ترجمات أدبية

نيوين دوش تونغ: الطابعة

بقلم: نيوين دوش تونغ

ترجمة صالح الرزوق

***

كان لدى الطابعة ثلاث آلات للطباعة. لا بد أن التي أمامها مباشرة مطلية بطبقة لها لون القشدة الطرية والتي تحولت حاليا إلى لون زيتي، الاثنتان اللتان على يسارها ويمينها، بلون أخضر بارد، لا تزالان جديدتين. طاولتها تقابل الجدار، ونافذة من جهة اليمين تفتح على ممشى إسمنتي بجوار مرفأ العبارات. كنت أقف تحت المظلة في الخارج، بعيدا عن المطر، ونظراتي نحو الداخل. كنت أرى نصف وجهها، منقطا بنمش وردي، وهي تميل قليلا إلى الأمام وأصابعها ترقص على الحروف المعدنية كالمطر. أما مكان عملها فقد كان ملحقا بمتجر "باي لوريل هيربال"، وهي مساحة تكفي لإيواء طاولة فقط، مع كرسي، وخزانة معدنية محشوة بالأضابير. اعتدت أن أحدق بشغف بورق الكربون الأسود، والذي يبدو أنه يفوح بعبير السوس، والقرفة، والعنب المجفف القادم من طاولة المتجر.

الطابعة في حوالي الأربعين، ونحيفة، وشعرها ملفوف بشكل كعكة ومثبت بإبرة قنفذ عنبرية اللون، وتتكلم بلهجة سكان هانوي. ووجهها لطيف ولكنه عملي. وترتدي "أو داي" إما بلون زهر الربيع الأخضر أو الخوخ الناضج، وأصابعها محرومة من الخواتم، وطويلة، وناعمة، والعروق الزرق على ظهر يديها مثل خيوط من الزبرجد. ما أن اعتادت لوجودي أمام نافذتها، حتى دعتني وطلبت مني أن أساعدها ببعض الواجبات البسيطة، وبعد ذلك قدمت لي أوراق كربون قديمة على سبيل الأجر لقاء عملي - وهي أوراق مستعملة ومتهالكة وأصبحت فضية اللون، ومع ذلك احتفظت بها. كنت أستعمل ورق الكربون لطباعة صور جميلة أنقلها من بعض الكتب، وهو ما أثار إعجاب زملائي في المدرسة غاية الإعجاب.

حينها كانت الآلات الطابعة نادرة في حياتنا، وبما أن أي شيء رسمي يتطلب التنسيق والطباعة، كان الطلب على خدمات الطابعة شديدا -  وربما لهذا السبب احتاجت لثلاث آلات، إحداها لعقود الزواج، والثانية لاستمارات الباحثين عن عمل، والثالثة "لتصريح شهادات الولادة". ومع أنها مجرد طابعة، كان عملها يتطلب سرعة بديهة ومهارة فائقة. وغالبا ما تصحح أخطاء إملائية ونحوية يرتكبها العميل، وترشده لكل شيء من شؤون العمل وحتى الحب وخطط الزواج. وكان يأتيها أشخاص بدون عروض بخط اليد، فيملون عليها طلباتهم، وهي تكتب ما يريدون في استمارات صممتها بنفسها. وفي إحدى المرات وقف وراءها شخص مصاب بالربو، صوته متأثر بسنوات من تدخين السجائر، وقرأ عليها طلباته: استرحام لإعادة النظر بالتجنيد الإجباري بسبب ظروف عائلية.. اسم ابني.. مولود في.. مكان الولادة.. مكان الإقامة...  وأقدم هنا الاسترحام طالبا من الحكومة إعادة النظر بالقرعة المفروضة على ابني، لأنه ابني الوحيد، ولا يوجد غيره للاعتناء بشؤون العائلة، وأمه ليست بحالة جيدة، وابنتي لا يعتمد عليها. التفتت الطابعة. وقالت: لماذا تقول لا يعتمد على ابنتك؟. ابتسم الرجل وقال: حسنا. يمكنك تدبر عبارة بديلة بهذا الخصوص.

