ترجمات أدبية

ماري جيتسكيل: أبي الصغير المبتسم

بقلم: ماري جيتسكيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان مستلقياً في كرسيه الهزاز، بالكاد مستيقظاً بما يكفي ليشعر بالحلم يتحرك تحت أفكاره مباشرةً. بدا مثل حلم من تلك الأحلام النقية الجميلة التي يعود فيها شاباً مرة أخرى، ويغمره إدراك أن الأصدقاء الذين ماتوا، أو رحلوا، أو قرروا أنهم لم يعودوا يحبونه، كانوا في الحقيقة هناك طوال الوقت، يحبونه. تذبذب جزء من الحلم، فتمكن من تمييز شفتين وعظام خدين لامرأة حنونة، تبتسم بينما تميل نحوه. دقّ الهاتف، فانتشر الصوت خلال يقظته المرنة، متسللاً إلى الحلم المنتظر. لكن زوجته كانت قد رفعت صوت جهاز الرد الآلي مرة أخرى، فهاجمه بزئير مشوّش ومكتوم تحوّل إلى صوت صديقه نورم.

شعر بالامتعاض لاستيقاظه، والامتنان لأن أحداً اتصل به هذه المرة، فنهض ليرد. التقط الهاتف، وصدر صوت صراخ جهاز الرد الآلي من السماعة. سب بينما يعبث به، وهو يكره أصابعه المتصلبة. بتهيج، تبادل التحيات مع صديقه، ثم قال نورم بصوت غريب الثقل:

"رأيت عدد مجلة (سيلف) الذي فيه كيتي."

انتظر تفسيراً. لم يأتِ شيء، فقال: "ماذا؟ عدد (سيلف)؟ ما هي (سيلف)؟"

"يا للهول، ستو، كنت متأكداً أنك رأيته. الآن أشعر بالحرج."

تقدم الحلم ثم تراجع مرة أخرى.

"الحرج من ماذا؟"

"ابنتي لديها اشتراك في هذه المجلة، (سيلف). وقد نشروا مقالاً كتبته كيتي عن الآباء والبنات يتحدثون مع بعضهم، وهي... حسنًا، كتبت عنك. وقد قرأت لي لوريل المقال."

"يا إلهي."

"من السخافة أن أكون أنا من يخبرك. فقط ظننت—"

"هل كان سيئاً؟"

"لا، لم تقل أي شيء سيء. فقط لم أفهم الفكرة منه كله. وتساءلت ما رأيك."

أغلق الهاتف وعاد إلى غرفة المعيشة، وهو الآن مستيقظ تمامًا. كانت ابنته كيتي تعيش في ساوث كارولينا، تعمل في متجر أسطوانات مستعملة وتصنع تماثيل حيوانات تبيعها بطلب مسبق. لم تكتب أي شيءٍ يعرفه من قبل، ومع ذلك فقد نشرت مقالًا في مجلة وطنية عنه. رفع ذراعيه ووضعهما على حافة النافذة؛ حيث برد الهواء القادم من النافذة المفتوحة تحت إبطيه. في الخارج، كان الكلب الصغير للعائلة المجاورة يتجول بلهفة على الرصيف، يبحث عن أحد لينبح عليه. ربما كانت قد كتبت مقالًا عن مدى روعة أبيها، وخجلت من إظهاره له مباشرة. لكن هذا الاحتمال بدا مستبعدًا. كيتي كانت هادئة، لكنها لم تكن خجولة. بل كانت فظة وقد تكون عدوانية. وعندما تكون غير متأكدة، تزيد من عدوانيتها.

لفّ حافة إحدى فتحتي أنفه بإبهامه وبدأ بقلق يداعب شعيرات أنفه بإصبعه. كان يعلم أنها عادة مقززة، لكنها كانت تهدئه. عندما كانت كيتي طفلة صغيرة، كان يفعل ذلك ليُضحكها. كان يقول، "حسنًا"، "هل تعتقدين أن الوقت حان لنلعب بشعيرات أنفنا؟" فكانت تضحك، تضع يديها على وجهها، وتتألق عيناها فوق مفاصل أصابعها.

ثم بلغت الرابعة عشرة، وأصبحت متعالية ومتمردة كأي فتاة كان يرميها بكرات ورقية وهو في سنها. لم يعودا يتوافقان كما السابق. ذات مرة، كانا يجلسان في غرفة المعيشة يشاهدان التلفاز، هو على الأريكة، وهي على المقعد الصغير. كان فيلم "تشارلي تشان" يعرض، لكنه كان يراقب ظهرها وشعرها البني الطويل الكثيف، الذي غسلته للتو وكانت تمشطه. أمالت رأسها إلى الأمام ليتدلى الشعر بين ساقيها المتباعدتين، وبدأت تمشطه بفرشاة نايلون وردية ببطء.

"ألا تعتقدين أن الوقت حان لنلعب بشعيرات أنفنا؟"

لم يتحرك ظهرها المنحني أو شعرها.

"من يريد أن يلعب بشعيرات أنفه؟"

لا رد. غنى.

"شعيرات في الأنف، شعيرات في الأنف"

فقفزت فجأة من المقعد.

"أنت مقزز لدرجة أنك تُشعرني بالاشمئزاز!"

وخرجت من الغرفة غاضبة، كتفاها يرتديان "سترة" من السخط.

