نصوص أدبية

مروان الدليمي: نحن ما زلنا هنا، لكننا نأكل الهواء

أفتح نافذة القلب على رائحة الخبز المفقود.

الجوع يقف هناك،

على الرصيف،

يضحك

كأبلهٍ في جنازة.

أقول له:

أنت لست فكرة.

أنت أسنان تنهش الهواء،

وأصابع تبحث عن عظام الطير في القمامة.

لكنك تصمت،

مثلما تصمت الشجرة حين يصفعها الغبار.

*

أرى العصافير تتقيأ أجنحتها،

ترميها كرسائل غير مرسلة،

وتقف حافيةً في فناء غزة،

حيث الوقت يمشي على ركبتين

والماء يتلعثم في فمه.

الجوع ليس ظلاً،

هو جنديٌّ أعمى

يخيط الليل على العيون،

ويتركنا نضحك من الألم

كأننا نضحك من نكتةٍ قاسية

في وجهٍ غارق بالدموع.

*

أمدّ يدي.

كل ما ألمسه يتحول إلى رماد ساخن.

الأحجار نفسها تصرخ،

والشمس، تلك الأم الهاربة،

تضع رأسها في الفراغ،

تغني بصوت خافت

كأنها تسخر من موتٍ يتكرر كل ساعة.

*

في الشارع،

يرقص الغبار كعجوزٍ سكران،

يحمل على ظهره صرخات الصغار،

ويبيعها بأبخس الأثمان في سوق الليل.

الجوع

يصفّق بيدين من عظام،

يضحك حين يرى القدور فارغة،

كأنه مهرّج بائس

يسخر من أحلامنا التي تشبه خبزاً يابساً

ينكسر قبل أن نلمسه.

*

في غزة،

حتى البحر صار يتذمر،

ماؤه مرّ

كأنه شرب الدخان وأدمن طعم الحديد.

الأمواج تصرخ في وجهنا:

"هل أنتم أحياء،

أم مجرد ظلال تمشي بلا أصوات؟"

*

أضع أذني على الأرض،

أسمع نبض الجوع

كأنه طبلٌ قديم

يستدعي جيوشاً من الذكريات الميتة.

أسمع أيضاً ضحكة ساخرة

تأتي من بائع الخضار،

الذي صار يبيع الهواء،

يقول: "خذوا هذا النسيم، طازج من الحقول!!  "

ثم يضحك

حتى يسقط على الأرض

ويكاد يبكي.

*

الغروب حزين.

يلبس وجهاً بلون الصدأ،

ويمد ذراعيه ليغطي العراء،

لكنه يكتشف أن لا شيء يستحق الغطاء.

حتى الظل هرب،

تركنا مثل مقاعد مهجورة في ساحة مدرسة مدمرة.

*

وأنا ....

أنا أجلس في منتصف الليل

كأنني آخر سائح في مدينة أكلها الجوع،

أكتب رسالة فارغة

وأوقعها باسم كل جدارٍ تعلم الصبر،

ثم أضحك،

لأن الضحك آخر ما يمكن أن نهديه للحياة

حين تسرق كل شيء وتتركنا عراة.

*

أنا الجوع.

لا تظنوا أنني فكرةٌ عابرة،

أنا كائنٌ من لحم الظلال،

أتنفس من أفواهكم الفارغة،

وأحيا في الصمت الذي يسقط من العيون.

أتمدد مثل قطةٍ جائعة

على أرصفة غزة،

أشمّ بقايا الخبز،

ألحسُ الطين وأبتسم،

كأن الطين صار ولدي المدلل.

*

أطرق أبوابكم في الليل،

أدخل بلا استئذان،

أجلس بينكم

كضيفٍ يعرف أن حضوره أقوى من كل الصلوات.

أضحك حين يشتمني الأطفال،

أضحك لأنني أعرف

أن ضحكاتهم الصغيرة،

تحت وسائدهم،

تحولت إلى عظامٍ بيضاء تنتظر حليب الغيم.

*

هل رأيتم البحر؟

أنا من جعلته أزرقَ حزيناً،

أوهمته أن الملح دموع،

فصار يبتلع صرخاته ويختنق.

أنا من سرق الدفء من النار،

وتركتها تتلوى كأفعى عاجزة عن العضّ.

*

أنا لست عدوكم فقط،

أنا مرآةٌ صادقة،

أقول لكم:

هكذا أنتم بلا قمح،

بلا زيت،

بلا ماء.

هكذا أنتم... مجرد أصواتٍ تطرق جدار العالم

ولا يفتح لها أحد.

