ترجمات أدبية
دورثي أليسون: نهر الأسماء

بقلم: دورثي أليسون
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
في نُزْهة في مزرعة خالتي، المرة الوحيدة التي تجمّعت فيها العائلة بأكملها، طاردت أنا وأختي بيلي الدجاج إلى حظيرة المواشي. اندفعت بيلي مباشرةً عبر الباب المفتوح وخرجت منه مجدداً، بينما توقفتُ أنا، مأخوذةً بظلّ يتحرّك فوقي. ابن عمي تومي، ذو الثماني سنوات مثلي تماماً، كان يتأرجح تحت أشعة الشمس بوجهٍ أسودَ كحذائه - الحبل المشدود حول عنقه يمتدّ نحو السقف المشمس للحظيرة، مشهدٌ يخطف الأنفاس ويقشعرّ له الأبدان. ألم يكن يسبقنا في الجري؟ اقترب أحدهم من خلفي. بدأ أحدهم بالصراخ. أمسكتْ بي أمي برأسي وحوّلتْ نظري بعيداً.
أنا وجيسي عشاقتان منذ عام الآن. تحكي لي قصصاً عن طفولتها، عن والدها الذي يذهب يومياً إلى الجامعة، وعن والدتها التي كانت تخيط كل فساتينها، وجدتها التي كانت تفوح منها رائحة خبز الشبت والفانيليا. أنصت إليها وفمي مفتوح، غير مصدّقةٍ لكنني متعطّشة، تتألم روحي للحكاية الخيالية التي تظنّ أنها حياة الجميع.
" وبم كانت تشبه رائحة جدتك؟"
أكذب عليها كما أفعل دائماً، كذبةً مسروقةً من كتاب. "كرائحة الخزامى"، بينما تتقلّب معدتي لذكرى العرق الحامض والنشوق.
أدرك فجأةً أنني لا أعرف حقاً كيف تكون رائحة الخزامى، ويتملّكني خوفٌ للحظة أن تسأل شيئاً آخر، سؤالاً قد يفضحني. لكن جيسي انزلقت لتعانقني، وتضع وجهها على أذني، ، وتهمس:
"كم هو رائع أن تكوني جزءاً من عائلة كبيرة بهذا الشكل."
أعانقها بدوري وأغمض عينيَّ. لا أستطيع النطق بكلمة واحدة.
وُلدتُ بين أبناء وبنات العم الأكبر سنًّا والأصغر سنًّا، في فجوةٍ زمنية بين دفعات الأطفال، ولهذا كنت دائمًا خارج الدائرة، أراقب فقط. ذات مرة، قبل موت تومي بزمن طويل، دُفعتُ إلى خارج المنزل وجلستُ على الدرج بينما كان الجميع واقفًا يُنصت إلى ابنة عمي باربرا.كانت صرخاتها تتصاعد وتنخفض في الجزء الخلفي من البيت. أحضرت ابنة عمي كورا دلاءً مملوءة بخرقٍ دامية لتحرقها. ركض بقيّة أبناء العم للّهو بالشرر أو لنبش النار بعصيّ خشب الدوغوود. أما أنا فجلستُ على الشرفة أؤلف كلمات على وقع الصيحات من حولي. لم أكن أفهم ما الذي يجري.بعض أبناء العم الأكبر سنًّا كانوا يفهمون، ملامحهم الغريبة كانت تتشقق بضحكات أغرب.كنت قد رأيتهم وهم يُساعدونها على صعود السلالم، والدم الكثيف ينهمر على ساقيها.وبعد وقت، صار الدم على الخِرَق خفيفًا، مائيًا، ورديًا تقريبًا.رمت كورا الخِرَق في النار، ووقفت ساكنة وسط الدخان الكريه الرائحة.
