ترجمات أدبية
يان جي: البحث عن اليابانيين

بقلم: يان جي
ترجمة: د. صالح الرزوق
***
في البداية كانت نانا أول من ذكر اليابانيين. كان يوما ماطرا في بالينا. الريح الباردة والرطبة تهب من الشاطئ الغربي، وتزمجر عبر البلدة، وتجرف معها آخر ما تبقى من الصيف الأخضر. كنا في حجرة جلوس نانا. النار مشتعلة. وأكواب الشاي في أيدينا. البسكويت على الطاولة. قالت نانا إن الطقس الآن أبسط مما كان عليه في طفولتها. أضافت: حينها كنا على الأقل ننعم بعشرين يوما من الصيف. وكنت مفتونة آنذاك بالجيرانيوم الموجود على حافة النافذة. رأيت أصيصين منه، أحدهما بزهور وردية، والثاني بلون أحمر قرمزي، وكلاهما مزهر بطريقة سريالية ومنعشة، كما لو أن هذه الأيام هي بداية الصيف. وأدهشني، تقريبا، استفزني، مناعة الجيرانيوم تجاه الطقس، حينما سمعت نانا تقول: صادفتهم عدة مرات، هؤلاء اليابانيين، في الثمانينات بلا شك.
قال توماس: نعم. اعتادوا زيارة البلدة كثيرا.
هل تتذكرينهم أنت أيضا؟.
شعرت نانا قليلا بالدهشة وقالت: طبعا أتذكرهم. رافقت واحدا منهم في المدرسة.
واستدارت نانا نحوي وأخربتني لأبقى في دائرة الحديث: هؤلاء اليابابانيين الذين نتحدث عنهم كانوا يعملون في مصنع كيلالا. استثمر المصنع في الثمانينات أو أواخر السبعينات شركة يابانية كبيرة. ولكنه أغلق أبوابه من فترة طويلة.
سألتها: هل لا زالوا يعيشون هنا؟.
قال توماس: لا. رحلوا منذ عهد بعيد.
قالت نانا: لا يمكن أن تعلم. لا بد من وجود بعضهم هنا. سمعت بافتتاح سوبر ماركت آسيوي كبير للتو في سليغو. هل تصدق ذلك؟.
لاحقا تركنا نانا في المطر الرذاذي. واختصرنا طريقنا من خلف محطة الوقود لنصل إلى البيت بسرعة. رأينا بعض المراهقين يتسكعون وراء جدار إحدى الحدائق الخلفية. صبيان وثلاث بنات. ويدخنون. وعندما تخطيناهم، نظرت لي بنت بشعر أزرق كأنني مشبوهة. والتقطت رائحة الحشيش. ابتعدنا بهدوء، وانعطفنا عند نهاية الشارع.
سألت توماس: كيف كنت تعيش هنا في أيام مراهقتك؟.
قال: ألعب كرة القدم في المدرسة. وأتبادل النكات… الروتين المعتاد كما أفترض.
حينما وجدت في شقة توماس نسخة من “مطاردة الغنمة البرية” لموراكامي شعرت بالاستغراب. وقلت له: توقعت أنك لا تحب قراءة الكتاب اليابانيين.
قال: بل أقرأ كل شيء. ثم إنه ليس كاتبا يابانيا بالضبط.
كان يجلس على الكنبة بسرواله القصير فقط، ويسكب لنفسه الويسكي. ترك الزجاجة، ورفع الكأس، وأخذ رشفة. حصل ذلك سابقا عندما كنا في نيوجرسي. ومرت علينا خمسة شهور ونحن نلتقي، وخرجنا معا ست مرات. تناولنا العشاء. شاهدنا الأفلام والعروض المسرحية وسوى ذلك من وسائل تجفيف النقود. وسريعا بدأنا نشتري الخضار، ونتفحص الكتب، ونقتني التسجيلات، كل ذلك معا. واحتفظت بحقيبة اللوازم النسائية في بيته. وفعل هو المثل. باختصار تعلق الواحد منا بالآخر. وقال طلاب كلية الأدب الإنكليزي في جامعة آر - والتي استضافتنا بصفة كتاب مشاركين ببرنامج الكتابة الدولي. قلت له وأنا أجلس على طاولة الطعام وأقلب الصفحات: آسفة. لكنه أهم كاتب ياباني في المرحلة الحالية. ألا تعرف ذلك؟.
