ترجمات أدبية

آلي سميث: ليست قصة عيد ميلاد

بقلم: آلي سميث

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في غيابك أتخيلك.

عائدة إلى البيت بعطلة عيد الميلاد، من أجل تلك السخافات التي تكرهها حتى الآلهة، باستثناء أنها ليس سخافات أبدا، لأنك بدون ذلك الهراء المستمر.. الأمان والدفء والاستقرار.

تقولين في داخل رأسي: مستقرة. ها نحن نبدأ. ولذلك ستكون قصة عيد ميلاد.

نظرت من الجزء الأعلى، الجزء الذي يسمح بالرؤية، وهو نافذة الحمام. كان صباحا مشرقا في منتصف فصل الشتاء. الوقت باكر. السماء صافية ليلة أمس، وكما أرى، كل أسطح الأكواخ والمرآبات، وكل أسطح العليات والاستوديوهات، وأسطح البيوت، بيضاء يغطيها الجليد. الأشجار راكدة وعارية من الأوراق. والأعشاب رقيقة وهشة في الحدائق الخلفية. ولكن نعم، هي جميلة.

قلت لي: يظهر عليك الكثير من هيئة عيد الميلاد.

الناس، الحشود، والمرأة المسكينة على الحمار، منهكة، وعلى وشك أن تضع مولودا؟.

النجمة، الرعاة، الملوك؟. هذا العام؟ أعياد ميلاد سعيدة بعد حقيقية، أعياد ميلاد بيضاء (سوبرمانية)، وخمس وستون مليون شخص يعبرون عالما بلا شواغر في فنادق أعياد الميلاد، مع أمنية عيد ميلاد سعيد منا جميعا لثماني عائلات من سوريا! (لهذا السبب العديد من اللاجئين تأخذهم هذه المدينة ذات سقوف بيوت عيد الميلاد الأبيض، وعليهم أن يتلاءموا مع التعليمات، ويكونوا لاجئين مستحقين قبل قبولهم، مهما كان معنى ذلك). بعيدا في معلف بلا سرير من أجل حلب، ولكنه عيد ميلاد فيس بوك سعيد، عيد ميلاد يو تيوب، وعيد ميلاد غوغل. أخطار موت تويتر الفصلية المرحة انطلقت فعلا. في الليلة السابقة على عيد الميلاد، روح عيد الميلاد، عيد ميلاد صغير بهيج، في منتصف شتاء مخيف. رياح جليدية. أنين. حديد. حجر. أوراق العشب تبرق قدر ما تشاء. ويحصل ذلك بسبب البرد، وهذا كل شيء.

في هذا التوقيت من العام المنصرم شاهدنا معا السنة القديمة تنصرف، ورحبنا بالجديدة فتناولنا الشمبانيا وأطلقنا الألعاب النارية كالعادة. وبدأنا مع السنة كائنات بشرية، والآن ننهيها مثل شيء ينتمي لأحد طرفي الفاصل العريض جدا والذي جعل الوادي الكبير يبدو مثل شيء يمكن التحكم به. شكرا 2016 لهذه التجديدات التي يتخذها الفلك. هذا عام مؤخرة الحصان.

غادرت البيت. ولم أكلف نفسي عناء إقفاله مرتين.

لن أهتم إذا اقتحمه أحد.

في طريقي إلى العمل اندلعت أغنية عيد ميلاد من تسجيلات باوند لاند. أغنية تجمع بينغ كروسبي مع دافيد بوي. بوي مات ورحل، ولكنه ها هو بكل حال، موجود في هاي ستريت، لم أكن أحب هذه الأغنية كثيرا، لأنها دائما تجعلني أفكر بقصيدة توماس هاردي. وفيها يلقى بجثمان الصبي هوج قارع الطبل المشارك بحرب مرت عليها عهود، على ضريح، ودون تابوت. ميت وشاب ولا شيء فوقه سوى كواكب تلمع بعيون غريبة. هوج المسكين. يمكنه أن ينتهي من بوي، أمير النظرات العجيبة، والعارف بغربتنا، والرجل الذي جعلنا جميعا غرباء ولكن حقيقيين، في فيلمه عن القزم الضاحك، حينما قدم برنامج "أفضل الأغاني الشعبية"، وكان قاسيا وملونا ومضحكا وغريبا وجعل فتاة من مدرسة أمك تدخل بنوبة صرع، وتنقل إلى المستشفى. بوي الحامل لخط متعرج على وجهه جعل بطريقة ما شارعي، وكل شارع في الضواحي، بألوان الآخرين، حافلا باحتمالات مجهولة، وأغنيته عن الفتاة ذات شعر الجرذان، الذاهبة إلى السينما، جعلتنا نرى أين نحن حقا - كأن ستارة الصالة القديمة المغبرة المتحركة التي تغطي عيوننا قد ارتفعت ببساطة.