قال راندال وهو يمرّ إن هناك طفلًا سيُولد، كبيضة مكسورة تُرمى مع الخِرَق، لكن لم يكن هناك شيء. راقبت المشهد بدقة، ولم أر شيئًا سوى الدم، يتناقص بيأس، والبيت يغرق تدريجيًا في الصمت. ساعات من الصراخ تحولت إلى أنين واهن، مكتوم تحت سحابة الدخان. خرجت خالتي رايلين إلى الشرفة، وكادت تسقط فوقي، لم ترني، لم تر شيئًا. راحت تضرب أحد أعمدة الشرفة بقبضتيها حتى تركت فيه حفراً بحجم المفاصل في الطلاء المتقشر، تضربه كأنه يملك إحساسًا، تسبّه وتسبّ نفسها، وتلعن كل طفل في الفناء، تئن بصوت مرتجف صاعد وهابط: "اللعنة، اللعنة على تلك الفتاة... بلا عقل... اللعنة!"
لديَّ هذه الصور التي أعطتني إياها أمي – مطبوعاتٍ بُنيَّة مُلوَّثة لساحات ترابية عارية، وشُرُفاتٍ من الألواح الخشبية، وصفوفٍ لا تنتهي من الأطفال – أبناء العم، والأعمام، والعمات؛ ألغاز. اللغز هو كم منهم لم يعد أحد يتذكرهم. أعرضهم على جيسي دون أن أذكر من هم، وعندما تضحك على الأسنان المكسورة، والملابس الممزقة، والتراب، أشُدُّ أسناني على ما لا أريد أن أتذكره ولا يمكنني نسيانه. كنا كثيرين لدرجة أننا كنا بلا عدد، ومثل شراغيف الضفادع، إذا اختفى واحد منا بين الحين والآخر، فمن كان ليهتم؟
كانت لديَّ جدةٌ عظيمة من طرف أمي أنجبت إحدى عشرة ابنةً وسبعة أبناء؛ وجدتي أنجبت ستة أبناء وخمس بنات. كلُّ واحدٍ منهم أنجب ستة على الأقل. وبعضهم أنجب تسعة. ستة في ستة، أحد عشر في تسعة. استمروا يتكاثرون كجدول الضرب. ماتوا ولم يُفتقدوا. أنا من عائلة ضخمة ولا أستطيع أن أحكي نصف قصصهم. وبطريقة ما، دائمًا ما بدا الأمر وكأنهم قتلوا أنفسهم: حوادث سيارات، بنادق صيد، حبالٌ متربة، صراخ، سقوط من النوافذ، أشياء بداخلهم. أنا قمة هرم، أنزلق للخلف تحت ثقل الذين جاءوا بعدي، ولا يهم أني مثلية، التي لن تنجب أطفالًا .أحكي القصص فيخرج الأمر مضحكًا. أشرب البوربون وأُجبر نفسي على الإطالة، وأحكي كل تلك القصص القديمة المضحكة. دائمًا ما يبدو أن هناك من تسألني: "مَن كان ذلك؟" أُريهم الصور فتقول:
"ألم تكن هي تلك التي في قصة الجسر؟"
أُخفي الصور، أشرب المزيد، ودائمًا ما يجدها أحدهم، ثم يقول:
"يا للهول! كم كان عددكم بالضبط؟"
لا أجيب.
كانت جيسي تقول: "لديكِ هذا الانجذاب الغريب نحو العنف. لديكِ كل هذه القصص المروعة." قالتها بفمها الناعم، وذقنها الذي لم يُصفع قط، وأنا أحب ذلك الذقن، لكن حين قالت جيسي ذلك، ارتجفت يداي ولم أرغب في شيء بقدر ما رغبتُ في أن أحكي لها قصصًا مروعة. صنعتُ قائمةً وقلتُ لها: تلكَ فقدت عقلها – وضربت أخاها الصغير بقضيب معدني؛ هؤلاء الثلاثة شقّوا أذرعهم، ليس عند المعاصم بل عند العروق الأكبر قرب المرفق؛ أما هي، فقد خنقت الشاب الذي كانت تضاجعُه وأُرسلت إلى السجن؛ وتلكَ شربت الغسول الكاوي وماتت تضحك بلا صوت. في عامٍ واحد، فقدتُ ثمانية من أبناء عمومتي. كان العام الذي هرب فيه الجميع. أربعةٌ اختفوا ولم يُعثَر عليهم أبدًا. واحدٌ سقط في النهر وغرق. وواحدٌ صُدم وهو يطلب توصيلةً شمالًا. وواحدٌ أُطلق عليه الرصاص وهو يعدو عبر الغابة، بينما غريس، الأخيرة، حاولت السير من غرينفيل إلى غرير لسببٍ لا يعرفه أحد. سقطت من الجسر العلوي على بُعد ميلٍ من مستودع سيرز آند روبك، وبقيت هناك تموت من الجوع والحر والعطش.
