيك البنى الفكرية والأيديولوجية من جهة أخرى.

* هذه المقاربة ترى أن التطرف في العراق نتاج تضافر عوامل: انهيار الدولة، الاقتصاد الريعي، التهميش الاجتماعي، والهويات القاتلة التي تمت إعادة إنتاجها في فضاء سياسي هش.

* الأفكار الدينية المتشددة تُقرأ هنا بوصفها انعكاسًا للأزمات البنيوية، وليست مجرد منتجات ذهنية مستقلة.

* بهذا المعنى، يصبح التطرف جزءًا من تاريخ اجتماعي–مؤسساتي طويل، وليس طارئًا على العراق.

الفصل الثاني: الجذور التاريخية للتطرف في العراق

أولًا: الحروب كمنعطف تاريخي

شكّلت الحروب المتكررة أحد أهم المفاصل في تشكيل البيئة العراقية الحاضنة للتطرف. فالحرب العراقية–الإيرانية (1980–1988) لم تكن مجرد صراع عسكري طويل، بل أرهقت المجتمع والدولة على حد سواء؛ إذ استنزفت الموارد البشرية والاقتصادية، ودفعت النظام إلى عسكرة المجتمع والتوسع في الخطاب التعبوي الديني–القومي (عبد الحسين شعبان، الإسلام والسياسة: جدل الدين والدولة، ص. 276، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009).

ثم جاءت حرب الخليج الثانية عام 1991 لتكشف هشاشة النظام، إذ انهار البنيان الاقتصادي وتعرضت البنية التحتية لدمار واسع، وأدى ذلك إلى تعميق الشرخ الاجتماعي، خاصة بعد قمع الانتفاضة الشعبانية وما خلفته من جروح مفتوحة في النسيج المجتمعي.

ثانيًا: الحصار والعقوبات (1990–2003)

الحصار الدولي مثّل منعطفًا حاسمًا في مسار المجتمع العراقي. فقد أدى إلى تدهور الخدمات العامة وولّد اقتصاد ظل يعتمد على التهريب والرشوة والزبائنية، وهو ما هيأ لظهور شبكات اجتماعية موازية لمؤسسات الدولة الرسمية. يشير فالح عبد الجبار إلى أن العقوبات "أنتجت اقتصادًا مشوهًا قوامه السوق السوداء والولاءات الشخصية، وحولت المواطن إلى تابع لشبكات القرابة والسلطة المحلية بدلًا من الدولة" (عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني في العراق، ص. 332، بيروت: المركز العربي للأبحاث، 2012).

هذا الوضع أسس لتراجع ثقة المجتمع بمؤسسات الدولة، ومهّد الأرضية لنشوء هويات قاتلة تستند إلى الانتماء الديني أو الطائفي كبديل عن الهوية الوطنية الجامعة.

ثالثًا: الغزو الأميركي وتفكك الدولة (2003)

جاء الغزو الأميركي ليُسقط النظام السياسي، لكنه في الوقت نفسه أسقط الدولة العراقية كجهاز مؤسسي. فقد تم حلّ الجيش، وتفكيك أجهزة الأمن، وتعطيل المؤسسات، مما خلق فراغًا أمنيًا غير مسبوق. هذا الفراغ لم يملأه سوى الجماعات المسلحة التي سرعان ما انتشرت في مختلف المناطق، واستفادت من الفرص البنيوية المتاحة:

* انتشار السلاح بعد فتح مخازن الجيش.

* تفشي البطالة بين الشباب والجنود المسرّحين.

* انهيار السلطة المركزية وغياب القانون.

كما أشار تشارلز تريب: "إن انهيار الدولة بعد 2003 لم يكن مجرد لحظة انتقال، بل بداية إعادة إنتاج العنف السياسي على أسس جديدة، في ظل تدخل خارجي كثيف" (تريب، تاريخ العراق الحديث، ص. 367، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007).