نسيت أن بوي سجل تلك الأغنية، ومع بينغ كروسبي من بين جميع الآخرين.

أعادتني، وأنا في الطريق إلى العمل، في هذا الصباح من كانون الثاني، إلى الوقت الذي انفصلت به عن أولى حبيبة، كان ذلك في عيد ميلاد عام 1982، الهواء بارد ومنعش،

وسقوف المدينة التي كنا نعيش فيها، بيضاء يتخللها علامات سوداء خلفها ذوبان الجليد حول المداخن. استأجرت معها شقة صغيرة رطبة ومتجلدة فوق متجرين بطابقين، متجر للرقائق وآخر للتسجيلات، وكانت تفوح من متجر الرقائق روائح الدسم بغض النظر عن الوقت من يوم العمل، أما متجر التسجيلات فقد كان يعزف ويكرر على ما يبدو، وطيلة الوقت كنا منفصلتين (كل الوقت نواصل الصمت سواء صاعدتين أو هابطتين على السلالم المغطاة بالموكيت، أو إحدانا جالسة في المكان الخاص الوحيد هناك، وراء باب موصد لمرحاض خارجي مكانه على منعطف السلم، ودائما تلاحظ أن أحدهم صنع في وقت ما دائرة رمادية محترقة خلفها ثقب حريق سيجارة على الستارة المعلقة على الباب الخلفي)، وتأتي أغنية بوي وبينغ با.. روم.. با.. بوم.. بوم، مع الأغنية الأخرى، والتي يعزفها الشاب مالك المتجر طيلة الوقت، وهي: حصان بلا اسم للفرقة المعروفة باسم أمريكا.

لم تعجبني معزوفة بوي/كروسبي، وقل إعجابي بها لأنه تعين علي أن أسمعها باستمرار حين لا أكون سعيدة، مع أن اتجاه فرقة "أمريكا"، يميل للقديم منذ عام 1982، وهناك أغنية جعلتنا نتفق، كلتانا، معززة الشعور بالتباهي قليلا - بلحظة نادرة، بومضة ضوء، مثل شق في بساط متسخ، ومن خلاله أمكننا أن نكون متحضرتين أمام بعضنا البعض، أقصد بين تمزيقها للصفحات الأخيرة من كتبي (وهو أسوأ ما تضمره لي، وبين أسوأ ما أستطيع أن أضمره لها - الأمر الذي جعل متجر التسجيلات في الأسفل، تحت شقتنا، يبدو عمليا جيدا تماما. لكن بوي وكروسبي وغناؤهما معا، ما اعتبرناه حينها من المسلمات، كان بوضوح طرفة، انحراف، ومن الظاهر أن بوي يلوم عيد الميلاد، ويرى أنه علامة بلا معنى. أخيرا انفصلنا. ومنذئذ لم أبدل أسلوبي بالاستماع لأي من الأغنيتين ثانية.

في هذا الصباح أذرع بخطواتي شوارع عيد ميلاد بائسة، وذلك بعد أكثر من ثلاثين عاما، وربما استغرقت ثلاثين عاما لأستوعب ذلك، ولكنني أسمع شيئا غير متوقع، شيئا مثيرا، في أغنية أرى أنها بديهية مستقرة فينا، ولا أبذل أي جهد للانتباه إليها، كان بوي يفتتح الأغنية بينما يتابعها كروسبي، وفي غضون ذلك يبدأ ذلك الجزء المتوائم والمحلق، ويخلف كلاهما الأغنية وراءهما، أو يتخللها غناء أغنية مختلفة.

جميل.

ثم تذكرت شيئا نسيته منذ فترة بعيدة، وتعبرني الذكرى، كما أفترض، إذا جاز القول، مثل مرور الأشباح. كنت في بواكير سنوات المراهقة، في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة. تموز. حر في الخارج. أمي تقرأ أخبار الهاي لاند وهي على طاولة الإفطار. طوت قفا الصفحة الأولى نصفين وقدمتها لي.

قلت: ماذا؟.

قالت: عن أصدقائك. أليس كذلك؟.