فيما بعد، وأنا بين النوم واليقظة، وجدتُ يديّ تحت ذقن جيسي. تقلبتُ بعيدًا، لكنني لم أبكِ.أنا بالكاد أسمح لنفسي بالبكاء.
في أغلب الأحيان، كنا نتعرض للاغتصاب، أنا وأبناء عمومتي. وكان ذلك نوعًا من المزحة أيضًا.
'ما هي العذراء في كارولاينا الجنوبية؟'
" فتاة في العاشرة تستطيع الركض بسرعة.'"
لم يكن الأمر مضحكًا بالنسبة لي وأنا في سرير أمي مع زوج أمي؛ ولا لابنة عمي بيلي في العليّة مع عمي؛ ولا لوسيل في الغابة مع ابن عم آخر؛ ولا لداني مع أربعة غرباء في موقف سيارات؛ ولا لـبامي، التي وصلت قصتها إلى الصحف. قرأتْها كورا بصوت عالٍ:
مرارًا وتكرارًا على يد أشخاص مجهولين." وبقوا مجهولين، لأن بامي لم تنطق بكلمة بعد ذلك.ثقوب، وجروح مفتحة، وكدمات، ورضوض. سمعتُ كل الكلمات... كلمات كبيرة، كلمات صغيرة، كلمات مُروعة لدرجة لا تُصدَّق.
"ميتة بفعل فاعل."
والقضيب لا يزال بداخلها...
مقشة المكنسة، وغصن الشجرة، ومسدس الشحوم...
أشياء، أشياء لا تُعقَل...
زجاجات ويسكي، وفتّاحات علب، ومقصات العشب، زجاج، معدن، خضروات...
تقول جيسي:
" لا يُعقل، لا يُعقل. لديكِ موهبة في الكلمات."
أتوسل إليها:
"لا تتحدثي .. لا تتحدثي."
وهذه المرة، احتضنتني بصمتٍ مُبارك.
أخرجتُ الصور، حدّقتُ في الوجوه. أيّها كنتُ؟ أعلم أن الناجين يكرهون أنفسهم، من فرط حبّهم الشديد لأنفسهم، لا يفهمون أبدًا، ويتساءلون دائمًا: "لماذا أنا وليس هي، وليس هو؟" هناك غموضٌ كبيرٌ في الأمر، وقد كرهتُ نفسي بقدر ما أحببتُ الآخرين، وكرهتُ حقيقةَ بقائي. بعد أن نجوتُ، هل يُفترض بي أن أقول شيئًا، أو أفعل شيئًا، أو أكون شيئًا؟
كنتُ أحب ابن خالتي "بوتش". كان له رأسٌ كبيرٌ عجوز، وشعرٌ أشقر خفيف، وعينان واسعتان زائغتان. كل أبناء خالتي كانوا كذلك، لكن رأس بوتش كان الأكبر، وشعره الأبهت. أما أنا، فكنت الوحيدة ذات الشعر الداكن. بدا بقية العائلة كنسخ باهتة من بعضهم، بدرجات مختلفة من الأشقر، لكن لاحقًا تحول شعر الجميع إلى البني أو الأحمر، ولم أعد أبدو مختلفة كثيرًا. لكن بوتش وأنا كنا مميزين – أنا لأني كنت سريعةً وسوداء الشعر، وهو بسبب ذلك الرأس الكبير والأفعال المجنونة التي كان يفعلها.كان بوتش يتسلق خلف شاحنة عمي لوسيوس، يفتح خزان البنزين ويمد رأسه فوقه، يتنشق بعمق، يختنق، يتقيأ، ثم يعاود التنفس. كان الشعور يغوص فيك حتى يُنمّل أصابع قدميك. تسلقتُ خلفه وجربتُ ذلك بنفسي، لكني كنت صغيرةً جدًا على أن أتحمله طويلاً، فسقطت على الأرض بثقل، أشعر بالدوار وأنا أضحك. أما بوتش فكان يستطيع الصمود، يغمس يده في الخزان ويخرج كفًا مجوفًا مليئًا بالبنزين، يستنشق بعمق ويضحك. ثم ينزل بخفة، يتأرجح من مقبض الباب، يترنح وهو يضحك، تفوح منه رائحة البنزين الكريهة.