رابعًا: الذاكرة التاريخية للهويات والانقسامات

لا يمكن فهم صعود التطرف في العراق دون التوقف عند التاريخ الطويل للانقسامات الهوياتية. فمنذ العهد العثماني، مرورا بالعهد الملكي، وصولًا إلى الجمهورية البعثية، ظل العراق ساحة صراع بين الطوائف والقوميات والعشائر. هذه الانقسامات لم تكن مجرد "تصنيفات اجتماعية"، بل ارتبطت بتوزيع غير عادل للثروة والسلطة.

بيير–جان لويزار يوضح أن "إشكالية الدولة العراقية الحديثة تكمن في كونها دولة فوقية لم تنجح في إذابة التناقضات الاجتماعية–الطائفية، بل غالبًا ما أعادت إنتاجها من خلال سياسات الإقصاء أو التمييز" (لويزار، تكوين العراق المعاصر، ص. 145، بيروت: دار الساقي، 2008).

هذه الخلفية التاريخية جعلت المجتمع هشًا أمام أي فراغ سياسي، وسهلت مهمة الجماعات المتطرفة في تقديم نفسها كحامٍ للهويات الفرعية.

خلاصة الفصل

من خلال استعراض هذه المراحل، يتضح أن جذور التطرف في العراق ليست وليدة "الغلو الديني" بحد ذاته، بل نتاج سياق تاريخي ممتد: الحروب التي أنهكت المجتمع، العقوبات التي دمّرت الاقتصاد، الغزو الذي فكك الدولة، والذاكرة التاريخية للانقسامات. هذا التراكم البنيوي وفّر الأرضية الخصبة لولادة جماعات متطرفة وجعل من العراق بيئة أكثر هشاشة من غيره من دول المنطقة.

الفصل الثالث: العوامل البنيوية المنتجة للتطرف

أولًا: الاقتصاد الريعي والتهميش الاجتماعي

يُعَدّ الاقتصاد العراقي نموذجًا كلاسيكيًا لـ الاقتصاد الريعي النفطي، حيث تعتمد الدولة بشكل شبه كامل على العوائد النفطية، دون أن يقابله إنتاج صناعي أو زراعي حقيقي. هذا النمط من الاقتصاد خلق علاقة زبائنية بين الدولة والمجتمع، حيث يُوزَّع الريع وفق الولاءات السياسية والطائفية بدلًا من مبادئ الكفاءة والمواطنة (عبد الجبار، العمامة والأفندي، ص. 210، بغداد: دار الجمل، 2010).

ومع انهيار أسعار النفط أو ضعف قدرة الدولة على التوزيع العادل، ترتفع معدلات البطالة والفقر، خاصة بين الشباب. تشير بيانات البنك الدولي إلى أن البطالة بين الشباب العراقيين تجاوزت 25% في بعض الفترات بعد 2003، وهو ما جعل الانضمام للجماعات المسلحة خيارًا اقتصاديًا بقدر ما هو سياسي–أيديولوجي.

بكلمات حنا بطاطو، "إن فقراء المدن والريف، حين يُسلبون الأمل في حياة أفضل، يجدون في الخطابات المتطرفة تعويضًا نفسيًا، وفي التنظيمات المسلحة فرصة مادية للبقاء" (بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، ج3، ص. 119، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1992).

ثانيًا: التفكك الاجتماعي والهوياتي

عاش العراق منذ عقود حالة من تصدّع الهوية الوطنية، حيث أضعفت السياسات الاستبدادية من تماسك المجتمع، وأعادت إنتاج الانتماءات الطائفية والعشائرية والإثنية كبدائل.

* في مرحلة ما بعد 2003، عززت المحاصصة الطائفية هذا التفكك، إذ تحولت الطائفة والقومية إلى وحدات سياسية واقتصادية تتنافس على الموارد والمناصب.

* النتيجة أن الفرد لم يعد يرى في الدولة مظلة حامية، بل بات يرى في الجماعة الفرعية (العشيرة، الطائفة) ملاذًا أو ضمانة.

كما يوضح بيير–جان لويزار: "الهوية العراقية الحديثة ظلت هوية مُتنازَعًا عليها، تعكس تراكب الانتماءات المحلية والطائفية على حساب الهوية الوطنية الجامعة" (لويزار، تكوين العراق المعاصر، ص. 202، بيروت: دار الساقي، 2008).