كانت صورة لبناتنا. بنات المدرسة كما اتضح لي. وكلهن من صفوف أعلى من صفي. تلك هي شونا. وتلك جانيس. عرفتهما فقد كان بيننا تحيات وسلامات. وأعرف اثنتين إضافيتين. وكن واقفات في الصورة بحلقة صغيرة وعلى ما يبدو في حقل فارغ. ودون أي ابتسامة. تراجيديا بنات تفكرن بحصان. ذكرت الصحيفة قبل أسبوعين أن البنات ذهبن إلى مزاد وإحداهن (شونا جايلز، 16) اشترت حصانا بنقود وفرتها من عملها في يوم عطلة السبت في حانة "كاسل سناك".

وكنت أعلم أنها توفر لتتمكن من شراء حصان في أحد الأيام. وكل من عرفها يعرف هذا عنها. وكنت أعلم أن حانة "كاسل سناك" تدفع لمن يعمل هناك مبلغا سخيفا فعلا لقاء ساعات عمل طويلة. وذكرت الصحيفة أنها ذهبت إلى ساحة المزاد لترى كيف يبدو، لأنها لم تشاهد مزادا ولأنها ذات يوم ستشتري حصانا توفر المال لأجله. وقررت بقية البنات مرافقتها. أول حصان ظهر أمام جمهور مواشي يوم الجمعة كان رماديا، هزيلا ومسكينا، نحيفا، عجوزا، القوائم متعبة، الظهر محني، عين سوداء والثانية ضبابية. ولكن حالما رأته، ولاحظت أن الجزار المحلي يساوم عليه، ولا يوجد مشترون آخرون، رفعت شونا يدها في الهواء.

سألها منظم المزاد عن عمرها. وسألها هل هي متأكدة مما تريد. ونصحها أن لا تتابع. ولكنها رفعت يدها في الهواء. وتركتها مرفوعة حتى هزمت عرض الجزار بخمسين بنسا كاملة.

جلست في المطبخ أقرأ الصحيفة وأفكر، أين ستحتفظ بحصان؟. فهي تعيش في حي مثل حينا. وهم مثلنا، عائلتها، لا يمتلكون شيئا من قبيل حقل أو ما شابه. وكل ما لديهم لدينا مثله، ولا يمكننا إيواء حصان، ولا حتى أي حصان صغير، حتى في حديقة خلفية من مساكن البلدية.

ذكرت الصحيفة: أن مزارعا في السوق، عرض عليها استعمال حظيرة صغيرة مجانا على أرضه حتى تجد مكانا، فأقرضتها بقية البنات بعض نقودهن لتدفع لشخص يمكنه تسليم الحصان في المزرعة. وغادرن جميعا، وشاهدنها من البوابة وهي تقود حصانها الجديد العجوز فوق الوحل والأعشاب.

ثم بعد شرائه بأسبوع بالضبط، ذكرت الصحيفة أن شونا ذهبت إلى المزرعة للاطمئنان على حصانها، ولكن كانت الحظيرة فارغة. ثم شاهدت قوسا رماديا على الأرض. وتبين لها أنه حصانها الميت مرميا على جانبه في وسط الحظيرة.

وقال المزارع لأخبار هاي لاند أن هذا متوقع وحتمي. وكل من لديه منطق وشاهد الحصان توقع ذلك. وهذا ما أشعر به للأوانس. كان ذلك هدرا للنقود. ونقلت الصحيفة أنه تكفل بالتخلص من بقايا الحصان.

نظرت إلى الصورة ثانية. كانت صورة البنات على ما أفترض مأخوذة في الحظيرة الفارغة حاليا، ما لم يكن الصحافيون قد نقلوهن إلى حقل قديم من أجل الصورة لتبدو مثل الحقل الذي مات فيه الحصان.

أعدت الصحيفة لوالدتي.

قلت: ولكنهن لسن صديقاتي.

كان الوقت في شهر تموز. كن محظوظات. لأننا لو كنا نداوم في المدرسة حينما نشرت الصحيفة الخبر، ستمر البنات بكل تأكيد بوقت سيء لعدة أسابيع. ومع ذلك انشغل الناس بهن لفترة طويلة. وحالما يحين وقت المدرسة بعد خمس أسابيع من الآن، سيمحو النسيان الحكاية.

كأنك تضرب حصانا ميتا بالسوط.

قضية صغيرة وتافهة.

وبدأت أفكر: كن حينها بنات حلوات.

راهنت البنات الحلوات بكل نقود يوم السبت على حصان عجوز، ولكن ضاع كل شيء حينما دقت الساعة المشؤومة.