لكن أحدًا رآه ذات يوم. أحدهم ألقى عود ثقاب.
" سأعلمك الدرس."
وهكذا، بكل بساطة، انتهى قبل أن تفهم.
أستيقظ في الليل وأنا أصرخ: "لا، لا، لن أفعل!"
مياه قذرة ترتفع في مؤخرة حلقي، لغة سائلة من رعبي وغضبي.
"عانقينى. عانقيتى."
تتدحرج جيسي فوقي؛ يداها تمسك بعظام وركي بقوة.
تكرر:
"أحبك. أحبك. أنا هنا"
أحدق في عينيها الداكنتين، حائرة، خائفة.آخذ نفسًا عميقًا، وأرسم ابتسامة باهتة على وجهي.
أضحك، وأتدحرج بعيدًا عنها.
"هل خدعتكِ؟"
تلكمني جيسي بمزاح، وأمسك بيدها في الهواء.
"حبيبتي"،
تهمس، وتلتف حولي، وتغمض عينيها.
أرفع يدي أمام وجهي وأراقب المفاصل، والأظافر وهي ترتعش، وترتعش.
أراقبها لفترة طويلة بينما هي نائمة، دافئة وساكنة بجواري.
فقد جيمس بصره.
أحد الأعمام ألقى الكحول محلي الصنع على وجهه.
تسلقت لوسيل من النافذة الأمامية لمنزل العمة رايلين وقفزت.قالوا إنها قفزت. ولم يقل أحد لماذا.
كان العم ماثيو يضرب الخالة رايلين.تعهد التوأم مارك ولوك بمنعه، جرّاه إلى الفناء ذات مرة، يرميانه بينهما ككيس رخو من الحبوب.صرخ العم ماثيو كخنزير يُساق للذبح.
أدخلت أختاي إلى سقيفة الأدوات لأحفظهما، لكنني بقيت أراقب. خرج الصغير بو مسرعًا من المنزل، قافزًا من الشرفة، مباشرة بين ذراعي والده. بدأ العم ماثيو يلوح به كمنجل، يطارد الولدين الكبيرين، ورأس بو يصطدم بأكتافهما، وأفخاذهما. بعدها، زحف بو في التراب، والدم يسيل من أذنيه ولسانه متدلٍ من فمه، بينما نجح مارك ولوك أخيرًا في إسقاط أبيهما. مر وقت طويل قبل أن أدرك أنهم لم يخبروا أحدًا بما حدث لبو.
حاول راندال أن يعلمني ولوسيل المصارعة.قال:
" ارفعي يديكِ".
كانت ساقاه متباعدتين، وجذعه يهتز لأعلى وأسفل، ورأسه يتحرك باستمرار. ثم لمعت يده تجاه وجهي.رميت بنفسي إلى التراب، وبقيت ساكنة.التفت إلى لوسيل، لم يلاحظ أنني لم أقم.
لكمها وهو يضحك.لفت يديها حول رأسها، وانحنت حتى لامست ركبتاها حلقها. صرخ.
" لا، لا!"
"تحرّكي مثلها".
التفت إليّ:
"تحرّكي".
ركلني.تكومت كالكرة، وتجمدت.
" لا، لا!"
ركلني مرة أخرى.تأوهت، ولم أتحرك.التفت إلى لوسيل.
" أنتِ".
أسنانها كانت تصطك، لكنها بقيت ساكنة، ملفوفة على نفسها كشرائح اللحم المقدد.