هذه الهشاشة الهووية جعلت من السهل على الجماعات المتطرفة أن تستثمر في خطاب "الحماية" و"الدفاع عن الجماعة"، فتكتسب شرعية اجتماعية لا تحوزها الدولة.

ثالثًا: ضعف مؤسسات الدولة وأزمة الشرعية

أحد أبرز العوامل البنيوية لصعود التطرف في العراق يتمثل في ضعف مؤسسات الدولة:

1. أزمة احتكار العنف المشروع: الدولة فقدت قدرتها على ضبط السلاح والسيطرة على أراضيها. هذا الضعف أتاح للجماعات المسلحة أن تملأ الفراغ وتفرض سلطتها محليًا.

2. تآكل الشرعية: الحكومات العراقية المتعاقبة بعد 2003 عانت من انقسام مجتمعي حاد حول مشروعيتها، سواء بسبب التدخلات الخارجية أو سياسات المحاصصة والفساد.

3. انهيار الثقة المجتمعية: المواطن العراقي لم يعد يرى في مؤسسات الدولة جهازًا محايدًا يضمن العدالة، بل كيانًا منحازًا ومخترقًا، وهو ما عزز اللجوء إلى بدائل دينية أو طائفية.

يُشير تشارلز تريب إلى أن "العنف المتكرر في العراق يعكس ضعف الدولة بقدر ما يعكس قوة الجماعات المتطرفة، فالدولة الفاشلة في ترسيخ شرعيتها تصبح بيئة طاردة لمواطنيها، وجاذبة للفاعلين غير الدولتيين" (تريب، تاريخ العراق الحديث، ص. 375، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007).

خلاصة الفصل

العوامل البنيوية المنتجة للتطرف في العراق يمكن تلخيصها في مثلث مترابط:

1. اقتصاد ريعي هشّ لا يوفر العدالة والفرص.

2. مجتمع مفكك هوياتيًا يعيش على انقسامات تاريخية متجددة.

3. دولة ضعيفة الشرعية عاجزة عن أداء وظائفها الأساسية.

هذا المثلث جعل من التطرف خيارًا متاحًا وواقعيًا لشرائح واسعة من المجتمع، وأدخل العراق في دورة عنف مستمرة يصعب كسرها بمعالجات سطحية أو أمنية فقط.

الفصل الرابع: دراسة حالات للجماعات المتطرفة

أولًا: الجماعات الجهادية السنية (من القاعدة إلى تنظيم الدولة)

ظهر التيار الجهادي السني في العراق عقب الغزو الأميركي 2003، حيث شكّل تنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين" بقيادة أبي مصعب الزرقاوي نواة أولى للتنظيمات المتشددة. اعتمد هذا التيار على خطاب ديني تعبوي يبرر المقاومة ضد الاحتلال، لكنه سرعان ما تحوّل إلى حرب طائفية مفتوحة ضد المكوّنات الأخرى.

ومع انسحاب القوات الأميركية (2011) وتفاقم الأزمة السورية، أعاد هذا التيار إنتاج نفسه عبر تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، الذي استطاع السيطرة على مساحات واسعة من البلاد عام 2014. يصف فالح عبد الجبار هذه الظاهرة بأنها "أقرب إلى ثورة اجتماعية مضادة، استغلت هشاشة الدولة وتوظيف الانقسام الطائفي" (عبد الجبار، العمامة والأفندي، ص. 229، بغداد: دار الجمل، 2010).

هذا التيار استقطب شرائح واسعة من المهمشين في المناطق السنية، لكنه انتهى إلى عزلة اجتماعية بعد أن فرض أنماط حكم قاسية على السكان المحليين.

ثانيًا: الجماعات المسلحة ذات المرجعية الشيعية

في المقابل، نشأت جماعات مسلحة شيعية كرد فعل على الاحتلال الأميركي أولًا، ثم على صعود التيار الجهادي السني لاحقًا. هذه الجماعات تباينت في بنيتها وأهدافها:

* منها ما رفع شعار "المقاومة الوطنية".

