ترجمات أدبية
أيوبامي أديبايو: العودة إلى البيت

بقلم: أيوبامي أديبايو
ترجمة: د. صالح الرزوق
***
لم تشاهده أرملته وهو يدخل، ولكننا شاهدناه. كان بنفس الثياب التي ارتداها حينما ذهب إلى العمل قبل حوالي خمس أسابيع. بذة سوداء، قميص أبيض وربطة عنق هزيلة زرقاء. وقف بالباب لحظة، كأنه يتوقع أن تنظر إلى أعلى، وتبتسم له وتعتذر. جرت أطراف غطاء رأسها، وقلبت صفحة الجريدة التي كانت تقرأها. أغلق الباب، وذهب إلى مكان الجلوس دون أن يخلع نعليه. ربما اعتقد أنه سيدفعها للكلام معه. فقد تشاحنا عدة مرات بسبب نوع الأحذية التي يمكنه أن يسير بها فوق البساط الكريمي الذي يغطي الأرض. وضعت الجريدة في حضنها، ودعكت ذراعها بطريقتها المعتادة كلما شعرت بالبرد. حينما خلع سترته، شاهدناها: بقعة الدم الواسعة التي غطت ظهره من عظام كتفيه إلى النقطة التي اختفى بها قميصه في سرواله. كان القميص ملتصقا بظهره، ومن الواضح أنه مبتل، وكأنه بعد خمسة أسابيع، لا يزال مكان الجرح الذي قتله ينزف. طوى السترة نصفين، ووضعها على ذراع كرسي جلد أسود، كان يجلس عليه دائما بعد أية مشاحنة كبيرة. ولكنها لم تتخلى عن كرسي الحب الذي اشترياه بعد شهرين من زواجهما. وكان هو الذي يستيقظ متنهدا ويذهب إلى كرسيه الأسود. ولا نعتقد أنه أخبرها أنه هدية من لوب، صديقته الحميمة السابقة، والتي اعتقد أنه سيقترن بها. جلس في المقعد الجلدي ومد ساقيه وانتظر. ماذا ينتظر؟. الحقيقة أنه خلال عشرة شهور من الزواج، كانت هي التي تبادر بالاعتذار. وهكذا تنتهي مشاحناتهما بنفس الطريقة، تقع على ركبتيها أمامه، وتطلب المغفرة، حتى لو أنه هو المخطئ. وبعد أن تعتذر، يربت على شعرها ويقول إنه متأسف بدوره. أصابنا هذا الإيقاع المتكرر بالضجر. فالزوجان اللذان غادرا، قبل مجيئه منذ أربع سنوات مضت، كانا مسليين أكثر. في تلك الليلة، انتظرها حتى تنتهي من تقليب صفحات الجريدة ببطء، فقد كانت تقرأ كل مقالة بالطريقة التي اتبعتها كل ليلة منذ أسبوعين بعد أن رحلت أمه وأمها وبقية المعزين. نظف حنجرته بين حين وآخر، ومنحها نظرة جانبية. لا بد أنه أدرك أخيرا أنها لن تركع أمامه في تلك الليلة. ولذلك فعل شيئا لم يفعله من قبل، وبادر إلى الكلام معها قبل أن تعتذر إليه. وقال لها: "أتيت إلى البيت بالتاكسي. وكان السائق حلو المعشر. ولم يتقاض النقود مني. تخيلي هذا في لاغوس" - وتابع بصوت هامس: "ولكن ماذا عن سيارتي. ماذا حصل لسيارتي".
وحينما أغمض عينيه ودمدم بصوت خافت عن سيارته، قلبت صفحة أخرى واقتربت من منتصف الجريدة، وكانت نعوته منشورة بجوار إعلان عن زيت المحركات. وهنا فتح عينيه. وقال وهو يمد أصبعه باتجاهها: "ماريا. عليك في هذا الصباح أن تتعلمي كيف تثقين بي. نعم. كنت أدردش مع لوب ليلة أمس، ولكن لم يكن عليك التجسس على هاتفي. هذا ليس من حقك". وتراجع بظهره إلى الخلف، بعد أن قال ذلك، ورماها بنظرة نافذة.