صاح.
" تحرّكي!"
لكن لوسيل فقط ضمت رأسها بقوة وبدأت تنتحب. تمتم راندال، وهو يمشى بعيدًا.
"أولاد العاهرة"، لن تنجحا أبدًا في شيء".
وقفنا ببطء، محتارتين، تنظر إحدانا إلى الأخرى. كنا نعرف.إذا قاومت، سيقتلونك.
كانت أختي في السابعة من عمرها. كانت تصرخ. حملها زوج أمي من ذراعها اليسرى، أدارها إلى الأمام والخلف. فانخلع المفصل.تعلقت الذراع بشكل مرتخٍ. واستمرت في الصراخ فحسب. لم أكن أعلم أنه يمكن كسرها بهذه الطريقة.
كنت أجري في الرواق. وكان خلفي مباشرة.
"ماما! ماما!"
أطبقت يده اليسرى - كان أعسراً - على حنجرتي، ودفعتني نحو الحائط، ثم رفعني بهذه الطريقة. ركلت، لكنني لم أستطع الوصول إليه. كان يصرخ، لكن الضجيج في أذني كان شديداً لدرجة أنني لم أسمعه.
"أرجوك يا أبي. أرجوك يا أبي. سأفعل أي شيء، أعدك. أي شيء تريده يا أبي. أرجوك يا أبي."
لم يكن بإمكاني قول ذلك. لم أستطع الكلام بسبب قبضته على حنجرتي، لم أستطع التنفس. استيقظت عندما سقطت على الأرض. نظرت إليه.
"إذا عشت طويلاً بما يكفي، سأقتلك بحق الجحيم."
رفعني من حنجرتي مرة أخرى.
"ما خطبها؟"
"لماذا تلاحقك دوماً؟"
لم يكن أحد يريد إجابات حقاً.
زجاجة فودكا كاملة ستقتلك عندما تكون في التاسعة من عمرك والزجاجة من حجم الكوارت. كان ابن عم ثالث هو من أثبت ذلك. تعلمنا ما يمكن لهذا وأشياء أخرى أن تفعله. كل عام كان هناك شيء جديد.
" أنت تكبرين. فتاتي الكبيرة."
كان هناك مورفين في الخزانة، ودواء باراجوريك لأسنان الطفل، وويسكي، وبيرة، ونبيذ في المنزل. جيني أحضرت إلى البيت مادة إم دي إيه، وبي سي بي، وحمض (إل إس دي)، بينما جلب راندل الحشيش، والسبيد، والميسكالين. كل ذلك كان يُخفف من حدة الأمور، ويقتل الوقت.
كانت السرقة وسيلة لقتل الوقت أيضا. أشياء نحتاجها، وأشياء لا نحتاجها، بدافع التحدي، أو الغضب، أو الحاجة. "أنت تكبر"، كنا نقول لبعضنا. ولكن عاجلاً أم آجلاً، سيقبض علينا جميعاً. ثم جاء دور "متى ستتعلم؟".وعندما نُقبض علينا، تحدث الكوابيس. "يائس مثل الخنزير البري" كان تشخيص الرجل في مزرعة المقاطعة حيث أُرسل مارك ولوك في سن الخامسة عشرة. حلقوا رؤوسهما، وقطّعوا شحمة أذنيهما.
" ما مشكلتك يا فتى؟ ألا تستطيع تحمله؟"
أما جان، فقد أُلقي القبض عليها في السادسة عشرة وأُرسلت دار رعاية الفتيات في مقاطعة جيسوب، حيث تم تبني الطفلة، وقامت بقطع معصميها بزنبرك السرير.
أُلقي القبض على "لو" في السابعة عشرة واحتُجز في مركز الشرطة وسط المدينة، واغتُصبت على أرضية زنزانة الاحتجاز.