أحيانًا كان يقول ذلك فقط ليرى انزعاجها، ليشعر بغضبها الطفولي العاجز تجاه انتهاك أنوثتها الرقيقة.تمنى لو تعود زوجته بالسيارة كي يستطيع الذهاب إلى المتجر وشراء نسخة من مجلة "سيلف". كانت سيارته في الورشة، ولم يستطع المشي إلى تلك المجموعة الصغيرة من المتاجر ومواقف السيارات التي تشكل "البلدة" في هذا الحر. سيستغرق المشي عشرين دقيقة على الأقل، وسيكون منهكًا تمامًا عندما يصل. سيجد المجلة ويقرأها هناك في المتجر، وإذا كان المقال سيئًا، فقد لا يملك القوة للمشي عائدًا.

ذهب إلى المطبخ، فتح زجاجة بيرة وأحضرها إلى غرفة المعيشة. كانت زوجته غائبة منذ أكثر من ساعة، ولا أحد يعلم كم من الوقت ستغيب أكثر. يمكنها قضاء اليوم كله تقريبًا تقود حول المقاطعة، لا تشتري سوى وعاء عسل أو كيس تفاح. بالطبع، كان بإمكانه الاتصال بكيتي، لكنه على الأرجح سيصل إلى جهاز الرد الآلي الخاص بها، بالإضافة إلى أنه لم يرغب بالتحدث إليها قبل أن يفهم الموقف. شعر بالعجز ينتشر في جسده كما يشعر السباح بمرور كائن بحري ضخم تحته. كيف يمكنها أن تفعل هذا به؟ كانت تعرف كم يخشى أي نوع من التعريض، تعرف كيف يحمي نفسه من الغرباء، كيف كان يسحب جميع الستائر بعناية عند حلول المساء حتى لا يراهم أحد يمشون في المنزل. كانت تعرف كم شعر بالخجل عندما أعلنت في السادسة عشرة من عمرها أنها مثلية.

كان كلب العائلة المجاورة الآن على الجانب الآخر من الشارع، ينبح عند كعبي سيدة عجوز مقوسة الساقين ترتدي فستانًا أزرق وتحاول السير على الرصيف. "اللعنة"، قال. ترك النافذة وضبط محطة الأوبرا المسائية على الراديو. كانوا في الفصل الأخير من أوبرا "لا بوهيم".

لم يتذكر بالضبط متى حدث ذلك، لكن كيتي، فتاته الصغيرة الجميلة السعيدة، تحولت إلى مراهقة كئيبة غريبة يتنمر عليها الأطفال الآخرون. أصبحت نحيلة وقبيحة. عيناها الزرقاوان، اللتان كانتا حساستين ومشرقتين، أصبحتا باهتتين، كما لو أن كيتي الحقيقية قد تراجعت بعيدًا عن السطح لدرجة أن عينيها وُجِدتا لتحمياها بدلاً من أن تعكساها. بدا الأمر وكأنها تعمدت إبعاد جمالها عنهما، مظهرةً لمحات منه فقط خلال لحظات سهو لا مفر منها، مثل تلك المرة التي جلست فيها أمام التلفاز، تغرق في أحلام اليقظة وتمشط شعرها بكسل. في مثل هذه اللحظات، كان جمالها الكامن يكسر قلبه. كما كان يزعجه أيضًا. من ماذا كانت تتراجع؟ كلاهما أحبها. عندما كانت صغيرة ولا تستطيع النوم ليلاً، كانت مارشا تجلس معها في السرير لساعات. كانت تمدح قصصها ورسوماتها كما لو كانت عبقريّة. وعندما كانت كيتي في السابعة، كانت هي وأمها تقضيان أوقاتًا خاصة، تخرجان فيها معًا وتتحدثان في أي شيء تريد كيتي التحدث عنه.

حاول أن يقارن بين كيتي المتجهمة الكئيبة في السادسة عشرة، وبين الشابة المثلية النحيلة الواثقة من نفسها في الثامنة والعشرين التي تكتب مقالات في مجلة "سيلف". تخيل نفسه في المحكمة، يلوح بنسخة من المجلة أمام هيئة محلفين مصدومين. سيتناول الصحفيون القضية. رأى العناوين: "أب يقاضي مجلة – ابنته المثلية تكشف..." تكشف ماذا؟ ما الذي وجدته كيتي لتقوله عنه، مما أثار اهتمام البلاد بأسرها، ولم ترغب في أن يعرفه؟

تغلب الغضب على شعوره بالعجز. كيتي يمكن أن تكون شريرة. لم يرَ جانبها القاسي منذ سنوات، لكنه كان يعرف أنه موجود. تذكر الوقت الذي وقف فيه خلف الباب الأمامي نصف المفتوح بينما كانت كيتي ذات الخمسة عشر عامًا منحنية على الدرج الأمامي مع إحدى صديقاتها القلائل، شقراء بسيطة الملامح ذات أحمر شفاه فاتح وترتدي سترة جلدية بيضاء. جاء إلى الباب ليتحقق من الطقس ويقول شيئًا للفتاتين، لكنهن كن يتمتمن بتركيز لدرجة أن الفضول تغلب عليه، فتراجع قليلًا ليستمع. قالت كيتي: "حسنًا، على الأقل أمك ذكية. أما أمي فليست مجرد  عاهرة، بل هي غبية أيضًا."