* ومنها ما ارتبط بأجندات إقليمية ذات طابع مذهبي.

امتلكت هذه الجماعات قدرة تنظيمية عالية بدعم مالي وعسكري خارجي، ما جعلها تترسخ داخل المشهد العراقي بعد 2014 ضمن ما عُرف بـ"قوات الحشد".

يشير تشارلز تريب إلى أن "صعود هذه التشكيلات لم يكن فقط استجابة لتهديد داعش، بل أيضًا انعكاسًا لضعف الدولة المركزية التي لم تتمكن من احتكار العنف المشروع" (تريب، تاريخ العراق الحديث، ص. 381، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007).

رغم دورها في مواجهة داعش، إلا أن استمرار حضورها المسلح والسياسي فتح جدلًا واسعًا حول مستقبل الدولة الوطنية العراقية.

ثالثًا: التيارات السلفية الجديدة (المدخلية نموذجًا)

برزت في العراق أيضًا تيارات سلفية ذات طابع "مدخلي"، تركّز على الطاعة للحاكم ورفض التغيير السياسي، لكنها أحيانًا ما لعبت دورًا في إعادة تشكيل المجال الديني المحلي وفقًا لارتباطات خارجية.

هذا التيار لا يتبنى خطابًا ثوريًا مسلحًا على غرار القاعدة أو داعش، لكنه يسهم في إعادة إنتاج التديّن الموجّه سياسيًا، ويُستخدم أحيانًا كأداة لمواجهة التيارات الإسلامية المنافسة.

يلاحظ عبد الحسين شعبان أن "التديّن السلفي المدخلي يقدّم نفسه بديلاً 'هادئًا'، لكنه في الواقع يعكس استقطابات سياسية إقليمية تُصدّر عبر الفضاء الديني" (شعبان، الإسلام والسياسة: جدل الدين والدولة، ص. 188، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009).

خلاصة الفصل

تُظهر دراسة الحالات أن التطرف في العراق ليس تيارًا أحادي البنية، بل هو فسيفساء من جماعات جهادية سنية، مسلحة شيعية، وتيارات سلفية جديدة. رغم اختلاف أهدافها وأدواتها، فإنها تشترك جميعًا في كونها نتاجًا:

1. لفراغ الدولة وضعف احتكارها للعنف.

2. لتوظيف الهويات الطائفية والمذهبية كأداة تعبئة.

3. للتدخلات الإقليمية التي غذّت هذه الجماعات ووفرت لها مظلة دعم.

الفصل الخامس: العراق في السياق الإقليمي والدولي

أولًا: العراق كساحة لتصفية النزاعات الإقليمية

منذ 2003 تحوّل العراق إلى ميدان مفتوح للصراعات الإقليمية، إذ تقاطعت على أرضه مشاريع متناقضة:

* المشروع الإيراني الذي سعى إلى مدّ نفوذه عبر دعم جماعات مسلحة ذات مرجعية مذهبية.

* المشروع الخليجي الذي حاول مواجهة هذا النفوذ عبر تغذية بعض التيارات السنية أو الخطابات الإعلامية المعادية.

* الدور التركي الذي ركّز على الملف الكردي والأمن الحدودي.

هذا التشابك جعل العراق ساحة لتوازنات إقليمية بدل أن يكون فاعلًا مستقلًا. وكما يلاحظ بيير–جان لويزار: "المنطقة لم تكتفِ بتصدير أزماتها إلى العراق، بل جعلت منه مختبرًا لإدارة صراعاتها على النفوذ" (لويزار، تكوين العراق المعاصر، ص. 277، بيروت: دار الساقي، 2008).

ثانيًا: التنافس الدولي وتأثيره على مسار التطرف

لم يكن التدخل الإقليمي وحده هو المحدّد لمصير العراق، بل جاء التنافس الدولي ليزيد المشهد تعقيدًا:

* الولايات المتحدة: الغزو الأميركي فتح فراغًا مؤسسيًا، وسياسات "اجتثاث البعث" وحلّ الجيش أسهمت مباشرة في ولادة الجماعات المتطرفة. لاحقًا، التدخل العسكري الأميركي ضد "داعش" (2014–2017) شكّل عنصرًا حاسمًا في هزيمة التنظيم عسكريًا، لكنه لم يقدّم حلولًا للبنية التي أنتجته.