نعم. ولكنه متأمرك جدا. وشائع جدا. وذوقه استهلاكي جدا.
فكر لثانية خاطفة وقرر أن ينهي كلامه بقوله: على نحو ما.
قفزت من الطاولة وأنا أقول: إأفهم أنه لديك اعتراض عليه.
قال: كلا. كلا. ليس عندي مشكلة معه. هو كاتب جيد. ولديه رؤية وطموحات. ونثره أنيق. ولكنني غير مرتاح للطريقة غير الناضجة التي يستهلك بها نفسه. نوع من أنواع التعلق بالذات. تسلسل الذات. هناك خط رفيع بين التكرار الشعري والإنتاج التجاري. وأعتقد أنه تجاوز ذلك الخط منذ وقت بعيد.
جلست بجواره وسألته: هل تشير إلى أعمال موراكامي الرابحة؟.
ملأ فمه بالويسكي وقال: كلا ونعم. يمكن القول لتفسير معنى ما ذكرت .. له علامته الخاصة، كليشيهاته، طرائفه…
ترك الكأس الفارغ وتابع: والسرد الموازي، البطل وخياله القرين، غرائبه والتماعاته، والإحساس المستمر بالبلوغ والظهور المتكرر لكل هذه العناصر..
أضفت: ولا تنس البنات التوائم والصدور المتشابهة تماما.
تابع يقول: ونعم. الجنس. الجنس في كتبه دائما تعبر بقوة عن وجهة نظر وإحساس الذكور. وهذه مشكلة وليست حلا. وهي شائعة بين الكتاب الذكور.
ملت نحوه وقبلته. وهمهمت: أنت تعلم أنني أشتعل حينما تكون جادا.
عانقني وقبلني. وذهبنا إلى السرير ثانية.
سألت توماس في ذلك اليوم: هل تتذكر وقتنا في برينستون. حينما تكلمنا عن موراكامي؟. يبدو كأنه مرت عليه أوقات طويلة.
كان على الكنبة، يقرأ الصنداي تايمز، وحوله أكوام من الصحف. لم يرد حتى مر وقت. وقال: لا تكوني سلبية وعدوانية.
زادت غزارة المطر، وضرب نافذة مطبخنا مثل رصاص صغير الحجم، ثم سال على الأرض. وبصعوبة أمكنني رؤية أشجار التفاح في الحديقة الخلفية. سألته وأنا أغسل البطاطا: هل أخبرت شون برسالة قصيرة أن العشاء سيتأخر؟.
قال توماس وهو في كرسيه ذي المسندين يقرأ: لا تقلقي. لن يتذمر أحد.
في تلك الأمسية، جاء من سوينفورد شقيق توماس المدعو شون مع صديقته بالسيارة، وانضما إلينا على العشاء. وحالما التأم شملنا توقفت الأمطار.
سألت شون: كيف كان شكل توماس في مراهقته.
آه. قالت سارة صديقة شون وهي ترفع يدها. ابتلعت ملء فمها البيذ الأبيض وقالت: كان نحيفا جدا ويرتدي بلوزات فضفاضة وزوجا من النظارات السميكة. ولا يتكلم مع الفتيات. وأعني ذلك. على الإطلاق.
ضحكت ونظرت إلى توماس قائلة: حقا؟.
كان يقطع شرائح الخنزير بحرص. قال: نعم. كان بليدا نوعا ما. لا يحب الرياضة، ولا الموسيقا. أحب الكتب فقط على ما أفترض.
