أقلام ثقافية

علي الجنابي: الحِسُّ والجَسُّ.. والمَسُّ واللَّمْسُّ

سألَ سائلٌ عنِ الحِسِّ والجسِّ، فقالَ مِن على مِنَصَة تويتر سابقاً، وهي اليومَ إسمُها "إكسُ": قالَ الحقُّ ﷻ: (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ). وقالَ ﷻ: (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، فما الفرق بين الحس والجس؟

فأجبتٌهُ بتلميحٍ لا حاجةَ معه لتصريح، وبإشارةٍ ظننتُها تُغنيه عن عبارة: [أظن أن الفرقَ بين"الحسِّ" و"الجسِّ" يشبهُ الفرق بين"المسِّ" و "اللمسِّ". وما ذلك مني إلا ظنٌّ شخصيٌّ، أو تذوقٌ لمعنيهما بعد تصفح لما تيسر من معاجم الأولين].

وقد كذبتُ، فأنا ما تصفحتُ معجمٍ ما، ولكن مدعاةَ كذبتي تكمن في سببين:

- لأني متيقنٌ أن ما هوَ مسطور في تلك المعاجم لن يأتيَ بشيءٍ، ولأن المترادفات قد تشتبهُ في المبنى لكنها لا تتشابهُ في المعنى، إذ منَ المحالِ على بشرٍ أن يشرحَ معنىَ لمفردةٍ بمفردةٍ مرادفةٍ لها، فلا يمكنُ أن نشرحَ (الإنشراحَ) على أنه (ارتياح).

- ثم  لتحسسي بل توجسي أن يردَّ عليَّ السائلُ بجوابٍ من تلك المعاجم، فيجعلني وإياهُ ندورُ في فَلَكٍ معلوم تكفينا فيه دورةٌ واحدة. ورُغم تحسسي ذلك، فقد ردَّ السائلُ عليَّ بما كنتُ به مُتَحسِّساً ومنهُ متوجِّساً، فقال: (صباح الخير، ما فهمت هل تقصد ان المعنى واحد ام ماذا، لان في تفسير الطبري.. وشكراً لك)، وأرفقَ صفحة مصورةً من تفسير الطبري.

ثم اني ما تركتُ السائلَ يتوهُ ويُضَيِّعُني معه في فَلَكٍ معلوم تكفينا فيه دورةٌ واحدة أو اثنتين. فرجعتُ اليهِ القولَ:

[لا، ليس المعنى واحداً، ومحالُ أن تحويَ العربيةُ كلمتينِ بمعنىً واحدٍ. فضرب من الخيالِ أن يقولَ لكَ عربيُّ غابرُ وحتى حاضرٌ معاصر: "هلَا تجسسْتَ ليَ الألمَ في رأسي" ، ولكنه يقول: "هلّا تحسسْتَ ليَ الألمَ". العربيةُ يا صاحبي هي فطرةٌ في النفس وهي تذوقٌ للحرف، فسبحان رَبّنا الرَّحمنِ الذي خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ فَعَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ]. وانتهى حواري مع سائلي محاوري .

ثمَّ أسررتُ القول في نفسي:

"وما يمنعك يا هذا أن تبحثَ برقَّةٍ في معاجمِ الأولين وبدقةٍ متناهيةٍ عن الفرقِ بين المعنيينِ، ثم إن في البحثِ متعةٌ ما بعدها متعة". فأشهبتُ فألهبتُ فذهبتُ فبحثت. وما إن بدأتُ حتى لمحتُ صاحبَ معجم "لسان العرب" يقولُ: الجَسُّ: اللَّمْسُ بِالْيَدِ.، كالاجْتِساسِ. ثم مرحتُ في معجم "تاج العروس" فإذ به يقول: الجَسُّ: المَسُّ باليَدِ. فطرحتُ قوليهما، وعجبتُ مِما قالا أشدَّ العجب!