نظرت قليلا إلى الأعلى، نحوه، وباتجاه الكرسي التي قالت لأمها إنها ستحتفظ بها، لأنها المفضلة عنده. وعندما هزت رأسها ببطء وعادت بنظرتها إلى الجريدة، تنهد وقال: " حسنا. لديك حق أيضا. ولكن. لكن. عمليا لا مكان للاستدراك. لديك كل الحق بالنظر في هاتفي. وما دمت فعلت ذلك، لا بد أنك لاحظت أنني كنت أخبر لوب كيف علينا أن نتابع حياتنا. انظري. هل استمرت المحادثة لوقت طويل؟. ربما. ولكن هذا لا يعني أنني استيقظت لأثرثر معها. أنت تعلمين أنني كنت أبحث عن أكا ACCA (رابطة المحاسبة الرسمية المسجلة - المترجم). لهذا السبب استيقظت. أما الكلام معها فقد كان مجرد شيء جانبي". فركت عينيها بقفا يدها اليمنى، ثم نظرت إليه، وشفتها السفلى بين أسنانها، والأسف في عينيها، فقال وهو يميل إلى الأمام في كرسيه: "انظري. أعلم أنك تعتقدين أنني لا زلت أكن عاطفة نحو لوب، ولكنني تزوجت منك يا ماريا. اسمعيني. بعد أن أرسلت صورة صدرها في الليلة الماضية، توقفت عن الكلام معها. أنت قرأت المحادثة. وتعلمين أنني لم أعلق بعد ذلك. وإذا كنت تتوقعين أنني محيت الأشياء التي تفوهت بها، لماذا لم أمح الصورة أيضا؟. ربما كان علي أن أخبرها، حينما أرسلت الصورة، أن ترحل، ولكن رأيت، رأيت أن الصمت أفضل".
كان يقول الحقيقة. ورأيناه يهز رأسه ويقلب هاتفه على وجهه فوق طاولة الطعام المغطاة بالزجاج، بعد أن ظهرت الصورة. ثم ذهب إلى كتبه واستمر الهاتف على ذلك الوضع حتى انتقل إلى الحمام حوالي الخامسة صباحا.
ماريا كانت ثاني شخص يلمسه. وهكذا اندلعت آخر مشادة بينهما. وحينها كان في الحمام. واستمرت حتى نهاية استحمامه واستحمامها. ارتفعت أصواتهما وهما يلبسان الثياب. كان أسرع بارتداء ملابسه، حتى أنه وضع ربطة عنقه الرفيعة الزرقاء في جيبه عوضا عن ارتدائها. تبعته إلى الباب، قبل أن تزرر قميصها المفصل، وهي تصيح بالأسئلة التي رفض الإجابة عنها. صفق الباب وهو يغادر، فاتكأت على واحد منا، وتنهدت قبل أن تخبط الأرض عائدة إلى غرفتهما للانتهاء من ارتداء الثياب من أجل العمل.
والآن زفرت وهي تقلب صفحة أخرى ولكنها لم تصل إلى منتصف الجريدة، وكان أمامها قراءة صفحتين قبل أن تصل إلى إعلان زيوت المحركات، ولكن الدموع كانت تسيل على خديها مسبقا. وقف ليجلس قربها في كرسي الحب الرمادي. وعندما جلس، لم تحرك ساكنا، ثم ارتجفت بشدة وسكنت مجددا. جففت وجهها بيديها ونظرت إلى المكان الذي جلس فيه على يمينها. لا بد أنها شعرت بوجوده. على نحو ما، شعر جسدها بما لم تراه عيناها. جلسا بتلك الطريقة لعدة لحظات، يتبادلان النظرات من وجهيهما ولكن لم يشاهد الآخر غير واحد منهما.
قال: "آسف. آسف لأنني جرحتك".
مدت ماريا يدها نحوه. وسمحت ليمناها أن تحوم بجانبه وهو على كرسي الحب، بحوالي عدة بوصات فوق ركبتيه اللتين لا يمكنها رؤيتهما. ثم سحبت يدها، ووضعتها على قلبها. لمس أطراف اللفاحة السوداء التي تغطي رأسها، وفرك النسيج بإبهامه وسبابته قائلا: "هيا. كلميني. ألم يدهشك اعتذاري منك أولا؟". وجر اللفاحة، وكشف رأسها الحليق وتابع: "ماذا يا - ماريا؟ أين ذهب شعرك؟".