قلت: يبدو لي أيضا بليدا.
عاد المطر. وجلد السطح بقوة.
كان كذلك. هل تتذكرين صديقتي بولين؟. كانت المسكينة مغرمة بتوماس لبعض الوقت. وكلما أتيت لرؤيتك ترافقني، وتتسكع حول البيت وتبذل جهدا لتلفت اهتمام توماس. بنت مسكينة.
أنهت سارة كأسها وأومأت طلبا للمزيد.
قدم لها شون الزجاجة وقال: بولين من؟. بولين موراي؟.
كلا. ليس بولين موراي. أنتم أيها الشباب لم تكونوا بمجموعتها. أعني بولين أوكالاغان. أحد أخوتها لاعب روكبي.
ضحك شون بصوت مرتفع وقال: آه. آل أوكالاغان. بالتأكيد أذكر بولين. كانت تحب توماس؟ حقا؟ متى كان ذلك؟.
ضيقت سارة عينيها وقالت: ربما في السنة الثالثة أو الرابعة من المدرسة الثانوية. وأعتقد في ذلك الصيف حينما اختفى الصبي الياباني. صبي من مدرستك. ماذا كان اسمه؟.
قال شون: آه. أتذكر الآن. ذلك الصيف كان سيئا. ماطرا وتعيسا فقط. نعم وخرج الحراس بحثا عنه لعدة أيام. ماذا كان اسمه يا توماس؟. ألم يكن في صفك؟.
نظرنا جميعا إلى توماس الذي كان ينهي طبقه بطريقة الجراح.
سأل شون مجددا وابتسامة عريضة على وجهه: هل تتذكر اسمه؟.
أفلت توماس أدوات طعامه وشرب من الكأس. ثم قال: تيتسويا. اسمه إيتا تيتسويا.
أول جملة نطق بها توماس معي كانت: هل أنت يابانية؟. كان ذلك في يومي الثاني في أمريكا. وكلانا كنا في مكتب التسجيل في جامعة آر - بانتظار إصدار بطاقة الجامعة.
قلت له وأنا أغلق كتابي: كلا. لست يابانية. أنا صينية.
وحينها كنت أقرأ “الضجة البيضاء” لدون داليلو. والتقطتها من رفوف صديقي تانغ قبل أن أغادر بكين. كان تانغ يمتلك مجموعة كبيرة من الكتب الإنكليزية الأصلية، وكلها هدايا من والده، الذي يعمل في وزارة التربية ويسافر إلى الخارج بانتظام لحضور مؤتمرات مختلفة. وسمح لي تانغ باختيار كتاب واحد هدية وداع قبل السفر فاخترت داليلو. تذكرته كيف زمجر وقال: آه. لا. لماذا أخذت الضجة البيضاء؟. فقد قرأته عدة مرات. قلت له: اخترته لكن ليس للقراءة.
تنهد قائلا مثل امرأة ريفية: إذا لماذا؟.
لأنه الكتاب الذي يعبر عن موقف احتجاج دائم، منارة لا يراها غير عيون البحارة المتشابهين، ويترك علامة تدل على وجودي في الغابة، كي يجدني رفاقي وينقذونني. وباعتبار أنني كنت ذاهبة إلى برينستون في نيوجيرسي كان لا بد أن أختار كتاب “الضجة البيضاء”. بعد أن قلت ذلك لتانغ أصبح وجهه حزينا وغريبا. وقال: أعيديه لي بعد عودتك. لم أفعل ذلك. في مكتب التسجيل نظر توماس لكتابي وقال: هذه روايتي المفضلة من بين أعمال داليلو.
حقا؟. أنا معجبة بها أيضا. وربما هذه خامس أو سادس مرة أقرأها.
هل أنت طالبة هنا؟.
كلا. كلا. تجاوزت مرحلة الطلبة. ولكنني كاتبة زائرة في قسم الأدب الإنكليزي.