أفيكون الجَسُّ (لمَسَّاً) كما أبانَ ابنُ منظور، أم هو (المسُّ) مثلما ألانهُ صاحبُ (تاج العروس)؟

ولعمري، ما كانَ الجسُّ مَسَّاً ولا لمسَّاً، ولا هَمْساً ولا هَسّاً، ولا حسَّاً ولا عَسَّا. وشتَّانَ بينَهُمُ ، وإنَّما لكلٍّ مفردةٍ من أولاءِ معناها المتفرد الذي يأبى مشاركةَ أو حتى تشبيها. لذلك رأيتُني أعودُ لأكرِّرَ قولي:

" ليس المعنى واحداً، وضرب من ضروبِ الخيالِ أن تحويَ العربيةُ - وكذا كلُّ لغةٍ ولسان- كلمتينِ بمعنىً واحدٍ ولا حتى معنىً شبيه . ومِنَ المحالِ أن ينطقَ لسانُ العربيِّ الغابرِ، بل وحتى الحاضرِ المعاصر، الساكنِ بينَ المحيطِ الهادرِ والخليجِ الثائرِ، جملةً بسَجيةٍ أثيمةً غيرَ قويمة، فيقول:

"هلَا تجسسْتَ ليَ الوجعَ" ، ولكنه ينطقُ بعفويةٍ عليمةٍ قويمةٍ: "هلّا تحسسْتَ ليَ الوجعَ في رأسي". وكذا، فإن لسانَهُ يأبى القولَ :

"لَمَسَنيَ إبليسُ بواحدةٍ " بل يقولُ: "مَسَّنيَ إبليسُ بواحدة".

وإنَّما العربيةُ ياصاحبي، هي فطرةٌ في النفس قد فطرَ اللهُ العربَ عليها، وهي تذوقٌ للحرف مُستعصٍ على أهلِ الصنعةِ في الضَّادِ تفسيره (أي التذوق)، أو تأويلهُ أو تبيانه، بل ذلك عليهم محال، ولئن حاولوا تفسرهُ  فستكونُ محاولاتُهم ساحقةً لمعانيَ المرادفات اللغوية في فكرنا، وماحقةً لمبانيها في ذكرنا، وسوفَ تَبون ثمرة تلك المحاولاتِ هي الفقدانُ التامُّ لتذوِّقِ تعابيرِ القرآنِ الكريم، وتلك هي الطَّامةُ الكبرى ، ولسوفَ تجدُ القارئَ لآياتهِ المباركات لا يهتَمُّ ولا يبالي إن قرأ الفعلَ في آيةٍ ما ( جاءَ، أَتَى، أَقْبَلَ، حَضَرَ، طَرَقَ، غَشِيَ، قَدِمَ، وافى، وَفَى، وَرَدَ، وَفَدَ،... )، ولئن سألتَهُ لَيَقولنَّ : " المهم أنه أتى وخلاص يا باشا، وبلاها من وجعِ دماغ". واللهُ المستعان على ما تصفُ يا باشا.

وختاماً..

سبحان الذي خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ فَعَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ، وجعلَ أخي الكردي "كاكه إحسان" ماهراً فيما ينطقُ بهِ من لسان، لكنهُ يردُّ عليَّ إن سألتهُ عن حالهِ حيرانَ: " كاكه، آني حال زينة"، بينما ترى صغيري "يَمان"، ذا الأعوام الثلاثة يردُّ: "أنا زين أبتاهُ".

لقد أضحينا اليومَ نأبى فطرةَ اللهِ التي فطرَ ألسنتنا عليها على مدى الزمان، وترى العربيَّ منّا اليومَ وكأنَّهُ يشتهي برغبةٍ جامحةٍ وهو هيمان، أن يردَّ على سائلٍ يسألُهُ عن حالهِ في كلِّ آن: "أنا زينة ، ماي براذر". رَغمَ أنهُ لا يمتُّ بوشيجةِ نَسَبٍ لكاكه إحسان، ولا بوَليجةِ حَسَبٍ لمستر سبايدرمان.

واللهُ المستعان.

***

علي الجنابي

 

في المثقف اليوم