أقلام ثقافية
محمد سهيل احمد: ترجمة العنوان الأدبي بين الجزالة والاخفاق

لاشك ان العنوان الأدبي ــ ولأي جنس ابداعي ــ يشكل أهمية كبرى في اجتذاب القارئ الى النص بحكم كونه بنية صغرى، على حد تعبير الكاتب الراحل محمود عبد الوهاب في إنّ: " العنوان ليس بنية نهائية انما هو بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها، فالعنوان ــ بهذه الكينونة ــ بنية افتقار " ــ كتاب ثريا النص ص 9.
ومع تقدم وسائل الطباعة وتعدد طبعات الكتاب الواحد بحكم تعدد المترجمين، يجد المتلقي نفسه إزاء محصلة تتمثل بتعدد الترجمات واختلافها من مترجم الى آخر مما ينجم عن هذه الظاهرة حصول ردود أفعال من لدن ذلك القارئ المتلقي الذي قد يميز او لا يميز بين الترجمة الصائبة والترجمة الهزيلة من حيث جاذبيتها ودرجة الدقة فيها وهما الخصلتان اللتان تعكسان خبرة المترجم وتماسه مع الجوانب الإبداعية لكل من العنوان والنص.
صدرت رواية الكاتب الامريكي ارنست همنغواي The Old Man and the Sea) بأكثر من عنوان نذكر منهما (الشيخ والبحر) ترجمة منير البعلبكي و(العجوز والبحر) ترجمة محمود حسني وآخرين. لكن أي الترجمتين أفضل من الأخرى؟ أرى شخصيا ان الترجمة الاولى أكثر جزالة من الثانية واقرب الى مناخ الرواية الحافلة بالتحديات التي واجهها سانتياغو من اجل صيد ذكر سمكة (المارلين) والتي ليس بمقدور (عجوز) القيام بها ! ومع ذلك فقد حدثني صديق اديب انه لابأس بالترجمة الثانية بحكم طبيعة التحديت التي دعت سانتياغو لأن يتأخر في الخروج للبحر: التقدم في العمر، افتقاد الصبي (مانوليو) وعوامل مثبطة اخرى. ويبقى لكل من الرأيين حججه وبراهينه.
وفي بعض الاحيان قد لا تكون ترجمة العنوان منطبقة على شخصيات الرواية غير انها، في الوقت نفسه، تبدو اكثر سلاسة وهو ما ينطبق على رواية هوغو الاشهر (البؤساء) والتي تعني (الأقوياء) ولعل ترجمة العنوان ((Les Miserables الى (البائسون) اقرب للدقة بيد ان مفردة البؤساء اكثر سلاسة منها ومن (اهل البؤس) التي اقترحتها شخصيا واجدها أصوب صياغة ؛ من واقع ادراك الفرق بين مفردتي (البأس أي القوة والبؤس بمعنى الشقاء). بينما نجد عنواني رواية ماركيز القصيرة (ليس لدى الكولونيل من يراسله) و(ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) كليهما متقاربتين في تجسيد المفهوم نفسه بحكم ترادف مفردتي المكاتبة والمراسلة على صعيد الدلالة.
جبرا ابراهيم جبرا.. مترجما
اضافة الى كونه كاتبا روائيا مجيدا، فقد تميزت سيرته من خلال ترجماته المقتدرة لمسرحيات شكسبير ونصوص سردية تراوحت بين الرواية والقصة. ما زلت اذكر ترجمته لنص فولكنر السردي (ايلول بلا مطر) وهو النص الذي نشر في احد اعداد مجلة (الأقلام) ولو تتبعنا عنوان القصة الأصلي لوجدنا انه (Dry September) ومعناها الحرفي والمتوفر حاليا في الفيسبوك هو (ايلول الجاف او الناشف) غير انه آثر اختيار الترجمة الأولى لاعتبارات شتى فمن المؤكد انه اعتمد آلية السهل الممتنع الدال في اختيار العنوان الأول، اضافة الى ان اطالة العنوان بواقع ثلاث مفردات جاءت متساوقة مع طبيعة اسلوب فوكنر الذي دأب على كتابة نصوص شديدة الاسهاب. وقد اشار الناقد كونراد ايكن الى اسلوب فوكنر قائلا: " اسلوب فوكنر غابة مملوءة بالمتسلقات والازهار البرية الوحشية التي تبدو لعين المرء متداخلة بجلال لا نهائي ". عالم فوكنر الخاص ـ روبرت كوغلان ص 118 ــ 119.
ويمثل عنوان رواية فوكنر (The Sound and the Fury) المقدرة الفائقة التي تمتع بها كاتب ومترجم كبير مثل جبرا.نجد مبدئيا ان اللغة الانجليزية ــ لغة رواية فوكنر الصخب والعنف ــ تعتمد في بنائها القاموسي على مبدأ تعدد المعاني polysemy حيث تضخ كل مفردة عددا كبيرا من المعاني. وهنا تتضح طبيعة التحدي الذي وجد الراحل جبرا نفسه أمامه ابان ترجمة رواية فوكنر (الصخب والعنف) وهو العنوان الذي اختاره جبرا للترجمة العربية للرواية وجاء اختيارا ذكيا لعنوان باعث على الحيرة كعنوان الرواية ذلك ان المترجم سيجد عددا كبيرا من المعاني والدلالات التي تشع بها مفردة sound : الصوت، الضجيج، الصخب، المضيق، اللسان البحري. أما اذا جاءت هذه الكلمة مفردة سنجد انها تعني : القويم، السوي عقلا او أداء، الراسخ.اما كلمة fury فتعني الروح، المرأة الحقود، العنف، الغضب الشديد. ومعروف ان اللغة العربية ــ على العكس من اللغة الانجليزية ــ تتصف بغزارة المرادفات synonyms فالمطر غير الغيث وغير الوابل وللأسد عدد كبير من المسميات فهو ضرغام واسامة وليث وحيدرة وغيرها في حيت تكاد التسمية نفسها في اللغة الانجليزية بكلمة lion.
ولو جئنا الى رواية همنغواي (لمن تقرع الأجراس) نلاحظ ان العنوان اصلا هو (To Whom the Bell Tolls ) وترجمته الحرفية
هي (لمن يقرع الجرس) مما يشير الى ان المترجم تصرف بالصياغة تصرفا جماليا دون ان يمسخ دلالات العنوان.
ترجمة العنوان ترقى لأن تعد مسعى فنيا لتوفير المعنى المقصود وهي مهمة أي مترجم خبير باللغة الأصلية للنص واللغة التي سيترجم اليها ذلك النص.
***
محمد سهيل احمد