آه. هل أنت كوان. لحظت أنك مألوفة. شاهدت صورتك في موقع البرنامج. أنا توماس كيني. الكاتب الإيرلندي.
وأشرقت ملامحه بشكل واضح. وتعرفت عليه. كان الشاب الإيرلندي الذي اعتقدت أنه حسن المظهر عندما نظرت في قائمة الكتاب الزوار.
قلت له: أنت لا تشبه صورتك.
آه. كيف؟.
قلت له: تبدو غامضا في الصورة.
ضحك وقال: بسبب الطقس الإيرلندي.
ولم نخرج معا إلا بعد عدة أيام. عقد القسم حفلة عشاء للترحيب بالكتاب الزائرين. بعدها ذهبنا إلى بار قريب وطلبنا المزيد من البيرة والناشو. قال الكاتب الأنغولي وهو يتناول قطعة ناشو من كومة جبنة سائلة صغيرة: كيف لا يمكن لأحد أن يحب أمريكا؟.
جرع توماس شراب البودفايزر الذي قدموه له قائلا: نعم. وكيف لا تحب بيرتهم؟.
كان معنا محاضرة شابة من قسم الأدب الإنكليزي جاءت مع حلقة شباب قابلتهم، قالت: ولكنك لم ترد على السؤال يا توماس؟ كيف أصبحت كاتبا؟.
زفر توماس قائلا: ها. كما ترين. أنا من الجزء الغربي من إيرلندا. المزدحم بالكتاب. ولدينا في البلدة التي أعيش فيها كتاب أكثر من الجزارين.
سألته المحاضرة: رائع. هل من سبب لذلك؟.
هز توماس رأسه ووقف وهو يقول: الطقس فقط. وأنا ذاهب إلى البار. من يريد ويسكي؟.
رفعت يدي قائلة: أنا. هل يمكنك أن تسألهم إن كان لديهم يامازاكي؟ الويسكي اليابانية.
نظر نحوي لحظة. مبهوتا على نحو معتدل. ابتسم وقال: أنت مندفعة جدا نحو هذه المدينة يا سيدتي. وسأحاول جهدي. أحيانا كنت أفتقد لتوماس في نيوجرسي. ليس لأنه يبدو أفضل من صورته ولكن لأنه أقرب للإنسان حين يتكلم معه، وشعرت برقته عند تبادل القبلات. ولذلك هو مؤهل للكلام عن إيتو تيتسويا، بالطريقة التي ناقشنا بها موراكامي بحماس. وكنه حاليا يبدو قليل الاهتمام. أبعد طبقه وسأل: ماذا يوجد للتحلية؟.
قالت سارا: أحضرنا تورتة التفاح.
وقف وقال: ممتاز. سأخفق القشدة.
سألت شون وهو في طريقه إلى الثلاجة: وهل وجدوا الصبي الياباني في النهاية؟. أين كان؟ ولماذا اختفى؟.
قال شون: لا أذكر الآن.
قالت سارة: يمكنك البحث في أرشيف الجريدة المحلية. وأنا متأكد أن لديهم حكايات من تلك الفترة.
عاد توماس مع القشدة وبدأ البحث عن الخلاطة وقال: لماذا هذا الاهتمام المفاجئ باليابانيين؟.
لا أعلم. ربما يمكنني كتابة قصة عنهم. أشعر بالقرب منهم.
أخذ الخلاطة من الجرن وقال: لماذا؟ أنت لست يابانية؟.
قلت حينما صب توماس القشدة في طبق كبير وشغل الخلاطة: أقرب لهم من هنا.
ملأت الضجة الكهربائية المطبخ. في تلك الليلة كنت أتابع القراءة حينما جاء توماس إلى السرير. قال وهو يرفع طرف اللحاف من جانبه: علي أن أذهب إلى سليغو في الغد. هل ترافقينني؟.
قلت: ربما كلا. علي أن أذهب إلى المكتبة لأفحص الصحف القديمة.