* روسيا: عبر التدخل في سوريا، أثّرت روسيا بشكل غير مباشر على العراق، إذ دفعت الحرب السورية مقاتلين ولاجئين باتجاهه، وأعادت تشكيل موازين القوى في المنطقة.

* التحالفات الدولية: انخراط قوى أوروبية في الحرب ضد داعش منح العراق دعمًا عسكريًا، لكنه زاد من اعتماده على الخارج بدل تعزيز استقلاليته الأمنية.

تشارلز تريب يعلّق بأن "السياسات الدولية في العراق لم تنطلق من مشروع بناء دولة وطنية، بل من حسابات أمنية آنية، وهو ما جعلها عاجزة عن معالجة الجذور العميقة للتطرف" (تريب، تاريخ العراق الحديث، ص. 390، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007).

ثالثًا: العراق بين موقعه الجغرافي ودوره الجيوسياسي

يُعدّ العراق بموقعه الجغرافي بين إيران وتركيا وسوريا والخليج حلقة وصل وميدان تنافس في الوقت نفسه. فموقعه الإستراتيجي على خطوط النفط والممرات التجارية جعل منه محلّ أطماع مستمرة.

لكن هذا الموقع، بدل أن يتحول إلى ميزة جيوسياسية، صار عبئًا؛ إذ لم يستطع العراق أن يحوّله إلى قوة تفاوضية أو استقلالية سياسية. بل على العكس، تحوّل إلى "ممر إجباري" لمشاريع النفوذ، وهو ما انعكس في كثافة الجماعات المسلحة ذات الارتباط الإقليمي.

رابعًا: انعكاسات الصراع الإقليمي–الدولي على الداخل العراقي

* تعزيز الطائفية السياسية: كل تدخل خارجي غذّى انقسامًا داخليًا.

* إضعاف الدولة المركزية: التدخلات جعلت الدولة عاجزة عن احتكار العنف.

* إدامة اقتصاد الحرب: حيث صارت بعض الجماعات تستفيد من الدعم الخارجي لإدامة وجودها.

كما يشير فالح عبد الجبار: "لم يعد الصراع في العراق شأنًا داخليًا، بل صار انعكاسًا لمعادلات القوة الإقليمية والدولية التي تجد في العراق ساحة اختبار أكثر مما تجده كيانًا سياسيًا مستقلًا" (عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني في العراق، ص. 355، بيروت: المركز العربي للأبحاث، 2012).

خلاصة الفصل

يظهر من هذه القراءة أن التطرف في العراق لا يمكن عزله عن البنية الإقليمية والدولية. فالعراق لم يكن مجرد منتج لظروفه الداخلية، بل أيضًا ضحية لتقاطعات خارجية جعلت منه ساحة صراع مستمر.

هذه الوضعية ضاعفت من هشاشة الدولة، ورسخت بيئة حاضنة للجماعات المتطرفة، بحيث صار من المستحيل فهم الظاهرة بمعزل عن الدور الإقليمي–الدولي.

الفصل السادس: المقارنة الإقليمية

أولًا: خصوصية الحالة العراقية

رغم أن التطرف الديني–السياسي ليس حكرًا على العراق، إلا أن تفاقمه فيه يثير تساؤلات مقارنة: لماذا تَجَذَّر في العراق أكثر مما فعل في دول أخرى مثل الأردن أو تونس أو المغرب؟

الجواب يكمن في تراكم العوامل البنيوية: انهيار الدولة بعد الغزو الأميركي، الاقتصاد الريعي الهش، والانقسامات التاريخية–الهووية. هذه العوامل لم تجتمع بالحدة نفسها في دول أخرى، ما جعل العراق حالة متفردة.

ثانيًا: الأردن – نموذج الدولة الأمنية المستقرة

واجه الأردن تحديات التطرف منذ الثمانينيات مع صعود التيار السلفي الجهادي، لكنه لم يشهد انهيار الدولة أو تفكك مؤسساتها.