وهذا بعد كل أغاني النوم والأوقات الخاصة! ولم تكن هذه حادثة منعزلة أيضًا؛ ففي كل مرة يعود فيها من العمل، كانت زوجته تقول شيئًا سيئًا عن كيتي. لم تُجهّز المائدة إلا بعد أن طُلب منها ذلك أربع مرات. ذهبت إلى منزل لويس بدلًا من العودة مباشرةً كما أُمرت. ارتدت فستانًا إلى المدرسة كان قصيرًا بما يكفي لإظهار أطراف جواربها.

وعندما يحين وقت وصول كيتي لتناول العشاء، تبدو وكأنها كانت تقوم بأعمال شاقة طوال اليوم، كان يغضب منها. لم يستطع منع نفسه. ها هي زوجته تبذل قصارى جهدها في تربية أسرة وطهي العشاء، وها هي هذه الطفلة البشعة تبدو قبيحة، تتصرف بوقاحة، ولا تُجهّز المائدة. بدا من غير المعقول أن تصبح بهذا السوء بعد أن استهلكت الكثير من وقتهما. حتى نظراتها المتألمة كانت تثير غضبه - فما الذي فعله أحدٌ لها حتى تستحق كل هذا التعاطف؟

انحنى إلى الأمام وهو يمضغ داخل فمه برفق بينما يستمع إلى الفتاة المحتضرة في "لا بوهيم". رأى سيارة زوجته تدخل الممر. مشى إلى الباب الخلفي، يكاد يعصر يديه من شدة التوتر، وانتظر حتى تدخل. وعندما فعلت، انتزع حقيبة البقالة من بين ذراعيها وقال:

" أعطيني المفاتيح."

وقفت مذهولة على السلم، تنظر إليه بذهول غبي.كرر:

"أعطيني المفاتيح!"

"ما الأمر، ستو؟ ماذا حدث؟"

"سأخبرك عندما أعود."

ركب السيارة وأصبح جزءاً منها، ذلك الصندوق المتحرك المتلهف الذي يدفعه عبر عالم الآخرين المعقد بجنون، عالم يتحرك بسرعة فائقة: بيوتهم، أطفالهم، كلابهم، حياتهم. لم يكن عادةً مدركاً بهذا القدر لهذا الشعور المزعج بالانفصال بينه وبين الآخرين، لكنه شعر أنه كان كامناً هناك طوال الوقت، تحت سطح ما يشغل تفكيره معظم اليوم. من السخرية أن يطفو هذا الشعور بهذا الوضوح في لحظة كان فيها - فعلياً - ارتباط ملموس ومزعج ومروع بينه وبين كل سكان مقاطعة واين: مئات النسخ من مجلة "سيلف" المنتشرة في الصيدليات ومحلات الكتب ومتاجر البقالة والمكتبات. كأن هناك مجساً متصلاً بجانب السيارة، يربطه بعشوائية ببشر التقطوا المجلة، ربما جيرانه أنفسهم. توقف عند تقاطع مزدحم، يشعر كأنه نملة وسط سرب معادٍ.

اندفعت كيتي خارج المنزل إلى هذا السرب مبكراً، زاعمةً أن الحياة معه ومع مارشا كانت جحيماً. نعم، لقد كانت جحيماً، لكن بسببهما هي لا هما. وكأن اكتئابها وبلادتها لم يكونا كافيين، تحولت إلى مثلية. أخذ الأطفال يتبعونها في الشارع ويسخرون منها. رمى أحدهم كتبها في المرحاض. تشاجرت باليدين. ألقى الجيران نظرات لاذعة. لكن رد الفعل هذا زاد من تشبثها بهويتها الجديدة؛ جعلها تخلق لنفسها أسطورة رومانسية، كأي مراهقة .كتبت قصائد عن محاربات بطوليات، جلبت إلى المنزل كتبًا ومجلات غريبة تمجد - ضمن أشياء أخرى - العاهرات. كانت مارشا تبحث عنها وتلقي بها في القمامة. صرخت كيتي في وجهها، وانتفخت أوتار رقبتها النحيلة. أما هو فلكم كيتي وأسقطها أرضًا. حاولت مارشا إيقافه فصرخ عليها. قفزت كيتي واندفعت بينهما كأنها تدافع عن أمها. أمسك بها وهزها بعنف، لكنه لم يستطع أن يهز ذلك التحدي الثابت في عينيها.

لكن في أغلب الأحيان، استمرا كعادتهما، يتناولان العشاء معًا، ويشاهدان التلفاز، ويتبادلان النكات. كان هذا أسوأ ما في الأمر؛ كان ينظر إلى كيتي ويرى ابنته، وقد أصبحت مألوفة في تجهمها المنعزل، فيشعر بالراحة والود. ثم يتذكر أنها مثلية، فينهمر بينهما سيل من التعقيدات والخطيئة، مما يجعل رؤيتها مستحيلة. ثم تعود مجرد كيتي مرة أخرى. كان يكره ذلك.