التفت نحوي. وشعرت بأنفاسه وهي تجرف الفراغ بيننا، استنشاق. زفير.
قال: أنت جادة؟.
ولم لا؟. أنا مهتمة. ربما أجد حكاية وأكتبها. كان اليابانيون في التسعينات يعيشون في مايو. لماذا لم تذكر ذلك أبدا؟.
ولكنك لم تطلبي مني أن أقدم لك تقريرا عن كل الشرقيين الذين وضعوا قدمهم في هذا المكان. بعض البورميين يعيشون في محيط البلدة. هل ستذهبين لإجراء لقاء معهم؟.
انزلق قليلا. واتخذ موضعه المناسب، وأغلق عينيه. واصل المطر الهطول طيلة الليل. وتوقف قبيل الفجر. وعندما غادرنا البيت كان الطقس صافيا ومشرقا. ظهرت الجبال بنفسجية في سماء زرقاء كالكريستال. قادني توماس إلى البلدة قبل أن يغادر إلى سليغو. وأنا أغادر السيارة قال: نلتقي لاحقا.
كانت علاقتي ودية مع مدير المكتبة. اسمه بول. قال: هويا كوان. بكرت اليوم. الطقس ممتاز في الخارج.
ابتسمت وأنا أقول: نعم. تماما. هل بمقدوري أخذ نظرة من الصحف القديمة؟.
جر بول أرشيف المنطقة الغربية 1990 - 1999. عشر أعوام مضغوطة في إسطوانة فيلم بحجم راحة اليد. وعلمني كيف أستعمل جهاز الإسقاط في غرفة القراءة. وقال: الآن خذي وقتك.
وفعلت. الكثير وقع في التسعينات. كل مرة، وكلما رحلنا أكثر نحو الماضي تبدو لي حياة توماس غريبة أكثر والعكس بالعكس. في عام 1992 كان توماس في غرب إيرلندا مراهقا بشعر طويل، بينما كنت أنا تلميذة صينية ذات سبع سنوات. ويوميا يقودني جدي إلى المدرسة بدراجته ثم يعيدني بعد الظهيرة. وأكتب واجباتي المدرسية في غرفة نومهما حينما كانت الجدة تطهو العشاء على الشرفة. كان العالم صامتا تماما. عندما وجدت في النهاية حكاية إيتو تيتسويا لم أكن متيقنة أنها التي أبحث عنها. ورد في العنوان: تم العثور على مراهق من سكان المحلة بعد ست أيام. لحسن الحظ، كانت توجد صورة. ورأيت صبيا له مظهر شرق آسيوي. تيتسويا. وكان يضحك بحرارة بطريقة لا توائم الموضوع. مثل أحد كلاب شيبا إينو الشهيرة. وقف وسط عدة أولاد. وبعده مباشرة زوجي توماس كيني. وشعره يتدلى مقدار بوصتين تحت كتفيه. ملقيا على وجهه ظلا طويلا مستطيلا. ولم يكن يبتسم ولا يضع نظارات. وظهر غامضا وبعيدا كما لو أنه أقحم على الصورة. البطل وخياله التوأم. سمعت صدى صوته يتردد في رأسي. في برينستون كان مكان زيارتي هو مكتبة لبيع الكتب وتدعى “المتاهة”.
وهو في ناسو ستريت. وغير بعيد عن مبادلات تسجيلات برينستون المشهورة عالميا. والتي يغرق فيها توماس نفسه لساعات، بحثا عن قرص لكينغ توبي أو ساينتست. وفي كل مرة، وهو بطريقه إلى متجر التسجيلات، يزورني في مركز الرعاية مع فنجان قهوة ويقول قبل أن يغادر: أراك لاحقا. ولاحقا يعني بعد فترة طويلة. عموما أحيانا ينتهي مبكرا ويأتي لينضم لي في “المتاهة”. تذكرت أنه في أحد الأيام وكنت جالسة على الأرض، وأقلب بكتاب، وجاء، وسألني عما أقرأ. عرضت عليه الكتاب، وهو “راقصة إيزو” لكاواباتا. وقلت: كاتبي المفضل في كل العالم.