وكان لديها عدة أكوام من الصحف والمجلات القديمة لزبائنها كي يتصفحونها في حجرة الانتظار. كنت أجلس في كرسي صغير خلف الباب، وأقلب في المجلات الحكومية مثل "الحرية"، بصورها الملونة الجميلة، "عطر الوطن" التي تنشر القصص القصيرة من جنوب البلاد لكتاب منهم بنه نيوين لوش أو صون نام، وبعض الصحف الخاصة مثل "الاستقلال"، "السلام"، و"تسونامي"، وطيلة الوقت أستمع لحوار، مرتفع أو هامس، بين الطابعة وزبائنها. وأحيانا تنهض لتشعل موقد الكيروسين في زاوية الغرفة البعيدة، من أجل إعداد الشاي- تظهر شعلة زرقاء مرتجفة، ويغلي الماء، ثم تسكبه في إبريق من السيراميك مليء بأعواد شاي "كوان تين"، بعد ذلك تصب سائلا أخضر في كوب رقيق، وأحيانا تقدمه لي، وهي تتحرك بخطوات مضيئة بين أكوام من الأضابير.

وكان مكتبها، الكائن في شارع مغمور في طريق يقود إلى النهر، مزدحما بالأشياء، وبلا لافتة كأنه ملحق فقط بمتجر الأعشاب. ومع أنها لا تهتم بالإعلان عن نفسها، يجد الجميع طريقهم دائما إلى هناك. وأمام مكتبها البسيط تقف شجرة توت أبيض عجوز، بثمار توت حمر وأوراق خضر لطيفة - ولكن الشجرة اليوم ميتة. في تلك الأيام، خلال الخماسين أو المواسم الجافة، وحينما تتأخر العبارة ساعات لتعبر بي النهر إلى البيت، أتوقف في مكتبها. كانت تعمل صامتة، ولكن أحيانا تلتفت لتنظر نحوي بعينيها الدافئتين والباسمتين. وبين حين وآخر يظهر جنتلمان أكبر منها، له شعر مدهون بالزيوت، وجلد أشهب، وخدود بارزة العظام، وقميص منشى أبيض، ومظلة سوداء مبلولة بالمطر أو لماعة، ويتكلم معها من خارج النافذة. كان يدفع نقدا لقاء أعمال ورقية، وأحيانا يتبادل معها عدة كلمات قبل أن يتابع. وفي تلك الأوقات تقف وراء طاولتها وترد على تحياته وهي تستند على النافذة بذراعيها المعقودين أمام صدرها. وبعد رحيل ضيفها، بقيافته الذكورية، تميل برأسها، وتغلق عينيها، وتبتسم ابتسامة غامضة، وتواصل عملها.

وتستمر الحياة هكذا، من عام دراسي إلى آخر، كما لو أن كل شيء يجري بهدوء، وكأن الزمن لا يتوقف ولا شيء يتغير. رغم الثورة والحرب ثم كل هذا الموت والاحتضار الذي أعقبه - في تلك الأوقات لم نكن نفهز ولا نتوقع هذه الأمور. 

أحيانا أتخيل الطابعة مثل مي، بطلة "الاعتدال الربيعي"، وهي رواية قوية للكاتب كاي هونغ نشرت في فترة الاستعمار الفرنسي. توجب على مي، وهي امرأة متعلمة من عائلة فقيرة مات والدها في شبابه، أن تعمل لتعيل أخاها الأصغر الذي يدرس في ليسيه محمية بوميلو في هانوي. وكانت نقية وجميلة وذات مبادئ، ووقعت بحب لوش، الرجل الشاب الذي ينتمي لعائلة غنية، ولكن تآكل حبهما بسبب الحواجز الطبقية والاقتصادية. أحيانا أتخيل نفسي بمكان هوي، الأخ الأصغر لمي، الذي يحب أخته ولكنه يشعر بالضعف أمام قوة القدر. وكنت أجلس معظم الوقت، بترقب، لأشاهد كيف تصعد مفاتيح الطابعة وتهبط كأنها رقاقات تفرقع تحت أصابع الطابعة الرشيقة.