هربت في السادسة عشرة، وعثرت عليها الشرطة في شقة لفتاة ثمانية عشر عامًا تدعى دولوريس، لاعبة كمال أجسام، لديها وشم لامرأة عارية على عضدها الأيسر. جعلتهم مارشا يدخلونها مستشفى للأمراض النفسية ليراقبها الأطباء، لكنه كره الأطباء - أولاد كلاب متعجرفون يستمتعون بأسئلتهم الملتوية - فأخرجها. أنهت المدرسة، وأخبروها أنها إذا أرادت المغادرة، فلا مانع لديهما. لم تضيع وقتًا في الخروج من المنزل.

انتقلت إلى شقة قرب ديترويت مع فتاة تدعى جورج، وعملت في دار للأطفال المعاقين عقليًا. كانت تزورهم كل بضعة أسابيع مع حقيبة ضخمة من الملابس للغسيل. كانت نحيلة وعضلاتها توحي بالتوتر العصبي، جسدها يشبه كلب قتال مربوط بسلسلة. قصت شعرها كولد، وارتدت نظارات شمسية سوداء، وقفازات جلدية نصفية، وأحزمة جلدية. كل ما تبقى من جمالها كان وقفتها المنتصبة العسكرية وحركاتها الفعالة؛ كانت تدخل إلى الغرفة كقائد لقوات حرب عصابات. تجلس مع مارشا على طاولة الطعام، تشرب الشاي وتتبادل معها حديثًا مقتضبًا، بينما يتكلم جسدها بلغته العسكرية الدقيقة، وآلة الغسيل تئن من الغرفة المجاورة، أما هو فكان يتجول داخلاً وخارجًا، يحاول فهم ما تقوله. أحيانًا تبقى حتى المساء، لتتناول العشاء وتشاهد مسلسل "الكل في العائلة". ثم ترسلها مارشا إلى بيتها ببرطمان من بودينج التابيوكا محلي الصنع أو كيس من التفاح والبرتقال.

وفي أحد الأيام، وصلت المنزل رسالة بدلًا من زيارة، عليها ختم بريد سان فرانسيسكو. قالت إنها تركت جورج. وسردت تفاصيل غريبة عن حياتها الجديدة، بينما كانت غامضة حول كيفية إعالة نفسها. راودته كوابيس عن كيتي بجسدها الصغير الشجاع الممتلئ بالعضلات الفخورة، ضائعة بين نساء ضخمات الأجساد يرقصن عاريات في نوادي "جو-جو" ويتعاطين المخدرات بإبر، نساء مرعبات ألهمت - في نظر ابنته الحالمة المضطربة - صورة البطولة المقهورة والسحر الأنثوي المكثف. كان يستيقظ ليلًا ويتعثر نحو الحمام بحثًا عن دواء للمعدة، كان ظلام المنزل المألوف مثقلًا بصور تهديدية تحاصره، صور رأى انعكاسها على تعبيره عندما أشعل ضوء الحمام فوق المرآة.

ثم ذات عام، عادت لقضاء عيد الميلاد. دخلت المنزل بحقيبتها وكيس هدايا لهما، ورأى أنها عادت جميلة من جديد. جمالًا أثار حفيظة حواسه وأغواها في آن. شعرها القصير الشائك كان مبرقشًا بالبنفسجي، فمها الظريف مُحمر، وأنفها وأذناها مثقوبان بحجر أميثست وفضة متدلية. انفتح وجهها كأنه آلاف البتلات. عيناها براقتان بالحدس السريع بينما تضع حقيبتها، وعرف أنها رأته يلاحظ جمالها. تحركت نحوه بخصر ممشوق؛ عانقته للمرة الأولى منذ سنوات. شعر بجسدها الحيوي المرن يلامسه، وانفطر قلبه غصةً من الدم والحب. قالت:

"عيد ميلاد مجيد، أبي"،

كان صوتها أجشًّ وخشنًا؛ تفوح منه رائحة المعرفة والثقة. كُتِبَ على قميصها "فتيات ذوات كرات". كانت في الثانية والعشرين من عمرها.

بقيت أسبوعًا، تفرغ جمالها الغريب المزعج في المنزل وتغير جزيئات هوائه. تحدثت عن الفتيات اللاتي تشارك الشقة معهن، وعملها في مقهى، وكيف أن سكان كاليفورنيا يختلفون عن سكان ميشيجان. وتحدثت عن صديقاتها: لورين، التي كانت جميلة لدرجة أن الرجال يسقطون من دراجاتهم وهم يلتفتون خلفها لرؤيتها بشكل أفضل؛ وجودي، خبيرة فنون قتالية؛ وميريديث، التي تربي طفلًا مع زوجتها أنجيلا. تحدثت عن قراءات الشعر، ودروس الخزف، وورش عمل ثقب الجسم. أدرك وهو يراقبها أنها الآن تفعل أشياء سيئة كتلك التي أغضبته منها قبل خمس سنوات أو أسوأ، ومع ذلك لم يتشاجرا. بدا أن هناك مساحة بيضاء شاسعة بينهما، يستحيل اختراقها أو الجدال عبرها. علاوة على ذلك، قد لا تعود أبدًا إذا صرخ عليها.