"أأنت صبي أم فتاة؟"
"على ركبتيك، يا صغير، هل تستطيع تحمله؟"
أُلقي القبض على "جاك" في الثامنة عشرة وأُرسل إلى السجن، وعاد بعد سبع سنوات بوجه خالٍ من التعبير، لا يفهم شيئًا. تزوج فتاة هادئة من خارج البلدة، ورُزق بثلاثة أطفال في أربع سنوات. ثم عاد جاك إلى المنزل ذات ليلةً من مصنع النسيج حاملاً إحدى تلك المقابض الكبيرة لآلة المغزل عالية السرعة. استخدمها لضربهم جميعًا حتى الموت، ثم عاد إلى العمل في الصباح.
تزوجت ابنة العم ميلفينا في الرابعة عشرة، وأنجبت ثلاثة أطفال في سنتين ونصف، وأخذتهم الرعاية الاجتماعية جميعاً. هربت مع ميكانيكي سيرك، وأنجبت ثلاثة أطفال آخرين قبل أن يتركها من أجل بهلوان دراجات نارية. أخذتهم الرعاية الاجتماعية أيضاً. لكن الطفل التالي كان مصاباً باستسقاء الرأس، طفلاً صغيراً "برأس مائي" تركوه معها، وكذلك الثلاثة الذين تبعوه، حتى ذلك الذي كانت تكرهه بشدة - الذي أنجبته بعد سقوطها من الشرفة ولم تتذكر من أبوه. سألتها:
"كم طفلًا لديكِ؟"
أجابت:
"أتعني الذين عندي، أم الذين كانوا لي؟ أربعة، أو أحد عشر."
****
حاولت عمتي، التي سُميتُ على اسمها، أن تذهب إلى أوكلاهوما. كان ذلك بعد أن فقدت أصغر بناتها وأخبروها أن "بو" لن يصبح أبدًا "طبيعيًا". حزمت البسكويت والدجاج البارد والكوكا كولا؛ والكثير من الملابس الفضفاضة؛ و"كورا" وطفلها الرضيع "ساي"؛ وأصغر أربع بنات. انطلقوا من "جرينفيل" في الظهيرة، على أمل الوصول إلى أوكلاهوما بحلول نهاية الأسبوع، لكنهم لم يصلوا إلا إلى "أوجستا". وهنال انهار الجسر تحتهم. قال عمي.
" قضاءٌ وقدرٌ"
زحفت عمتي و"كورا" إلى خارج النهر، وظهرت اثنتان من البنات بين الأعشاب، تصرخان بصوت عالٍ بما يكفي ليتم العثور عليهما في الظلام. لكن إحدى البنات لم تخرج أبدًا من تلك المياه المظلمة، و"نانسي"، التي كانت تحمل "ساي"، وُجدت ما زالت ملتفة حول الرضيع، في الماء، تحت السيارة. قالت عمتي:
" قضاءٌ وقدرٌ، لدى الرب حس فكاهي لعينٌ جدًا."
أنجبت أختي طفلها في سنة سيئة. قبل ولادته، كنا قد تحدثنا عن الأمر. سألتها:
"هل أنتِ خائفة؟".
أجابت، غير مدركة قصدي، متحدثة بدلًا من ذلك عن الخوف الآخر.
"سيكون بخير .. أليس لدينا تقليدٌ في إنجاب الأطفال غير الشرعيين؟"
كان بخير، طفلٌ صغيرٌ قويٌ قبيحٌ تقليدي بتلك الخصلة البيضاء التي تميز الكثيرين منا. لكن بعد ذلك، جاءت تلك السنة البائسة مع إصابة أختي بالتهاب الجنبة، ثم التهاب المثانة، وبدون عمل، بدون مال، واضطرارنا للعودة إلى المنزل مع زوج أمي قاسي العينين. كنت أعود لرؤيتها، من عند المرأة التي لم أستطع الاعتراف بأني كنت معها، وأحمل ابن أختي الهش للغاية وأضمه، أهزه، وأهز نفسي.
ذات ليلة، عدت إلى المنزل لأسمع صراخًا — الطفل، أختي، لا أحد آخر هناك. كانت واقفة بجانب السرير الصغير، منحنية، تصرخ بوجه أحمر.
"اصمت! اصمت!"
مع كل كلمة، كانت قبضتها تضرب الفراش قرب أذن الطفل.
"لا تفعلي ذلك!"