بدلت الحرب الاتجاه بلا إنذار. في يومين وليلتين انسحبت كتائب المشاة المتمركزة في قاعدتي إي تو ودونغ ها التابعة لمنطقة كوانغ تري، وعبرت النهر بكثير من الفوضى، وخلفت وراءها دبابات وعتادا - وسيكرر المشهد نفسه بالضبط بعد ثلاث سنوات في أجزاء أخرى من البلاد. هرب المدنيون والموظفون الخائفون، ولكن منعهم من متابعة طريقهم قصف مكثف على الطريق السريع. وتخلخلت صفوفهم نحو الأمام والخلف مثل النمل على صفيحة حارة وذلك تحت شمس نيسان. كان الهواء راكدا وحارا، والتهبت الأشجار المزهرة حديثا بألسنة النار، وذابت، لكنها لم تمت، وجفت جذوعها الجديدة غير أنها لم تسقط. في آخر يوم قبل أن أغادر بلدتي، تجولت في الطريق الفارغ. كان السطح الإسفلتي يذوب تحت سماء شاسعة. وتمدد الضوء المزعج على الأرض، ولم يكن يشبه لا ضوء الحرب ولا السلم. وتخلل الأفق لون أزرق رمادي بليد، كما لو أنه يسبق الخسوف. مشيت على طول الحدود الفاصلة بين العتمة والنور، ولكن حتى هذه الحدود كانت تتحرك بسرعة شديدة. لم أتمكن من اللحاق وتعثرت في خنادق وجثث توزعت على طول الطريق السريع 1، قرب تقاطع  لونغ ها Long Hưng.

عدت مشيا إلى مركز البلدة، ووصلت إلى أمكنتي المحببة، مررت بمكان بعد الآخر. مدرسة ثانة تام، مدرسة نيوين هوا، مكتبة لونغ يان، ومكتبة فو لونغ، ومكتبة تاو دا. ودعت مرابع طفولتي لآخر مرة. وتخيلت أنني الوحيد الذي يودع مرفأ عبارات سوق المنطقة، بدرجاته الكثيرة المغطاة بحراشف السمك الأبيض التي تفوح منها رائحة السمك، ومعبد تن ها بأجراسه الصامتة تحت مظلة من الأشجار الصينية،  ومتجر الأقمشة المكدس بالحرير وكانت أمي تزوره تكرارا، والبائعة المبتسمة التي تغطي فمها بيد واحدة، ومطعم والدي المفضل الذي يقدم دم البط، ومتجر النودل المفضل عند أختي، وصالة البليارد التي يحبها أصدقائي، حيث أقف لوقت طويل، وأنا أراقب الكرات الحمر والزرق وهي تتدحرج بحنان في زاوية من طاولة اللعب. حملتها وأصغيت لصوتها حينما تركتها من يدي.

في شمس نهايات ما بعد الظهر، تلمع المدينة وتذوب كأنها قصة خرافية. تسكعت أمام بيت زميل دراسة قديم وأمامه شجرة لوكوما وسريعا ما ستكون بيضاء يتخللها أزهار الربيع.  وكانت البوابة الزرقاء مغلقة الآن وسيغطيها شبكة العنكبوت عاجلا. تعانقت حمامتان بيضاوان على شرفة من القرميد قرب بركة صنعها المطر تطفو عليها ورقة لوتس نصف ممزقة.

ذهبت إلى مكتب الطابعة ولاحظت أن الباب لا يزال مغلقا، والقفل بمكانه، ولكن النافذة مفتوحة. تلفت حولي بعض الوقت، ودخلت من النافذة، وأشعلت الضوء - لا توجد كهرباء، ربما غادرت الطابعة مع عشرات ألوف النازحين بسبب الحرب، ومثلهم، توقعت أنها ستعود خلال أيام، حينما تتحسن الحال. ومن أوراق الكربون المبعثرة على الأرض، ميزت الرائحة الصينية العشبية: اللوز المر، والخوخ السكري، والقرفة. وكانت الطابعات الثلاثة موجودة وسليمة على طاولة الطابعة. اقتربت من الطابعة الوسطى ذات اللون الكريمي - وعليها رخصة زواج، مطبوعة، وكانت تبدو مرتبة ورسمية. وعلى يسارها الآلة الطابعة الزبرجدية، وفيها ورقة أخرى، نصف جاهزة. نظرت إلى أول عدة سطور:

تبرؤ من رابطة عائلية

أثارت هذه الكلمات الغريبة فضولي. سحبت الورقة وقرأت:

نحن - و - ابننا، - المولود في -، هو طالب في الصف التاسع في -. تقدمنا بهذه الوثيقة العامة، لتنشر في الصحف، ولنعلن أنه، من هذا اليوم فصاعدا، لن نعترف بعد الآن - أن ابننا - من العائلة. السبب: - أنه غير مطيع وغير مهذب، ويهمل واجباته، وقد غادر بيته ليتبع أوبرا كيم شونغ المتنقلة ويرافقها.

مع التقدير محررة في  -

وقفت لفترة طويلة في الغرفة المعتمة، والشمس تغرق ببطء تحت غابة قيقب "نه بايو" على الطرف الآخر من النهر،  ملونة السماء بلون الرمان. على السقف الأحمر القرميدي أطلق عصفور صيحة مكبوتة يمكن سماعها، وتبعها أصوات رقيقة ناجمة عن سقوط الأغصان، وكان احتمال كسر عش طائر مدعاة للتشاؤم، وزاد من ركود الهواء الخانق للبلدة المهجورة. فكرت بالرجل الشاب المجهول وغير المعروف، وربما حتى هذه اللحظة لم يعلم بالخبر الصادم ولا ببراءة والديه منه -   والدان أحباه ولكن بطريقة قاسية. إلى أين ذهب والداه؟. إلى محطة قطار لانغ كو أو مرفأ دا نانغ؟. أم هل فقدا حياتيهما أثناء الإجلاء؟. وفكرت بجماعة الأوبرا الجنوبية التي أتت إلى هذه البلدة الحدودية لتقدم عروضها في العام الجديد، حينما كان السلام سائدا. ربما في الفرقة مغنية جميلة ذات صوت منوم، غادرت في اليوم التالي دون أن تعلم أنها استولت على قلب طالب صف تاسع، ولكنه كان يفضل الموسيقا الشعبية والأوبرا الكلاسيكية على حياة الطلبة.  ثم تعلم العزف بأدوات النفخ وقرر الهرب من بلدته ليتبع طريقها حتى سايغون. وربما سيبلغ في أحد الأيام الشهرة وهو في العاصمة، ثم يعود منتصرا إلى بلدته ومعه محبوه وجماعته. أو أنه قد يمضي بطريق خاطئ، ولا يحظى حبه للفن غير الرفض، أو لا يقدره أحد، وينتهي به الحال إلى الفشل والتشرد والجوع، وذات يوم، سيقف في الطريق، وينظر لشمس الغروب ويحن لبلدته.  ولكن بلدته تحولت إلى أنقاض - مثل صخور محطمة وذهب فاسد، كما ورد في المثل، ولم يتبق مكان يمكن أن يقول عنه إنه وطنه.

وربما بعد عشر أو عشرين سنة، سيمنح الوالدان وابنهما المفقود فرصة للصلح في بلد أجنبي. كيف؟. لا أعلم. ولكن لا بد من طريقة. لأن الآباء والأبناء، والأخوة والأخوات، الذين مروا بخلافات في الحياة أو اختلاف في وجهات النظر، لم يمكنهم أن يعيشوا متباعدين إلى الأبد.  

هل سيبحث الوالدان، في ذلك الوقت من المستقبل البعيد، عن الطابعة التي كتبت له براءته العائلية؟ وهل سيطلب منها أن تعيد له تلك الورقة التي اصفرت الآن بسبب الوقت، ويحرقها ببطء حتى تصبح رمادا بينما صوت طباعتها يدفعه للتفكير بنور الربيع في الظلام؟.

كالنائم طويت الوثيقة، وضعتها في جيب سروالي، وزررته. قفزت من النافذة، ثم أغلقتها ورائي، وانصرفت.

***

........................

* الترجمة من الفيتنامية: Thuy Dinh

* نيوين دوش تونغ  Nguyễn Đức Tùng شاعر وناقد ومترجم كندي / فيتنامي. يعيش في فانكوفر (كولومبيا البريطانية).

في نصوص اليوم