لم تذرف ماريا دمعة واحدة حينما حلقت شعرها بعد اليوم الذي تأكد لها أن الجثمان الذي سحبه ضابط المرور من بين الحطام على ثالث جسر أساسي هو جثمان زوجها. جلست بظهر متصلب ووجه جامد بينما إحدى شقيقات زوجها تشذب بمقص شعهرها البني الطويل والغزير المنسدل على كتفيها. ولكن استندت أم ماريا على أحدنا، وغطت وجهها بكلتا يديها، وانخرطت بالبكاء. جلست ماريا في الكرسي التي يجلس عليها زوجها حينما يدردش مع لوب، وقلبت في كتاب مدرسي نسي وضعه جانبا أثناء خروجه المتسرع من البيت. سقط بعض شعرها على الصفحات. وسالت دموعها لاحقا، بعد بكاء الجميع - أمها، أمه، أخواتها، أخواته، والنساء اللواتي أتين لتعزيتها وللتأكد أنها تعبر عن أحزانها بطريقة صحيحة - ثم عدن إلى بيوتهن وأزواجهن.
وصلت الآن إلى صفحة النعوات في الجريدة. رفعتها كما تفعل دائما حينما تصل إلى هذه الصفحة، تحركت إلى اليسار، لتقترب من مصباح النور، وكأنه يشع ما يكفي على ما تقرأ، أو أنه سيغير شيئا، من الكلمات، أو من صورة الرجل الذي تزوجته.
عندما رفعت الجريدة، وقف ومال نحو الأمام، وأصبح ينظر مباشرة إلى وجهه. كانت الصورة ملتقطة في يوم زفافهما التقليدي. وخلاله كان مكللا بالبني والذهبي. علق حبلين من خرز المرجان حول رقبته، وكان فمه مفتوحا على سعته، وكان بمنتصف ضحكته. هز رأسه وهو يحدق بالصفحة، وبالإعداد لجنازته، وبقائمة الأصدقاء الذين وقعوا بأسمائهم في الأسفل من جهة اليمين. ثم قال: "ماريا. يا ماريا. توقفي عن هذا الهراء. أنت تسمعينني، يا ماريا، يمكنك سماعي. أنا حي يا ماريا. وأنا هنا".
غطت الوجه في الجريدة براحتيها، ونكست رأسها، وبدأت بالنحيب. صاح وهو يبتعد عنها: "هيا". وقف في وسط الغرفة، يراقب بكاءها، ويهز رأسه مرارا وتكرارا. ثم قال: "أنا حي. حي".
ثم جاء إلى واحد منا، الأقرب منه. وربما فكر أننا سنكون معيارا يعاين به حالته. وعندما لصق جسمه بذلك الجدار وأغلق عينيه بقوة، شعر كل منا أنه يحاول أن يخترقنا، وأن يمر من الطلاء والإسمنت والفولاذ نحو الجهة الأخرى. ولكنه لم يمر، وفي مكان ما من الجدار الذي شكلناه نشأ صدع. حينما فتح عينيه، نظر حوله، ووجد أنه لا يزال في غرفة المعيشة لا غرفة النوم. ابتسم، وذهب إلى ماريا وركع أمامها.
قال: "انظري. أنا هنا. وحي أرزق. عليك أن تصغي لي. توقفي عن البكاء. توقفي. رجاء".
ثم حاول أن يعانقها. ولكن اختفى ذراعاه في جسدها ولم يعانق ماريا، بل علقت يداه فيها. وعندما سحبهما إلى الخلف، شهقت وضمت كتفيها، في المنطقة التي لمستها يداه. انتقلت نظرته إلى الأمام والخلف بين يديه ودمعتها - ووجها المخطط بالدموع. وقال: "لا. هذا مستحيل".
وحاول مجددا. في هذه المرة حاول أن يعانقها من خصرها، ولكن علقت يداه في داخلها، وعندما تمكن من تحريرهما من بطنها، صاحت، وأمسكت بطنها، وانثنت على نفسها.
قال وهو يحدق بيديه: "آه يا إلهي".
انزلقت الجريدة من حضنها وهي تنثني. وتوزعت الصفحات على الأرض حول قدميها. قلب في الصفحات، واحدة واحدة، حتى وجد النعوة. حرك إبهامه فوق كل حرف من عبارة "رحل باكرا جدا" وحتى آخر كلمة من نعوات الصفحة. وبعد أن انتهى، كور يديه بشكل قبضتين وبدأ يصيح. ثم تحولت الأصوات التي صنعاها، نواحها وعواؤه، إلى موجة واحدة هزت أغطية النوافذ.
***
........................
أيوبامي أديبايو Ayobami Adebayo كاتبة نيجيرية. أصدرت كتابها الأول عام 2017 بعنوان "ابق معي". صدر لها أيضا "سحر الأشياء الصغيرة" عام 2023.