وبدلًا من ذلك، راقبها محاولًا فك لغز التحول الذي مرت به. أولًا كانت طفلة جميلة سعيدة تحولت إلى مراهقة قبيحة متعجرفة تعيسة. ومن هناك أصبحت فتاة متشددة بعيون منحرفة مكبوتة. والآن هي عفريتة نابضة بالحياة، تعيش - على ما يبدو - في عالم مصنوع من خردة مبعثرة مرصعة بحبات الراينستون. من أين أتت هؤلاء الأشخاص الثلاثة المختلفون؟ حتى مارشا، التي قضت معها وقتًا طويلًا في الطفولة، لم تستطع تتبع أصول كيتي الجديدة من القديمة. أحيانًا كان يفكر بمرارة أنه ومارشا لم يعودا حتى والدين حقيقيين، بل مجرد عجوزين منعزلين يتجولان في منزل، لا يرتبطان بطفل حقيقي يذهب إلى الجامعة، أو على الأقل لديه حياة مفهومة، بل بكائنٍ بديل هو نتاج أغرب صفاتهما الخفية، كيانٌ خرج من زوايا مظلمة في نفسيهما لم يشكا يوماً بوجودها.

لم يكن هناك سوى عدد قليل من السيارات في موقف السيارات. دار حوله بتعمد لا طائل منه قبل أن يركن بالقرب من الصيدلية. قضى ثوانٍ مزعجة وهو يبحث عن مجلة "سيلف"، حتى أدرك أن صورة الغلاف المزينة بالفرشاة الهوائية تبتسم له مباشرة. قلب بسرعة إلى صفحة المحتويات، ثم توجه إلى الجزء الخلفي من المجلة. كُتبت عبارة "Speak Easy" بشكل جانبي أعلى الصفحة بحروف مستديرة بلون الفيروز. وفي الأسفل كان اسم ابنته داخل مربع صغير: "كيتي ثورن فنانة خزف تعيش في ساوث كارولينا". كانت يداه ترتجفان.

كان من الصعب عليه استيعاب الفقرات الأولى بعقلانية، والتي بدت - بغموض - وكأنها تتحدث عن مكالمة هاتفية دارت بينهما ذات مرة حول فراغ وأنانية الأشخاص الذين يمارسون الجنس دون زواج أو إنجاب أطفال. برزت بعض العبارات بوضوح: "...قد يحبني أبي لكنه لا يحب الطريقة التي أعيش بها"، "...الأمر أكثر تعقيدًا لأني مثلية"، "...لأنه لا يزال يؤلمني". لأسباب لم يفهمها، شعر بابتسامة عصبية ترتجف تحت جلده. فقام بكبتها.

" هذا الألم له جذور عميقة في علاقتنا، بدأ - على ما أعتقد - عندما كنت مراهقة."

كان يشعر بوعي مؤلم بأنه في مكان عام، فدفع ثمن المجلة وخرج بها إلى السيارة. قاد ببطء إلى مكان آخر في المواقف، بعيدًا قدر الإمكان عن الصيدلية، والتقط المجلة وبدأ القراءة من جديد. وصفت "الصعوبات الرهيبة" بينه وبينها. وسردت بإيجاز وبأدب غامض، المشاجرات، الهروب، العودة، المصالحة الصامتة.

"هناك مسافة عاطفية قبلناها جميعًا واخترنا التعايش معها، على أمل أن يصل التواصل بين الحين والآخر - حب، غضب، أي شيء - إلى الطرف الآخر."

وضع المجلة جانبًا ونظر من النافذة. كان وقت الغروب يقترب؛ معظم المحلات في المركز التجاري الصغير كانت مغلقة. لم يكن هناك سوى سيارتين أخريين في موقف السيارات ،وامرأة ضخمة، بطيئة، عابسة الوجه، تحمل كيسي بقالة، تستعد لقيادة إحداهما. كان قد أوقف سيارته أمام قطعة أرض مليئة بالأعشاب الضارة على حافة المواقف. كانت هناك أعشاب خشنة منتشرة مثل العناكب الكبيرة الخضراء، وهندباء صفراء صغيرة، وهندباء قديمة هشة، وباقات من نباتات السرمق الزرقاء القوية. حتى في محنته، أدرك بشكل غامض جمال الأعشاب الزرقاء مقابل السماء البيضاء والرمادية الباردة. لوهلة، هدأه صوت الحشرات. مرت صور كيتي في ذاكرته بسرعة رهيبة: جبينها ذي التسع سنوات منحني فوق طبق الآيس كريم، وجسدها الصغير بقميص النوم يصعد الدرج، ويدها ذات الخاتم تلامس وجهها، ومفاتيح حزامها تهتز وهي تمشي ببطء ببنطالها الجينز الأزرق مبتعدة عن المنزل. لقد ذهب كل شيء..

استطردت المقالة لتصف كيف أغلقت كيتي الهاتف وهي تشعر بالإحباط،، ثم سردت كل الأشياء التي كان يمكن أن تقولها له لإخباره كم آلمها، ممهدة الطريق لـ "تواصل حقيقي"؛ كل ذلك بلغة برامج الحوارات التلفزيونية المزعجة. لم يستطع ربط هذه الكلمات بصورة كيتي التي رآها آخر مرة مسترخية في المنزل. كانت تبلغ الآن الثامنة والعشرين، ولم تعد تصبغ شعرها أو تضع حليًا في أنفها. كان سلوكها جادًا، مثقّفًا، تكاد مثل عانس متقشفة. ذات مرة، سمعها تقول لمارشا: "ثم ألقت هذه الفتاة الإيطالية نظرة سريعة عليّ وقالت لجوان: 'أنتِ تتجولين مع الكثير من الدبابير'. فقلت: 'أنا لست دبورًا، أنا مجرد قمامة بيضاء'" فقال هو حينها:  "تكلمي عن نفسك".

