أقلام ثقافية

سالم قبيلات: بين غربتين.. سيرة وجدانية في المنفى والنضال

في العمل الإبداعي الجميل بين غربتين – الجزء الأول، تنقلنا الكاتبة المبدعة سعاد الراعي إلى فصول من سنوات صعبة تعجّ بالمعاناة والغربة، في رحلة مضنية تتنقل خلالها بين الأماكن والأزمنة، لكنها تبقى مشحونة بالحواس والمشاعر الإنسانية.

ومن رحم هذه الصعاب والجوانب الحياتية القاسية التي واجهتها الكاتبة في سيرة حياتها، يتضح أنها اتبعت نهجًا وجدانيًا غير ملتزم بالترتيب الزمني الصارم، ما منح النص طابعًا عاطفيًا مؤثرًا، وضَمِن للرواية مشاهد ومواقف غنية بالمعلومات عن تجربتها السياسية والعمل العام، والصراع مع السلطة القمعية. وقد كشفت الكاتبة عن شخصية تفاعلية عاطفية، تحفظ الود وتُقدّر الدور الوطني وأهمية النضال الحزبي.

فنّيًا، نجحت الكاتبة في تصوير أحداث الرواية بدقة، خاصة حياة رفاق الحزب في الغربة، بما تحمله من أحلام وآمال وآلام وجوع وغربة. ويمكن القول إن اختيارها للموضوعات والعناوين جاء بناءً على تجاربها الشخصية، أو من منطلق أهمية كل حالة على حدة، لا وفق نظام سردي تقليدي. فهي تقفز من قصة إلى أخرى، ومن موقف حزبي إلى حالة إنسانية وجدانية، ثم إلى وصف مكاني أو شخصية لافتة، متخلّية عن التسلسل الزمني الصارم، ومعتمدة أسلوب التجربة الحرة، متنقلة من الطفولة إلى الجامعة، ثم عائدة إلى مراحل أخرى من حياتها بانفتاح سردي يحرر النص من النمطية.

وهذا بدوره يضع القارئ أمام تجربة شخصية غنية، متشعبة، صارمة أحيانًا، وإنسانية عميقة في كثير من مفاصلها، حيث تُقدَّم الذاكرة كحالة لإنسان جمع بين الاستقلالية الفردية والانخراط في صلب العمل الحزبي الجماعي.

الذائقة الأدبية لدى سعاد ناضجة ومركبة، تعبّر عن ثقافة سياسية وإنسانية، وتمتاز بتجربة غنية تمتزج فيها بلاغة اللغة بمرارة التجربة. ويتبيّن لنا أنها كاتبة مثقفة متعددة المراجع، وذائقتها تدمج بين السياسي والوجداني في قالب تعبيري متناغم، يجعل من حكايتها سيرة تمزج بين التاريخ الشخصي وساحات النضال الحزبي. إنها تجربة امرأة مناضلة لم تكن مجرد شاهدة على زمنها، بل فاعلة فيه، تميزها الصراحة، ولا تتوارى عن مشاعر الحب والانكسار والاعتراف، ما منح الرواية حيوية وأصالة فنية.

أما القيمة التاريخية للرواية فتنطلق من تسجيلها لتطورات الحياة الحزبية في الاغتراب من الداخل، إذ مزجت بين السياسي والحزبي والاجتماعي والثقافي، ما وفر نظرة نقدية معمقة لآليات القرار الحزبي في المنافي.

وقد نجحت الكاتبة في الكشف عن قدراتها في توثيق لحظات الشد والجذب في ظروف الغربة والنضال، وسجّلت بدقة مراحل الصراع مع النظام الديكتاتوري، وقدّمت بأبعاد إنسانية حالات متعدّدة من صعوبات العمل الحزبي، معتمدة على تجربة شخصية مباشرة، ما عكس بوضوح الحالة الحزبية والإنسانية لرفاقها في المهجر خلال تلك الحقبة.

ومن خلال قراءة متأنية للرواية، ندرك أن الأديبة سعاد الراعي لم تكتب سيرتها لمجرد حب الظهور أو طلب الشهرة، بل لتمارس فعل الحضور في ذاكرة العراق، والكشف عن تجربة نضالية حزبية قاسية.

فجاءت حكاياتها مزيجًا من التأمل في مسار الأحداث عبر سرد وجداني، بأسلوب جميل نابض بالمشاعر، تتقاطع فيه الأحداث لتنتج نصًا غنيًا بالمعلومات، يلامس وجدان القارئ ويثير تأملاته. واستطاعت الكاتبة، بذكاء وبشفافية حسها الإنساني، أن تمهّد للحدث القصصي الكامن في بنية الرواية، مما يدفع القارئ إلى متابعة الأحداث بشغف.

***

سالم قبيلات

 

في المثقف اليوم