عندما أعمل أعلق معطفي على مسند الكرسي، وأحمل أحد الكومبيوترات المحمولة، وإحدى السماعات، وأتسلل إلى دورة مياه السيدات، وأغلق على نفسي في المكان المخصص لذوي العاهات، وأضع السماعة في أذني، وأفتح صفحة البحث الخاصة على الشاشة.

في دورة مياه السيدات عام 2016، كان بوي عام 1977 تقريبا، غير واضح، متهكما، رقيقا، من فصيلة الهررة، الجميلة والمؤنثة. وحوله جو مشحون قليلا، وتمثيلي. وكروسبي عام 1977 تقريبا كان كبيرا بالعمر كما نتوقع، والخطوط مرتسمة على وجهه كأنه طوي عدة مرات. وكان تقريبا مهذبا بشكل مبالغ به، وصغيرا على نحو غير متوقع، وصدره نحيف.

نهاية قرن تلتقي مع قرن آخر. هل كان بوي يعرف شخصا تتكرم عليه بقرش؟ هل سمع كروسبي أي شيء عن الأبطال؟.

تبع الواحد الآخر على طول طريق عيد الميلاد الإنكليزي التقليدي، مرورا بشجرة عيد الميلاد حتى البيانو. وتبادلا في الطريق كلاما جاهزا. بوي قال لبينغ إنه يعيش في نهاية الشارع. وأخبره بطرفة عن الطابق الأعلى والأسفل، وقال له إنه غالبا يأتي إلى هنا لاستعمال البيانو حينما يكون سيد البيت غائبا. وتظاهر أنه لا يعرف من هو بينغ. وتظاهرا أنهما يقلبان أوراق نوطة موسيقية على البيانو. واختارا أغنية. وهي "الطبال الصغير".

لاحقا، وعلى ما يظهر، أخبر بوي شخصا يجري معه لقاء، أنه أقام العرض لأن أمه تحب بينغ كروسبي. وحينما وصل إلى الأستوديو، وأخبروه أنه عليه أن يغني "الطبال الصغير"، انسحب بالحال تقريبا. وقال إنه يمقت فعلا تلك الأغنية، ولن يغنيها. ولمنعه من مغادرة الأستوديو، حينها، أضافوا لها عدة سطور جديدة. وحينما عزفوا الإضافة أومأ بالموافقة. ثم تمرنا وسجلا الأغنية كلها بحوالي ساعة من الوقت.

على كل طفل أن يفهم، وأن يهتم، وأن يمنح الإنسان، كل الحب الذي بالإمكان.

مات كروسبي بعد أقل من خمس أسابيع من الحفل. وعرض الاسكتش في عيد الميلاد، عام 1977، هناك في أمريكا، وهنا في المملكة المتحدة.

وأطلقت الأغنية في عيد الميلاد، بتسجيل منفرد، بعد خمس سنوات، عام 1982.

كانت غير متوقعة. وتشبه المستحيل. وتفوقت على نفسها. وأصبحت الأغنية القديمة كأنها جديدة.

نزعت السماعة من أذني. وأعدت الشاشة إلى الصفحة الرئيسية. غادرت مقعد دورة المياه. غسلت يدي. وضعت الكومبيوتر تحت ذراعي وعدت إلى المكتب.

كان الجميع متعبين. وأنا أمر بالطاولات ابتسم معظمهم لي فابتسمت بالمثل.

****

هذه قصة عيد ميلاد، في خاتمة المطاف. ثنائية. وبجزئين، فقرة للصيف وفقرة للشتاء.

هل تصغين لي؟ هل تسمعينني؟.

أحدها عن الدماثة اليائسة. حصان هدية.

وها هي الثانية: كان عيد ميلاد في الجنة. جرس الباب يدق. نظف بينغ كروسبي يديه في الصالة ثم ذهب ليفتح الباب.

كان دافيد كروسبي هناك على العتبة المثلجة وذراعاه ملفوفان حوله مثل كل من يشعر بالبرد، ولكن كان تمثيل الفيلم في أيلول عام 1977. والجو غير بارد على الإطلاق.

هذه كذبة.

هذا تزييف.

هذا تمثيل.

وكلاهما جعلانا ندرك ذلك، وهما يعلمان بالأمر أيضا.

ثم غنى لنا كلاهما أغنية عيد الميلاد.

***

..............................

* آلي سميث Ali Smith روائية إسكوتلاندية تجريبية. من جيل ما بعد الحداثة.

في نصوص اليوم