لو حدث أسوأ ما يمكن ولم يستطع والدي الرد عليّ بالمثل، لكنتُ فعلتُ خيرًا. لكنتُ أقرّ باحتياجاتي الخاصة، وأوجدتُ فرصةً للتواصل مع ما يُطلق عليه المعالجون "الوالد الصالح" في داخلي.

حسنًا، إذا كان هذا هو نوع الكلام الذي كانت تنوي قوله له، فهو يشعر بالارتياح لأنها لم تقله. لكن إن لم تكن قد قالته له، فلماذا تقوله على الملأ لبقية البلاد؟

شغّل الراديو. كان يغني: "حاول أن تتذكر، وإن تذكرت، فاتبع، اتبع". أطفأه. تردد صدى الحلم المتقطع خافتاً. أغمض عينيه. عندما كان في التاسعة أو العاشرة من عمره، قال له عمه: "كلٌّ يصنع عالمه الخاص. ترى ما تريد أن تراه وتسمع ما تريد أن تسمعه. يمكنك فعل ذلك الآن. إذا رمشت عشر مرات ثم أغمضت عينيك بإحكام، سترى أي شيء تريد رؤيته أمامك". حاول ذلك، على مضض، ولم يرَ شيئاً سوى فكرة غامضة عن كرة بيضاء مصفرة تتحرك بزحف في الظلام. في ذلك الوقت، ظن أن السبب ربما هو عدم بذله جهداً كافياً.

كان قد قال لكيتي أن تفعل الشيء نفسه، أو شيئًا مشابهًا، عندما كانت في الثامنة أو التاسعة. كانا يجلسان على الشرفة الخلفية في كراسي الحديقة المخططة، يمسكان بأيدي بعضهما ويشاهدان اليراعات تضيء وتنطفئ.

أغلقت عينيها لفترة طويلة. ثم قالت بجدية شديدة: "أرى كرات كبيرة من الألوان، مثل الزهور الأشعث. إنها وردية وحمراء وفيروزية. أرى جزيرة بها أشجار نخيل وصخور وردية. هناك دلافين وعروسات بحر تسبح في الماء حولها." كاد أن يذهل من إيمانها بهذه الرؤية المستحيلة. ثم شعر بالحزن، لأنها لن ترى أبدًا ما تريد رؤيته. ثم اعتقد أنها إلى حد  ما غبية، حتى بالنسبة لطفلة.

تذكر طفولته فجأة. كان يمشي في منتصف الشارع عند الغسق، يتصبب عرقًا خفيفًا بعد مباراة كرة سلة. كان هناك صوت الصراصير ونباح الكلاب الخافت وهمسات الناس المنخفضة على شرفات منازل الأمامية. محاطًا بدفء الليل وأصواته، شعر بمزيج رائع من السعادة والحزن أن الحياة يمكن أن تحتوي هذه اللحظة المثالية، وحزن لأنه سيصل قريبًا إلى المنزل، ويدخل إلى الضوء الساطع، ويستعد لليوم التالي بضوضائه وإمكانياته المقلقة. عقد العزم على الاحتفاظ بهذه المساء في ذهنه إلى الأبد، ليطبع في مكان دائم كل الأحاسيس التي مر بها وهو يمشي بجوار منزل عائلة أوتلاندرز، حتى يتمكن دائمًا من إخراجها والنظر إليها. تذكر بشكل غامض شعوره بأنه إذا نجح في فعل ذلك، يمكنه إيقاف الزمن والاحتفاظ به.

أدرك أنه يجب عليه العودة إلى المنزل قريبًا. لم يرغب في التحدث عن المقال مع مارشا، لكن فكرة الجلوس في المنزل معها وعدم التحدث عنه كانت أمرا صعب التحمل. تخيل المحادثة تبدأ ببطء، ومحادثة مستقبلية مع كيتي تنمو بداخلها. كانت المحادثة آلة ضخمة ومعقدة مثل تلك التي تظهر أحيانًا في أحلامه؛ إذا استطاع فقط سحب المفتاح، فكل شيء سيكون على ما يرام، لكنه شعر بالذهول من ثقل الأمر وتعقيده لدرجة أنه لم يستطع فعل ذلك. علاوة على ذلك، في هذه الحالة، قد لا يكون كل شيء على ما يرام. وضع المجلة تحت مقعده وأدار محرك السيارة.

كانت مارشا جالسة في كرسيها المفضل، غارقة في القراءة. رفعت رأسها فجأة، وكأن تعابير وجهها تعكس صراعاً داخلياً معقداً لا يقل حدة عن صراعه، لكنه منقسم في اتجاهات مختلفة، غير مدرك له ولما يعرفه. في عقله، انسحب منها بسرعة لدرجة أن الغرفة المألوفة أصبحت للحظة مشحونة برعب غامض كابوسي. ثم أبرزت عادية المشهد حدث اليوم الاستثنائي، وشعر بالغضب والحيرة لدرجة أنه كاد أن يصرخ. سألت مارشا.