قال: آه. كاتب ياباني. لم أقرأ بالفعل لكتاب يابانيين. كيف أسلوبه؟.
قلت وأنا أعض شفتي بعض الوقت بحثا عن كلمة مناسبة: هو مثل… ممتاز على نحو لا يصدق. حزين لدرجة مذهلة. و… مع لمسة إيروتيكية خفيفة.
هممم. وجلس توماس بجانبي وتابع: أنا أصغي الآن.
هذه القصة هي عنوان المجموعة. وبحثت عن الصفحة من أجله. تابعت: ها هي. وهي ميلانكولية فعلا. وتدور حول الحب الأول.
قلب عدة صفحات وقال: آه. حقا؟. هل يمكننا الذهاب لتناول البيتزا. أنا نصف جائع.
أمام منصة البيتزا سألته: والآن خبرني. متى تصادف أول حب لك؟.
قطب وجه وابتلع البيتزا. وأخيرا قال: بعمر 17 تقريبا.
سبع عشرة؟. ومن هي حسنة الحظ؟.
ابتلع بعض البيرة وقال: بولين.
بولين؟.
نعم. بولين من سوينفورد. لا شيء مذهل أو ميلانكولي. بنت محلية فقط.
وعاد إلى طعامه. أكلنا بهدوء لبعض الوقت وبعد شريحتي بيتزا استعاد نشاطه وقال: وماذا عنك؟.
قلت له: أول حبيب لي كان تانغ. قابلته في مسابقة شعرية، مناسبة نصف رسمية أعدها قسم الأدب الإنكليزي. اقتحم تانغ المكان فجأة. وقفز على المسرح وزمجر ببعض أشعار بابلو نيرودا. تأثر نصف الحضور بينما صفق النصف الآخر. لاحقا، حينما خرجت للتدخين جاء وكلمني وتبادلنا أرقام الهواتف. وترافقنا لبعض الوقت ثم انتبهنا أن الحال عرضة لمزيد من التدهور فتوقفنا. وعدنا صديقين. وكان تانغ صديقا ممتازا. وكان بلا جدال مركز دائرتنا الاجتماعية. وأفضل شيء أنه كان المفضل. ولد أحمر إن صحت العبارة. عدا عن رفوف الكتب الإنكليزية، وأقراص تسجيلات فينتاج، كان يقدم لنا ويسكي يامازاكي المستورد باستمرار مع علب أصلية من مارلبورو وايت. وفي اليوم السابق لسفري إلى أمريكا، حجز تانغ جناحا في فندق بينينسيولا لإقامة حفل وداع. وجاء كل الأصدقاء. جلسنا على السجاد، وتبادلنا زجاجة يامازاكي 12 عملاقة، وقرأنا الشعر معا. وفي وقت ما صاح تانغ: أنت مغادرة غدا إلى أمريكا. ويجب أن تدخني أول سيجارة حشيش في أرض الوطن.
وفعلت ذلك. وأتذكر أنني شعرت بالسعادة لبعض الوقت ثم تقيأت. في اليوم التالي، ذهبت إلى المطار ولم أقابل تانغ منذئذ.
بعد نهاية المنحة في جامعة آر - تجولت أنا وتوماس في الولايات لثلاث شهور. وخلال تلك الفترة سمعت من صديق مشترك أن تانغ توفي بحادث سيارة قبل اعتقال والده بتهمة الفساد. وعموما تلك قصة أخرى.