أمسكت بها، جذبتها للخلف، محاولة أن أفعل ذلك بألطف ما يمكن كي لا أكسر غرز جراحتها. كان ذراعها الآخر مضغوطًا على بطنها ولم تستطع المقاومة أبدًا. استمرت في الصراخ.
"ذلك الوغد الصغير لا يتوقف عن الصراخ. ذلك الوغد الصغير. سأقتله."
ثم استوعبت الكلمات، ونظرت إليّ بينما استمر ابنها في البكاء وركل قدميه. بجانب رأسه، كان الفراش ما زال يحمل أثر قبضتها.
"أوه لا"، أنت، "لم أكن لأصبح هكذا. لقد وعدت نفسي دائمًا."
بدأت تبكي، تمسك ببطنها وتنتحب.
"لسنا مختلفين. لسنا مختلفين."
تلف جيسي ذراعها حول بطني، وتضغط بطنها على ظهري. أسترخي بين ذراعيها.تسألني:
"هل أنت متأكدة أنكِ لا تستطيعين إنجاب الأطفال؟ أود حقًا أن أرى كيف سيكون أطفالك."
أتصلب، وأقول:
" لا أستطيع إنجاب الأطفال. لم أرغب بالأطفال أبدًا."
فتقول:
" مع ذلك، أنتِ جيدة جدًا مع الأطفال، لطيفة جدًا."
أفكر في كل المرات التي انقبضت فيها يداي إلى قبضتين، عندما كدت أفقد السيطرة. أفتح فمي، أغلقه، لا أستطيع الكلام. ماذا يمكنني أن أقول الآن؟ كل المرات التي لم أتكلم فيها من قبل، كل الأشياء التي لم أستطع إخبارها بها، الخجل، وكراهية الذات، والخوف؛ كل ذلك يقف بيننا الآن — جدار لا أستطيع هدمه.
أودُّ أن أستدير وأتحدث معها، وأقول لها... "في رأسي نهرٌ من الغبار، نهرٌ من الأسماء يتكرر بلا نهاية. يتصاعد هذا الماء القذر في داخلي، كل أولئك الأطفال يصرخون بحياتهم في ذاكرتي، فأصبح شخصًا آخر، شخصًا حاولتُ جاهدة ألا أكونه." لكنني لا أقول شيئًا، وأعلم، كما أعلم أنني لن أنجب طفلًا أبدًا، أن صمتي هذا يُديننا، وأنني لا أستطيع الاستمرار في حبك وكرهك بسبب حياتك الخيالية، لعدم سؤالك عما ليس لديك سبب لتتخيله، بسبب تلك البراءة ذات الذقن الناعمة التي أحبها
تضع "جيسي" يديها خلف رقبتي، تبتسم وتقول: "أنتِ تروين أطرف القصص."
(تمت)
***
........................
الكاتبة: دوروثي أليسون / Dorothy Allison (11 أبريل 1949 – 6 نوفمبر 2024) كاتبة أمريكية نسوية ركزت كتاباتها على الصراع الطبقي، والإساءة الجنسية، وإساءة معاملة الأطفال، والنسوية، وقد اشتهرت بروايتها السير ذاتية الأكثر مبيعًا:"ابنة غير شرعية من كارولاينا" (Bastard Out of Carolina.ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان:نفاية (Trash ( وُلدت دوروثي أليسون في الحادي عشر من أبريل عام ١٩٤٩ في غرينفيل، بولاية ساوث كارولينا، لأمٍّ تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، تُدعى روث جيبسون أليسون. عاشت طفولةً صعبةً اتسمت بالفقر والاعتداء الجنسي والجسدي والعاطفي. تخرجت من المدرسة الثانوية، ثم حصلت على درجة البكالوريوس من كلية فلوريدا المشيخية (كلية إيكارد حاليًا) بدعم من منحة الاستحقاق الوطنية. حصلت على درجة الماجستير في الأنثروبولوجيا من المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك.وقصة (نهر الأسماء) المترجمة اليوم هي القصة الأولى من تلك المجموعة نفاية / Trash( الطبعة الثانية 2002 )