"هل كل شيء على ما يرام، ستو؟"

"لا، لا شيء على ما يرام. أنا رجل عجوز متعب في عالم مقرف لا أريد أن أكون فيه. عندما أخرج هناك، أشعر وكأنني أمشي على السكاكين. كل شيء هجوم — القبح، الرخص، الوقاحة، كل شيء."

شعر بها تنسحب منه إلى عالمها الخاص من السخط، شفتاها متجهمتان في ذلك التعبير عن المثابرة الممزوجة بالضيق الذي ورثته عن أمها. مثل كيتي، مثل الجميع، كانت تتركه.

"ليس لدي ابنة حقيقية، وليس لدي زوجة حقيقية هنا معي، لأنها مشغولة جداً بالركض وراء--"

" لقد مررنا بهذا من قبل. لقد اتفقنا أنني أستطيع- "

"كان ذلك مختلفًا! كان ذلك عندما كان لدينا سيارتان!"

انطلق صوته من حلقه كسوط متقطع ليخرج نصف صرخة مبحوحة.

"ليس لدي سيارة، أتذكرين؟ هذا يعني أنني عالق، وحيد لساعات، ويمكن لنورم بيزارو أن يتصل بي ويخبرني ببرود أن ابنتي المثلية قد خانتني في مجلة وطنية وماذا أعتقد في ذلك؟"

أراد أن يلكم الحائط حتى تنزف يده. أراد أن ترى كيتي الدم. تحول تعبير مارشا إلى ذهول مصحوب بفم مفتوح. جعله عجزها يشعر أن غضبه هائل ومروع، ثم ما لبث أن تحول إلى عجز بحد ذاته. جلس على الأريكة، وبَدَلَ الغضب، شعر بالألم.

" ماذا فعلت كيتي؟ ماذا حدث؟ ماذا قال نورم—"

"كتبت مقالًا في مجلة سيلف عن كونها مثلية ومشاكلها وشيء يتعلق بي. لا أعرف؛ بالكاد استطعت قراءة ذلك الهراء."

نظرت مارشا إلى أظافرها.

نظر إليها فرأى جمال بشرتها العاجية المترهلة تحت وطأة تقدمها في السن ونظارتها ثنائية البؤرة، ووجهها المتأثر عاطفيا، والزغب الداكن على شفتها العليا، وأزرار سترتها اللؤلؤية الطفولية التي لم يُغلق منها سوى الزر العلوي.

" أنا متفاجئة من فعل نورم، كيف اتصل بك هكذا فجأة."

"آه، ومن يعرف ماذا كان يدور في باله!"

هدأت كلماتها من روعه وأبطأت خفقات قلبه، وإن لم تلامس جرحه الحقيقي.

قالت وهي تمتد بيدها.

" تعال هنا  .. دعني أدلك كتفيك."

سمح لها بالاقتراب، وجلسا جنباً إلى جنب على الأريكة، هو متوازن على الحافة بساقيه المزروعتين بشكل غير مريح، بينما جلست هي بأناقة على أحد وركيها وساقاها مشدودتان ومتقاطعتان بإحكام. عدم الراحة في هذه الوضعية ألغى الفائدة العملية من التدليك، لكنه رحب بلمستها. كانت لمارشا يدان قويتان وذكيتان، تخاطبان عضلاته بلغة الأمان العميق والحب ومتعة الحياة الجسدية. بينما كانت تدلكه، اقتربت منه، ولمس صدرها المغطى بالسترة جسده، فشعر بالتوتر يغادره، وكأنه يُنتزع منه عنوة.  من خلال عينيه نصف المغلقتين، رأى حذاءها الرياضي على الأرض —لم يستطع قط أن يتجاوز هذه الظاهرة: نساء بالغات ينتعلن أحذية كانت مخصصة في السابق للأولاد—وقد بدا في ضوء الغرفة الخافت أن إصبع أحد الحذاءين يستند إلى الآخر كأنه يحتضنه، ورباطاهما متشابكان في فوضى جميلة.

مسكينة كيتي. لم يكن الأمر سيئًا لدرجة أنها لم تُجهّز الطاولة في الوقت المحدد. لم يستطع تذكر سبب غضبه هو ومارشا الشديد بسبب الطاولة. إلا إذا كان بسبب برودها، وابتعادها الدائم، وصوتها الساخر. لكنها كانت مراهقة، وهذا ما يفعله المراهقون. حسنًا، كان ذلك مؤسفًا، لكن لا يمكن فعل شيء الآن.

فكر في والده. ذلك كان مؤسفًا أيضًا، ولم يكن أحد يكتب مقالات عن ذلك. كانت هناك مسافة بينهما، كبيرة ومطلقة لدرجة أن كلمة "مسافة" بدت غير كافية لوصفها. لكن ذلك ربما لأنه عرف والده فقط عندما كان طفلًا صغيرًا جدًا؛ لو عاش والده أكثر، لربما تقاربا أكثر. كان يستطيع تذكر وجه والده بوضوح فقط على مائدة الإفطار، حيث يظهر صامتًا وساكنًا إلا لحركات الشفتين والفك، مريحًا في ثباته. كان والده يأكل عصيدته بيد تمسك الملعقة، ومرفقه على الطاولة، وعيناه إلى الأسفل، أحيانًا يمسك بيده الأخرى منشفة باردة على رأسه الذي كان دائمًا يؤلمه بألم نبيل، كما يبدو، يتحمله برضا مع واجباته كزوج وأب. كان يحب التحديق في ذلك الوجه الكبير بتجاعيده العميقة وشحمتي أذنيه الطويلتين، وشفتيه الرقيقتين وفكيه المتحركين أثناء المضغ. ملأه سكونه وتعبيره الخالي من المشاعر الذي يشبه الآلهة بالإعجاب والطمأنينة، حتى نظر إليه والده ببطء من فوق صحن حبوب الإفطار ذات يوم، والتقت عيناه بعينيه، وقال، "توقف عن التحديق بي، أيها الأحمق الصغير".