بالعودة لقصتنا. اختفى طالبان من جامعة سانت مورداك في الرابع من آب. وأبلغ السيد كيني الحرس عن الحادث في السادس من آب، وهو والد أحد الطالبين. بحث حراس ومتطوعون من بالينا وكيلا لثلاثة أيام عنهما وأخيرا وجدوهما في البئر المقدس لسانت ماري قرب روسيرك آبي. ومن غير الواضح كيف شقا طريقهما إلى البئر وبقيا هناك حوالي ست أيام. وبالأخص أن الأيام الأخيرة كانت ماطرة جدا. وبفضل الحراس والمتطوعين عادا إلى البيت سالمين، وبرعاية مناسبة من عائلتيهما… وانتبهت مجددا أنه لا يسعنا الاعتماد إلا قليلا على ذكرياتنا. بالنهاية الذكريات هي اعترافات في محكمتنا. كنا نختار ما يخدمنا، ونغض البصر عن اللحظات غير المريحة ثم ننسج معا المواد لنستعملها في صالحنا. وأنا أغادر المكتبة، تذكرت نقاشا مع توماس حول اسمي.
سألني: ماذا يعني كوان بالصينية؟.
يعني النبع. أو البئر. مياه تتسلل من تحت الأرض.
تنهد وقال: آه. هذا جميل. وقبل يدي.
ملت عليه، وألقيت رأسي على كتفه. وقلت: هذه كلمة بسيطة. ويوجد كلمات صينية أجمل كثيرا.
اذكريها. اذكريها لي.
قلت: لا يمكنني. لا يمكنني شرح جمال اللغة. وهذا شيء يصعب شرحه بيننا.
قبل يدي مجددا وقال: حسنا. لا تكوني متفائلة جدا. لا بد هناك أشياء كثيرة لا يسعنا تناولها بالكلام بيننا.
عدت إلى البيت بمحاذاة ضفاف نهر موي. لم تمطر ليوم كامل. البارات امتلأت قبل موعد العشاء. أشياء لا يمكننا تداولها بيننا. ماذا يعني بالضبط بذلك؟. هل يفكر بإيتو تيتسويا بالطريقة التي أتذكر بها الماضي. في الحقيقة يجب أن أعترف أنه لا يمكنني التأكد إذا كنا تكلمنا فعلا. مضى على ذلك فترة طويلة في أمريكا. بعد قص الحكايات والتعب والضنى مرات كثيرة، أصبح توماس في نيوجيرسي شخصية خيالية بنظري. من سيحدثني، بعد الجنس المضمخ بالروح، عن الأدب والموسيقا والبلاد واللغات بالإضافة لأشياء تافهة أخرى. ومع ذلك هناك ما يجب أن يحدث في القصة التي سأكتبها. قصة اليابانيين. ستكون حكاية مثالية. عندما رجعت إلى البيت شاهدت توماس قد عاد. وأدهشني أنه في المطبخ يطبخ.
سألته وأنا أتخلص من معطفي: ماذا تفعل؟.
قال ومغرفة كبيرة في يده: في طريق العودة إلى البيت ذهبت إلى السوبر ماركت الآسيوي الذي ذكرته نانا وحصلت على بعض الجايوزي. توقعت أنك ربما تفضلين تناول طعام صيني.
أسرعت إلى القدر لأفحصه قائلة: هل وضعتها؟ وهل غليت الماء أولا؟.
لاحقا تناولنا الجايوزي في وقت العشاء وأثنينا على أشجار التفاح الموجودة في الحديقة الخلفية. وهي تلمع تحت شمس الغروب الملتهبة. انتهى اليوم دون عناء، وترك فقط آثارا بلا شكل ولا ظل، كأنها قصة أخرى لهاروكي موراكامي.
***
...............................
يان جي Yan Ge الاسم المستعار للكاتبة الصينية داي يوشينغ. وهي من سيشوان. تعيش في دبلن. لها 11 كتابا. منها “الحصان الأبيض” رواية قصيرة، “صورة الشيطان بالمرآة” رواية قصيرة، عائلتنا، وغيرها. حصلت على جائزة إذاعة الصين الأدبية. الترجمة من آيريش تايمز 2017.