* قوة الأجهزة الأمنية، واستمرار النظام الملكي، ضمنت مستوى من الاستقرار.

* إضافة إلى وجود اقتصاد ريعي محدود يعتمد على المساعدات الخارجية، لكنه لم يصل إلى حد الانهيار الشامل كما في العراق.

كما يلاحظ محمد أبو رمان أن "التطرف في الأردن ظل هامشيًا مقارنة بالعراق، بسبب قدرة الدولة على امتصاصه عبر أدواتها الأمنية والدينية" (أبو رمان، السلفيون والربيع العربي، ص. 95، عمّان: فريدريش إيبرت، 2013).

ثالثًا: تونس – الانتقال السياسي ومحدودية الظاهرة

شهدت تونس بعد 2011 صعود تيارات سلفية، لكن طبيعة المجتمع التونسي والعلمانية النسبية للدولة حدّت من توسعها.

* التجربة الديمقراطية الناشئة خلقت مساحات للتعبير السياسي السلمي.

* البنية التعليمية والثقافية جعلت الخطاب المتشدد أقل جاذبية جماهيريًا.

* رغم وجود شبكات لتصدير المقاتلين إلى بؤر الصراع (سوريا، ليبيا)، فإن الداخل التونسي بقي أكثر استقرارًا.

يعلق عز الدين عناية بأن "التدين في تونس ظل أقرب إلى الطابع الفردي والثقافي، مما جعل محاولات التسييس الجهادي تواجه صعوبة في التجذر محليًا" (عناية، الإسلام في تونس: تاريخ ديني وسياسي، ص. 221، بيروت: دار المدار الإسلامي، 2015).

رابعًا: المغرب – الإصلاح الديني–السياسي

المغرب نجح نسبيًا في احتواء التطرف من خلال استراتيجية مزدوجة:

1. إصلاح الحقل الديني عبر مؤسسة "إمارة المؤمنين" التي احتكرت الشرعية الدينية.

2. انفتاح سياسي محدود منح الأحزاب الإسلامية مجالًا للعمل القانوني.

* النتيجة أن التيار الجهادي بقي محاصرًا على الهامش.

كما يشير محمد ضريف: "احتكار الشرعية الدينية في يد المؤسسة الملكية جعل من الصعب على الجماعات الجهادية أن تنافسها في المجال الرمزي" (ضريف، الحركات الإسلامية في المغرب، ص. 144، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2008).

خامسًا: دروس المقارنة

1. تماسك الدولة: الدول التي حافظت على مؤسسات قوية (الأردن، المغرب) نجحت في تقليص مساحة التطرف.

2. طبيعة الاقتصاد: رغم محدوديته، فإن تنوع الاقتصاد في تونس والمغرب قلّل من التهميش مقارنة بالاقتصاد العراقي الريعي.

3. الهويات الوطنية: وجود هوية وطنية أكثر رسوخًا (الأردن رغم تركيبته العشائرية، المغرب بهويته الملكية–الدينية) ساعد على مواجهة الهويات القاتلة.

خلاصة الفصل

المقارنة الإقليمية تظهر أن العراق ليس حالة منعزلة، لكنه الأكثر هشاشة بسبب اجتماع أزمات الدولة والمجتمع والاقتصاد مع التدخلات الخارجية.

بينما تمكنت دول مثل الأردن وتونس والمغرب من احتواء الظاهرة بوسائل مختلفة، فإن العراق بقي ساحة مفتوحة لتجذرها.

هذه الخصوصية تجعل من الحالة العراقية نموذجًا مهمًا لفهم كيف تؤدي الأزمات البنيوية المتراكمة إلى تحويل التطرف من ظاهرة هامشية إلى ظاهرة بنيوية.

الخاتمة والتوصيات

أولًا: الخاتمة

تكشف الدراسة أن ظاهرة التطرف في العراق ليست مجرد انحراف ديني أو غلو عقائدي، بل هي نتاج بنيوي وتاريخي لتضافر عوامل متعددة:

1. الحروب المتكررة التي أنهكت المجتمع والدولة وخلقت بيئة مأزومة.

