تجديد وتنوير

حيدر شوكان: هندسة الخوف في يقين العوام

من يتأمل في أرشيفات المعرفة الدينيَّة، ويجوب تضاريس الملل والنِّحل، متنقلًا بين خرائط العقائد وممرات المذاهب، مُقتربًا من حنايا هذا الدين، ثم عائدًا إلى تخوم آخر، ومنحدرًا في دروب تلك الأيديولوجيا ليغادرها إلى فضاء مغاير، بوصفه شاهدًا حيًّا على هندسة الجماعات واصطفافاتها العقائدية والاجتماعية؛ سرعان ما يقفز أمامه تساؤل حادٌّ، يتسلّل من الملاحظة والتفكر ليستقر في التأمل: لماذا يسكن التطرّف العوام جميعًا، على اختلاف مللهم ونحلهم، وتباين مشاربهم الفكرية؟ فالسُّني العامي، والشيعي العامي، والمسيحي العامي، والمتصوف العامي، تمامًا كالسلفي، أو الشيوعي، أو حتى العلماني العادي، يشتركون جميعًا في سلوك ذهني واحد: التطرف من خلال الاعتصام بيقينٍ مغلق، والنظر إلى العالم من خلال نافذة ضيّقة يتوهّمون أنَّها تكشف لهم الحقيقة الكاملة. وكيف يمكننا أنّ نحلّل هذا السكون العميق، أو الثبات البنيوي الصلب، للتشنّج والانغلاق في نفوسهم؟

ومن الواضح أنّ ما أقصده بـ"العوام" هو المعنى المتعارف، ذلك الموقع الإدراكي الذي يُستخدم في الخطاب الفكري والديني والاجتماعي للإشارة إلى الجمهور غير المتخصص، أو الذين لم يتلقّوا تدريبًا عميقًا أو ممنهجًا في مجال معين، سواء كان دينيًا أو فكريًا أو علميًا. وهو ليس شتيمة أو تقييمًا أخلاقيًا، وإنّما وصف لحالة معرفية وسوسيولوجية. بمعنى أوضح أنّ الشخص يمكن أنّ يكون من طبقة مثقفة أو ميسورة، لكنّه عامي في تعاطيه مع الأفكار إذا كان تفكيره تلقينيًا، غير نقدي، ومبنيًا على التكرار لا على الفهم.

ويبدو أنّ الأمر لا يبدأ من العقائد ولاهوتها وهندستها، بل من الأعماق النفسية التي يتشكّل فيها الوعي الشعبي. فالعقل العامي لم يُربَّ على التفكير النقدي ولا على الشك الخلاق، فقد اعتاد أنَّ يرى في اليقين ملاذًا وعزاءًا نفسيًا، لا أداةً. إن الحاجة إلى الأمان المعرفي تُهيمن على هذا النمط من العقول؛ أمانٌ يعني وجود أجوبة جاهزة، مطلقة، غير قابلة للنقاش، تُسكِّن القلق، وتمنح شعورًا بالانتماء، وتُضفي وهمًا بالسيطرة على عالم معقد ومربك.

وهنا يتخذ التطرّف شكله الأكثر فاعلية: بوصفه راحة نفسية وعقائدية في آنٍ واحد. فبدل أنّ يكون الدين أفقًا مفتوحًا للفهم، يتحوّل إلى جدار يحمي من المجهول. وبدل أنّ تُخاض الأيديولوجيا كمجال للتفكير والتطوير، تُستخدم كقناع للهويّة والدفاع الشرس. لذلك حين تسكن الفكرة عقلًا لم يُدرَّب على التأمل الحر، تتحول إلى قيدٍ لا يُحتمل اختراقه. الجديد يُستقبل بوصفه عدوانًا، والمختلف يُعاد تعريفه كتهديد، والحوار يُستبدل بالحذف أو السخرية أو الإقصاء.

إن هذه الحالة تعيد إلى الأذهان مقولة أفلاطون في "أسطورة الكهف"، حين شبّه العامة بأسرى في كهف لا يرون من العالم سوى ظلال على الجدار، ويتوهّمون أنّها الحقيقة الكاملة. هذا هو العقل العامي الذي يرى في يقينه الراسخ الحقيقة، ويخاف من النور القادم من الخارج، تمامًا كما يخشى المتطرف أنّ يهتز عالمه المغلق أمام فكرة جديدة. وما يؤكده ديكارت في مشروعه العقلي حين جعل الشك أصلًا في المعرفة (أنا أشك، إذًا أنا أفكر، إذًا أنا موجود)، يرفضه هذا العقل رفضًا مطلقًا، لأنّه يرى في الشك تهديدًا لاستقراره وحالة الركود، لا بوابةً للحقيقة.