في باقي الذكريات، كان والده جسدًا ضخمًا ثقيلًا بوجه مطوَّل مبهم الملامح. رآه نائمًا على الكرسي الكبير في غرفة المعيشة، ويداه الكبيرتان، المغطّاتان بالشعر عند المفاصل، تكادان تلامسان الأرض.

وقد رآه أيضًا يمشي على الطريق المؤدي إلى باب المنزل، بخطواته السريعة القصيرة نفسها التي اعتادها عند عودته من العمل، مشية متصلّبة، متقطعة، منحت جسده الضخم طابعًا آليًا مهيبًا.كان قميصه مبتلًا تحت الإبطين، ورأسه مطأطأ، وعيناه شاردتان لكن متيقظتان، كما لو أنه يراقب العالم الخارجي بحذر خشية أن يهجم عليه شيء مقيت بينما ينشغل هو بشيء أهم في الداخل.

" الأب الصالح فى داخلك."

ما الذي يقصده أولئك الحمقى حسنو النيّة الذين يخترعون هذه العبارات؟

عندما يموت الأب، يرحل.

لا يوجد "أب صغير مبتسم" يظهر فجأة، ملوّحًا بفرح، من جيب سرّي في صدرك. بعض أنواع الفقد نهائيّة، لا رجعة فيها. ولا قدر من "تحقيق الذات" أو "التعبير عن الذات" سيغيّر من ذلك شيئًا.وكأنها سمعته، ضغطت مارشا بجسمها بكل ما تملك من طاقة، وركّزت قواها على إرخاء عضلاته. تسرب عرقها ومزيل العرق المعطّر إلى صوف سترتها، مما أضاف نفحة صوفية خافتة إلى رائحتها..قالت بحيوية:

"حسنًا!"

ثم بدأت تدلك كتفيه، وتربّت عليهما بقوة.

مدّ يده إلى الخلف ولمس يدها شاكرًا.

على الجهة المقابلة من حيث جلسا، كان هناك كرسي أحمر في الماضي، وفيه جلست كيتي ذات مرة، لا تنظر إليه، ووجهها مخبأ داخل قبضتها.قال لها:" أنتِ مثلية؟ حسنًا، لا بأس. لا تعنين لي شيئًا. تخرجين من هذا الباب؟ لا يهم. وإن عدتِ، فسأبصق في وجهك. لا يهم إن كنت على فراش الموت، سأجد ما يكفي من القوة لأبصق في وجهك." لم تتحرك عندما قال ذلك. انهمرت الدموع على قبضتها وذراعها، لكنها لم تنظر إليه.

أبقت مارشا يديها عليه لحظة أخرى، ثم تحركت وجلست بعيدًا عنه على الأريكة.

(انتهت)

***

.......................

* لا تُجامل ماري جيتسكيل ولا تُلطّف ضرباتها. هذه واحدة من القصص النادرة التي تشعر فيها – ولو بدرجة محدودة – بالتعاطف مع بطل قصتها رغم كونه شخصًا فظًا بحق. فأبٌ يسترجع الماضي بعد أن علم أن ابنته كتبت مقالًا في مجلة عن علاقتهما، بعد أن أعلنت عن هويتها الجنسية كامرأة مثلية. ومن ثم فإن أي تعاطف معه يمكن أن ينبع من انقسام شخصيته إلى جانبين: جانب غاضب، أناني، رهابِيّ من المثليين، يترتب عليه طرد ابنته من المنزل. وجانب آخر، مرتبك، ومنطوٍ، يعاني من اضطرابات عاطفية، ويكافح لمواجهة فشله كأب.

ثيمات القصة: علاقة الأب بابنته، تمرد المراهقين، الهوية الجنسية، القبول، والانفصال العاطفي.

الكاتبة: ماري جيتسكيل/ Mary Gaitskill (وُلدت في 11 نوفمبر 1954) هي روائية وكاتبة مقالات وقصص قصيرة أمريكية. ظهرت أعمالها في مجلات مرموقة مثل ذا نيويوركر، هاربرز ماغازين، إسكواير، بالإضافة إلى أفضل القصص القصيرة الأمريكية (أعوام 1993، 2006، 2012، 2020)، وقصص جائزة أو. هنري (1998، 2008).من أبرز كتبها مجموعة القصص القصيرة سلوك سيئ (1988)، ورواية فيرونيكا (2005)، التي رُشّحت لجائزتين مرموقتين: الجائزة الوطنية للكتاب في فئة الرواية، وجائزة نقاد الكتاب الوطنية في فئة الرواية أيضا .

في نصوص اليوم