*

وأضحك.

لأن الضحك آخر ما تبقى لي

كي أبدو أقل وحشيةً

حين أرى قلوبكم تتحول إلى حجارة

لا تشبع أبداً.

*

في الليل،

تأتي الريح مثل بائعة هوى عجوز،

تغني للجوع أغنيةً بلا لحن،

وتوزع بردها على البيوت كأكياسٍ فارغة.

*

القمر،

ذلك الوجه الشاحب،

يضحك ببرود،

يمد لسانه من خلف الغيوم،

ويشير إلى غزة:

"أنتم عراة حتى من الضوء."

*

الأشجار تخلع أوراقها

كمن يلقي آخر أسراره في النهر،

تنحني،

تستجدي الظلّ،

وتبكي على جذورها التي لم تعد تجد ماءً ولا خبراً من الطيور.

*

السماء،

أمٌّ غاضبة،

تسكب نجومها على الأرض

كأنها زجاج مكسور،

ثم تصمت،

تصمت كمدينةٍ اختنقت بأدخنة القنابل.

*

حتى النار،

تآمرت مع الجوع،

صارت تبرد كأنها تخجل من دفء غائب.

وأنا،

أجلس تحت هذه السماء المعتمة،

أعدّ أصوات الأشياء

وأسمعها كلها تقول الكلمة ذاتها:

جوع،

جوع،

جوع.

*

أضحك.

لأن الضحك صار طريقتي الوحيدة

لأقول للعالم:

نحن ما زلنا هنا،

لكننا نأكل الهواء

ونتحدث إلى الرماد

كأنه آخر من بقي ليسمعنا.

*

في الفجر،

يمشي الضوء على عكازين من رماد،

يرتجف،

كأنه شيخٌ فقد ذاكرته في أزقة غزة.

أمدّ يدي نحوه،

فأرى أصابعي تتحول إلى طيورٍ محروقة

تسقط بلا صوت.

*

الجوع هناك،

يجلس على درجٍ مكسور،

يمضغ ضوء النهار

كما يمضغ عاشقٌ ماضيه،

ويراقب السماء

كمن ينتظر معجزة تتأخر عمداً.

*

العصافير صارت أرقاماً،

تعدّ أيام الحصار

بمنقارٍ مبلل بالبكاء،

والقطة التي في الزقاق

تلعق جرحها،

تلعقه كأنها تمحو اسمها القديم.

*

حتى الضحك،

ذلك الصعلوك الهارب،

يلتف حول عنقه حبل الصمت،

يختنق،

ثم يعود كصرخة مكتومة في حلوقنا.

*

أسمع الحجر يتكلم:

"لقد تعبتُ من حمل أقدامكم،

من دفن دموعكم في ثقوب صدري."

ثم يبتسم الحجر،

ابتسامة ساخرة،

كأنه يعرف

أن أحداً لن ينقذه من صمت الجوع.

*

أفتح فمي كي أصرخ،

لكن صرختي تخرج كريحٍ بلا اتجاه،

تتسلق الجدران،

وتسقط،

تسقط مثل ظلّ فقد جسده.

*

غزة الآن،

ليست مدينة،

بل صدرٌ هائل يعلو ويهبط

كأن العالم كله محشور في رئتيها.

*

الجوع يقف في المنتصف،

يحمل ساعةً بلا عقارب،

ويقول للوقت:

"أنت مجرد وهمٍ قديم،

أنا من يصنع الدقائق

بأنياب الفراغ."

*

أرى الأزقة تتلوى مثل أفاعٍ عمياء،

تبحث عن دمٍ جديد كي تبقى حيّة،

وأرى الأسطح تتحول إلى أذرع طويلة

تمدّ أصابعها إلى السماء،

تسأل عن المطر

كطفلٍ نسي اسمه.

*

حتى الظلال تتقاتل،

كل ظل يريد أن يسرق مكان الآخر،

كأن الضوء نفسه أصبح فكرة عنيفة.

*

الجوع الآن أسطورة:

ملكٌ أسود

يرتدي تاجاً من دخان،

يسير في المدينة

كما لو كان كاتب مصائر،

يضع توقيعه على البطون

ويتركها تغني أغنية العدم.

*

أنا لست سوى شاهدٍ يتأمل،

أضحك بمرارة،

لأن السخرية آخر ما يمكن أن يقاوم هذا الخراب،

وأكتب،

لأن الكتابة هي آخر الفتات

الذي نقتسمه مع الحياة

قبل أن تبتلعنا الأسطورة كلها.

***

مروان ياسين الدليمي

في نصوص اليوم