وإذا كان كانط قد وصف التنوير بأنّه " الخروج من القصور الذي اقترفه الإنسان في حق نفسه"، فإنّ ما نراه من العوام ليس سوى إصرار على هذا القصور، ورفض لتحمّل مسؤولية استخدام العقل دون وصاية. إذًا فالمشكلة ليست في العقيدة أو الإلحاد، ولا في الدين أو العلمانية، وإنَّما في نمط ذهني ثابت: عقل يُدرَّب على تكرار الجواب فقط، ليدفن الوعي تحت ركام ما يُسلم به من دون تساؤل حيوي وخلّاق. ولذا ترى العامة من الناس ينفرون من الإفصاح، ويتوجسون من المكاشفة، فينسجون مراوغة أو التفافًا شاحبًا أحيانًا.

إنّ ما يُظَنّ أنّه تباين بين العوام في الخطاب، لا يُخفي تماثلًا عميقًا في البنية الذهنية. فالمتطرف الديني، والعلماني المتشنج، والملحد الذي يُكفّر الإيمان باسم العقل والتجربة، والشيوعي الذي يرى غيره برجواريًا منحطًا، هؤلاء يشتركون في نمط واحد من التفكير المغلق. مشكلتهم تتجلى في الطريقة التي يُقابلون بها ما يجهلونه أو يختلف عنهم، لا في مضمون ما يؤمنون به.

ويمكن رؤية ذلك بوضوح في أمثلة واقعية ومعاصرة، فمثلاً، خلال الثورة- التمردات- الفوضى الثقافية أو الدينية في بلدان مختلفة، لم يكن معظم من اعتدى على العلماء والمفكرين فلاسفة أو منظّرين، بل كانوا "عوامًا ثوريين"، تلقوا شعارات جاهزة من منظوماتهم، فتحولت الأيديولوجيا إلى يقين مقدّس لا يُناقش. وكذلك في الأحزاب القومية أو الإسلاميَّة، كانت الجماهير تُقاد إلى أقصى درجات التطرّف القومي أو الديني ليس عبر التفكير، بل عبر الخوف والعاطفة واليقين المزيّف الذي قدّمته آلة الجماعة ودعايتها النفسية.

وفي مجتمعاتنا العربية، لا يخفى كيف أنَّ أكثر الجدل الطائفي أو السياسي أو العقائدي تطرفًا لا يصدر عن المتخصصين، قدرَ ارتباطه بالجمهور المتحفز؛ فهم يملكون "مواقف" أكثر مما يملكون "فهمًا". أي "إنهم يعتقدون، لا يفهمون" كما قال أرنست رينان ذات مرة. فقد يفجر أحدهم نفسه لاعتقاده لا لمعرفته، وفي مشهدٍ آخر، نجد بعض من يُسمّون أنفسهم "ملحدين جدد" يمارسون التطرّف ذاته الذي ينتقدونه، حين يحذفون المخالف، ويسخرون من الإيمان بدل مناقشته. كلا الطرفين يُعبّر عن "عقلٍ عامي"، حتى لو ارتدى قناع الفكر.

التعليم التقليدي يكرّس هذا الانغلاق، لأنّه يُقدّم العالم في صورة يقين وعزاء لا يحتمل الزحزحة، ويصوغ المفاهيم الكبرى- كالله، والوطن، والتاريخ، والهوية، والدين، والمذهب، والجماعة- في قوالب صلبة، لا تسمح بالتأويل أو التفكيك. يُربَّى الأفراد على أنّ السؤال تمرّد وقح، والشك مرض وسواسي، والاختلاف خيانة وخروج عن الجماعة. وهكذا يُنتج العقل العامي كائنًا يُفضّل الأمان الزائف على المغامرة الفكرية، واليقين الساذج على القلق المعرفي.

التطرّف إذًا يُولد من خوف متجذّر في الأعماق. إنَّه رد فعل غريزي لعقل ضعيف أمام التعقيد والتشابك. إنَّه محاولة بدائية متواضعة لترتيب عالم شديد السيولة بقواعد صلبة ومقولات مطلقة. وكما أنّ الحنين إلى المطلق يغري النفوس القلقة والمغتربة، فإن الوعي بالتعدد والتعقيد والاشتراك في المنافع الفكرية المتراكمة وحده هو القادر على تحريرها.

***

أ. م. د. حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلاميَّة- قسم الفقه وأصوله

في المثقف اليوم