2. الحصار والعقوبات التي دمّرت الاقتصاد وعمّقت الزبائنية.

3. تفكك الدولة بعد الغزو الأميركي 2003 وما خلفه من فراغ مؤسسي وأمني.

4. التفكك الاجتماعي–الهوياتي الذي جعل الطائفة والعشيرة والقومية بدائل عن الدولة الوطنية.

5. التدخلات الإقليمية والدولية التي حوّلت العراق إلى ساحة لتصفية النزاعات.

وعلى خلاف دول أخرى في المنطقة مثل الأردن أو تونس أو المغرب، حيث نجحت الدولة في احتواء الظاهرة، فإن العراق بقي ساحة خصبة للتطرف نتيجة اجتماع هذه العوامل جميعًا، وهو ما يجعل التطرف فيه ظاهرة بنيوية لا استثناء عابر.

ثانيًا: التوصيات

1. على المستوى الوطني

* إعادة بناء الدولة: تعزيز مؤسسات الدولة وضمان احتكارها للعنف المشروع، عبر إصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية.

* تنويع الاقتصاد: تقليص الاعتماد على الريع النفطي وتوفير فرص عمل حقيقية للشباب، بما يقطع الطريق على التجنيد في الجماعات المسلحة.

* بناء هوية وطنية جامعة: إصلاح النظام السياسي على أسس المواطنة بدل المحاصصة الطائفية، وتعزيز مناهج التعليم والإعلام لترسيخ قيم العيش المشترك.

* العدالة الانتقالية والمصالحة: معالجة إرث الماضي من خلال برامج جبر الضرر، وكشف الحقيقة، وإشراك الضحايا في العملية السياسية.

2. على المستوى الإقليمي

* تحييد العراق عن الصراعات: دعم مبادرات إقليمية لإبعاده عن كونه ساحة لتصفية النزاعات.

* التعاون الإقليمي ضد التطرف: تبادل المعلومات والخبرات بين الدول العربية لتجفيف منابع التمويل والتجنيد.

3. على المستوى الدولي

* دعم التنمية بدل التدخل العسكري: تحويل أولويات المجتمع الدولي من المعالجات الأمنية إلى الاستثمار في التنمية والإصلاح المؤسسي.

* تعزيز الشراكات مع المجتمع المدني: تمكين منظمات المجتمع المدني العراقية من لعب دور أكبر في الوقاية من التطرف ونشر ثقافة حقوق الإنسان.

ثالثًا: الرؤية الاستشرافية

إن مواجهة التطرف في العراق لا يمكن أن تتحقق عبر الحلول الأمنية وحدها، بل تتطلب تحولًا هيكليًا في الدولة والمجتمع والاقتصاد.

المعادلة الأساسية هي: دولة قوية + اقتصاد منتج + هوية وطنية جامعة = بيئة أقل خصوبة للتطرف.

وبدون ذلك، سيبقى العراق عرضة لدورات متجددة من العنف، حتى لو هُزم تنظيم متطرف بعينه.

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الإنسان

............................

قائمة المراجع (نموذج شيكاغو)

* أبو رمان، محمد. السلفيون والربيع العربي. عمّان: مؤسسة فريدريش إيبرت، 2013.

* عبد الجبار، فالح. العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني. بغداد: دار الجمل، 2010.

* عبد الجبار، فالح. الدولة والمجتمع المدني في العراق. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.

* بطاطو، حنا. العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. ج3. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1992.

* تريب، تشارلز. تاريخ العراق الحديث. ترجمة وليد الضاظي. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007.

* شعبان، عبد الحسين. الإسلام والسياسة: جدل الدين والدولة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009.

* عناية، عز الدين. الإسلام في تونس: تاريخ ديني وسياسي. بيروت: دار المدار الإسلامي، 2015.

* لويزار، بيير–جان. تكوين العراق المعاصر. ترجمة بشير السباعي. بيروت: دار الساقي، 2008.

* ضريف، محمد. الحركات الإسلامية في المغرب. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2008.

* العناني، خليل. الإسلام السياسي في زمن القاعدة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009.

في المثقف اليوم